حيْـنَ تودّع الخُـرطـوْم لآءَاتها الثـلاث
(1)
يصادف التاسع والعشرين من أغسطس/آب عام 2020، حلول الذكرى الثالثة والخمسين لقمّة الكرامة العربية المجروحة والتي انعقدت في العاصمة السودانية الخرطوم ، وعرفتها الأمة العربية بإسم "قمّة اللآءات الثلاث". جاء انعقادها بعد نحو شهرين من هزيمة الجيوش العربية فيما عرف بالحرب العربية الإسرائيلية في يونيو من عام 1967، ثم درءاً للحرج أمام الشعوب المغلوبة على أمرها، لم يسمها الزعماء العرب "هزيمة"، بل هي "نكسـة"، أي هي انكسارمؤقت وكبوة طارئة. . !
كانت تلك الـلآءات هي : لا صلح ولا اعتراف ولا تفاوض مع إسرائيل . غير أن الانكسار والانتكاس، لم يقف عند تلك القمة، بل تداعت تلكم اللاءات وجرى نسفها الواحدة تلو الأخرى ، منذ "كامب دافيـد" وحتى "لا الإعتراف" الأخيرة التي يجري توديعها هذه الأيام. نعش اللآءات التي شبعت موتاً ، يتم تشييعه من قبل بعض زعامات عربية ، لم يعش أكثرها جراح الهزيمة المرّة عام 1967، وربما بينهم من لم يولد وقتها. .
(2)
هكذا تتهيّأ الخرطوم عاصمة اللاءات الثلاث، لتفقد تميّزها في التاريخ العربي المعاصر. ليس ذلك فحسب ، بل تسعى إسرائيل للترويج لتطبيع محتمل وقريب الوقوع مع جمهورية السودان حاضنة اللاءات التاريخية، بعد أن بدأ مسلسل الاعتراف بالكيان الصهيوني خجولاً ، ثم ما فتيْ أن خرج إلى العلن ويفاخر به البعض، دون التفات للشعوب العربية لسماع رأيها ودون عزاء لقضية العرب المركزية.
لقاء "عنتيبي" بين رئيس المجلس السيادي في السودان ورئيس الوزراء الإسرائيلي والذي تمّ في فبراير الماضي، أثار جدلاً ساخناً في الساحة السياسية في السودان. ومن عجبٍ أن يروّج بعض المحللين السودانيين أن هنالك إجماعاً من طرف النخب السودانية على تطبيع السودان علاقاته مع إسرائيل، وفي ذلك تجاهل لطبيعة المرحلة الانتقالية التي يدير بها المجلسين السيادي والتنفيذي دفة الحكم ، والمقدر أن ينتهي أجلها بعد نحو عامين. من مهام الفترة الانتقالية في السودان، أن تمهّد للمرحلة القادمة التي ستشهد صياغة دستور جديد مستدام ، وانتخابات تشريعية لبرلمان يختاره الشعب ، ورئاسة تتراضى على طبيعتها القوى السياسية ، ثمّ حكومة تنفيـذية تملك كامل صلاحيات إدارة الدولة وتمسك بيدها ملفاته المصيرية جميعها. لن يكون من صلاحيات الفترة الانتقالية التي يقودها المجلس السيادي الذي يرأسه الجنرال البرهان، والحكومة التي يرأسها دولة رئيس الوزراء حمدوك، ووفق مواثيقها المؤقتة، أن تتجه لمعالجة ملـفات متشعبة داخلياً وخارجياًً، مثل ملف التطبيع مع دولة إسرائيل ، وغيرها من المسائل المصيرية. تتطلب ملفات حسّاسة مثل ملف الاعتراف بدولة إسرائيل، تفويضاً مباشراً تسـتفتي فيه قيادة البلاد شعبها قبل أن تقرّر بشأنه. لا ينبغي أن تغيب عند الرئاستين تلك الصلاحيات المحدودة التي صيغت في الوثيقتين الللتين تحكمان الفترة الانتقالية في السودان، وأجلهما ينتهي بعد نحو عامين . لكن يبدو أن للعجلة في حسم الأمر ما يبررها. .
(3)
لعلّ من الأجندات غير الخفية خلال مسلسل التطبيع الجاري بين دولة إسرائيل وبعض الأطراف العربية في منطقىة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، هي استهدافها أمرين: أولهما هو تعميق الاختلافات بين اللاعبين الرئيسيين في المنطقة ليسهل الصيد في المياه العكرة ، وثانيهما تعزيز بناء أحلاف تواجه بعضها البعض لتصب في ذات الاتجاه .
ليست هي أجندات إسرائيلية فحسب، بل هي أجندات تتبناها أطرافٌ وقوى كبرى وصغرى، لا يخفى حرصها على مصالحها الخفية والمعلنة ، فتجدها تلعب أدواراً يرسمها سماسرة كبار في المجتمع الدولي لتخرج لعبة السياسة من دائرة التنافس الحر إلى دائرة التآمر المخزي . لا يتردّد صاحب "صفقة القرن" من السعي لكسب معركته في خوض الانتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم، عبر غزل صريح بمن يرجّحون الأصوات في تلك الانتخابات. خسر صاحب "الصفقة" أكثر أصوات الأمريكيين من أصول سمراء وبقي له اللوبي اليهودي .
(4)
إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة- سوى إدارة "ترامب" - لم تخفِ ميلا تجاه إسرائيل ، لكنها تمسكت بلعب دور الوسيط في العلن، طيلة تأرجح النزاع العربي الإسرائيلي ، بين احتراب وتفاوض. أما الإدارة الحالية فقد أفرطت في التودّد لإسرائيل، وهي في الحقيقة المروّج الخفي لمساعي التطبيع الجاري بين إسرائيل والعديد من الأطراف العربية، عبر التحفيز حيناً والإبتزاز في أكثر الأحايين. لكأنّ معركة الرجل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر القادم، بين حزبه الجمهوري ومنافسه الحزب الديمقراطي، تستوجب تصفية ملف الصراع العربي الإسرائيلي لصالح تل أبيب ، فيتحقق له كسب أصوات معظم اليهود في الولايات المتحدة . على أن المشهد الأمريكي على الصعيدين الداخلي والخارجي لأكثر تعقيداً مما يبدو، وقد تشتد سخونة هذه المعركة خلال الثلاثة أشهر القادمة فتزداد احتداما والرجل مصمم على الفوز بفترة رئاسية ثانية. . .
(5)
مسلسل التطبيع مع إسرائيل ، ووفق تأكيدات وزير المخابرات الإسرائيلي ايلي كوهين ، من المرجّح أن تكون محطته القادمة هي السودان، وربما تتم قبل نهاية هذا العام. ذلك توقيت لا علاقة له لا بالسودان ولا بإسرائيل، بل بالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ومعروف موعدها نوفمبر/تشرين عام 2020. تمسك الإدارة الأمريكية تحت "ترامب" ما تضغط به على السودان الضغط المؤذي، بما قد لا تملك معه النخبة الحاكمة الآن في الخرطوم، مقاومة تذكر، إلا أن لشارع الثورة السودانية صوته الذي له الاعتبار .
(6)
إنّ التركة المثقلة بسوءِ الإدارة والفساد والإفلاس ، والتي ورثتها حكومة الثورة السودانية بعد أن أسقط حراكها نظام الطاغية البشير في أبريل من عام 2019 ، قد تترك النظام الجديد في هشاشة تغري اصابع أجنبية بالتدخل في خياراته . لربما لن يكون أمام حكومة السودان بمكونيها العسكريّ والمدنيّ، إلا الإذعان لضغوطٍ ستقوده حتماً للسقوط في فخاخ الأحلاف القائمة في إقليمه ، وأيضا في ابتزازه للقبول بضغوط كاسحة تفضي به لتطبيع قسريٍّ مع دولة إسرائيل . إنّ تطبيع العلاقات السودانية الإسرائيلية الذي يلوح في الأفق ، قد يكون ثمناً مطلوباً لرفع إسم دولة السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب. تلك هي لعبة السياسة الضرب فيها فوق الحزام وأيضا تحت الحزام ، وربما بمشاركة حكّام اللعبة أنفسهم. .
الخرطوم 17/8/2020