الاستقطاب السياسي وانعكاس حالة الضعف

 


 

 

 

عندما تصبح وتيرة الاستقطاب السياسي متسارعة بين القوى السياسية، في ظرف اجتماعي و سياسي يحتاج لتوافق وطني للخروج من الآزمات المتلاحقة التي تقبض خناق بعضها البعض، يعكس حالة الضعف التي تعيشها القوى السياسية، و يرجع إصابة القوى السياسية بحالة الضعف لأسباب عديدة، منها طول فترة الديكتاتورية التي تهدم صروح القوى السياسية، و تعمل علي تشقيقها، و تطارد مؤسساتها القمعية العناصر ذات القدرات الفكرية و الإبداعية، إلي جانب تقليص مساحة الحريات، و تدهور مستوى التعليم في البلاد، و الذي يضعف بدوره الجانب المعرفي في الوسط السياسي و الثقافي، و تغيب النشاطات السياسية و الثقافية في الجامعات، و جميع أماكن التحصيل العلمي، و في المؤسسات الحزبية، الأمر الذي يغيب العقل المفكر، و يمهد لصعود قيادة لقمة الأحزاب كانت مستغلة في أعمال تنفيذية، هؤلاء أغلبيتهم وجدوا أنفسهم في مواقع لا يستطيعون ملأها لتواضع قدراتهم، لذلك يحاولون ملأ الفراغات الثقافية التي تحتاج إلي إنتاج فكري و ثقافي في مجالات الإبداع و الفنون بالشعارات، و ربما لا تتلاءم هذه الشعارات بالمرحلة، الأمر الذي يزيد من حالة الاستقطاب في المجتمع وفقا لهذه الشعارات التي ربما تحمل مضامين مأزومة.

رغم تباين المواقف في مسودة السلام التي تم توقيعها بالأحرف الأولي بين الحكومة و الجبهة الثورية، لكنها تعتبر خطوة مهمة كمدخل لعملية السلام في البلاد، و يمكن تطويرها باستمرار لكي تحقق السلام و الاستقرار الاجتماعي، و بعد التوقيع بساعات يفاجئ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الجميع ما عدا الحزب الشيوعي بالذهاب إلي أديس أبابا ليوقع علي مسودة تفاهم مع الحركة الشعبية " الحلو" و أهم فقرة فيها و تثير الخلاف هي " فصل الدين عن الدولة" لكي يثبت وجوده في السلطة بعد ما كان غائبا شخصيا عن محادثات السلام في جوبا، و يذهب لأديس أبابا دون أن تكون هناك أي أشارات سابقة أن هناك لقاء قادم يدعم عملية السلام، و القوى السياسية الوحيدة التي كانت علي علم باللقاء هي الحزب الشيوعي، الذي ذهبت قيادته لأديس لمقابلة الحلو هناك، و توقع معه علي " مسودة تفاهم" مما يوضح حالة الشرخ المتعرج بين مكونات السلطة، " الحاضنة السياسية و مجلسي الوزراء و السيادي" و يؤكد ذلك أن واحدة من معضلات السياسة في السودان عدم الوضوح، و الاعتماد علي طبخ القضايا بليل، و في غرف مغلقة، ثم تطرح في الساحة السياسية كشروط للفعل السياسي، مثل هذه الأفعال تعتبر منقصات لعملية التحول الديمقراطي في البلاد، و تؤدي لتعقيدات في العمل السياسي. و تفتح باب الاستقطاب بين الكونات السياسية.
إذا نظرنا إلي "مسودة الاتفاق" التي تم توقيع عليها بين الحزب الشيوعي و الحركة الشعبية " الحلو" أهم فقرة فيها التي تقول " أعلن الطرفان رفضهم لـ "إقحام واستغلال الدين في السياسة واضفاء قدسية زائفة على برامج سياسية اجتماعية لقوى وأحزاب سياسية تعبر عن مصالح دنيوية لقوى اجتماعية محدودة للاستئثار بالسلطة والثروة على حساب أغلبية الشعب العامل في الإنتاج وضرورة فصل الدين عن الدولة." هذه الفقرة تعكس حالة التراجع في الذهنية لقيادة الحزب الشيوعي. في عام 1994م عندما كان "التجمع الوطني الديمقراطي" يقود المعارضة ضد نظام الإنقاذ عقد اجتماع لقيادات المعارضة في عاصمة كينيا " نيروبي" حضرتها أغلبية قيادات القوى السياسية للبحث في قضية " فصل الدين عن الدولة" و كان الدكتور جون قرنق حاضرا، إلي جانب؛ الراحل التجاني الطيب و فاروق أبوعيسى و هاشم محمد أحمد من الحزب الشيوعي، إلي جانب ممثلي القوى الأخرى، و توصل الاجتماعي كمخرج للقضية، أن يكون السودان دولة مدنية ديمقراطية، و المواطنة كحق اصيل في الحقوق و الواجبات، و لا يأخذ بأي قانون معارض لمباديء حقوق الإنسان المضمنة في المواثيق الدولية للأمم المتحدة. ثم تحدث السكرتير السابق للحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد في العديد من اللقاءات الإعلامية و الصحفية عن " الدولة المدنية الديمقراطية، كمخرج لقضية " فصل الدين عن الدولة" و ذلك يعود لفهمه للواقع السوداني و مكوناته. و ترتد القيادة الشيوعية لنقطة الخلاف، تبين غياب العقل المفكر، خاصة أن الحاضنين الفكر الأرثوذكسي الاستاليني قوة محافظة عاجز أن تجاري التغييرات التي تحدث حتى في تطور و فهم الماركسية من قبل مفكرين من ضمنهم مجموعة "معهد فرانكفورت" و هي المعضلة التي تواجه الماركسيين. أن الدعوات التي كانت تنادي بأحداث تغيير داخل الحزب حتى تعطيه القدرة علي التمدد في الوسط الاجتماعي يشمل كل الطبقات.
الملاحظ: في مسيرة اليسار ليس في السودان فحسب، بل حتى في المنطقة العربية، عجز عن تفهم الفرق بين الإسلام السياسي و استفادته من المكون الديني الثقافي في المنطقة، و الإسلام باعتباره يشكل ثقافة الأغلبية في المنطقة، و كيفية التفريق بينهما. عندما يتحول الدين أو أي ممارسات اجتماعية لثقافة شعبية، يصعب إزالتها أو محاربتها، و أكبر عامل لسقوط الاتحاد السوفيتي ليس بسبب حرب الغرب عليه، أنما لأسباب ثقافية لشعوب اعتقدت تم إهمال ثقافتها، فضعف الاتحاد السوفيتي من داخله، و عندما أعلن غورباتشوف البيريسترويكا و جلاسنوست، استغلت في المطالبة بالحقوق الثقافية لمكونات الاتحاد السوفيتي، فكان الإنهيار للدولة الاتحادية من الداخل. و كل السودانيون الذين يعيشون في الغرب يعلمون ليس هناك إشكال في ممارسة ثقافتهم، لكن هذا الحق يتعلق بالمكون، لكن الدولة لا تعطي الشعب إجازة لعيد الفطر للمسلمين و لا في عيد الأضحى و لا حتى لليهود، لكنها تعطي إجازة في "أعياد الكريسمس" باعتباره دين الأغلبية، و أيضا أصبح ثقافة عامة للشعب، و ليس الكرسميس فقط حتى " Good Friday " و هي مرتبطة بالدين المسيحي، و هي أصبحت ثقافة شعبية حتى للذين يعتقدون أنفسهم لا دينيين. و في خمسينيات و ستينيات القرن الماضي، ظهرت مقولات ما يسمى بسودنة الماركسية، حتى لا تتعارض مع الثقافة الشعبية. استطاعت النخبة الشيوعية توظيفها حتى لا تجعل الحزب في موقف مناهض لثقافة الأغلبية في المجتمع، بل كان التصور كيف التوافق معها. الأمر الذي جعل للحزب دورا كبيرا في المجتمع، ليس فقط في الجانب السياسي، بل في كل جوانب الفنون و الإبداع، و يرجع ذلك لدور قيادة العقل المفكر في التنظيم التي تشكل غيابا تماما، بعد عمليات الفصل التي جرت للعديد منهم.
و إذا انتقلنا للجانب السياسي، ذكرت في مقالات عديدة من قبل، إذا فشلت الفترة الانتقالية؛ سوف يتحمل الحزب الشيوعي مسؤولية هذا الفشل، الشارع لا يفرق بين شيوعي و شيوعي سابق. و من هذا المنظار، كانت القيادة في الحزب الشيوعي تدرك ذلك. فإذا كان رئيس الوزراء قد وقع مع الحلو "فصل الدين عن الدولة" كان علي الحزب الشيوعي ينتظر ردة الفعل لهذا الاتفاق، لكنه فضل عملية الاستقطاب، و وقع اتفاق مع الحلو علي ذات مضامين اتفاق رئيس الوزراء، و بهذا الاتفاق يحتضن الحزب الشيوعي اتفاق رئيس الوزراء، الأمر الذي يحمله مسؤوليته. و أيضا يعود ذلك لغياب الرؤية، و وضع الحزب في تحدى مع الثقافة الشعبية. أن من إشكاليات الاستقطاب الأيديولوجي يهمل العديد من العوامل المؤثرة في القناعات الشعبية، لذلك يهم الكل أن يكون للحزب الشيوعي دورا مهما في عملية التحول الديمقراطي، و ينظر لهذا الدور من خلال قراءة الواقع و الثقافة الاجتماعية، و إخرج الشعارات التي تتلاءم معها. و ليس النظر للمشكل فقط من باب الصراع السياسي مع الإسلام السياسي. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء