توازن القوى بين الثورة والثورة المضادة

 


 

د. النور حمد
18 September, 2020

 


صحيفة التيار 18 سبتمبر 2020
لم يحدث في التاريخ أن كانت هناك ثورة مكتملة انتصرت وحققت أهدافها في ضربةٍ واحدة. فالثورة بناء يجري تشييده لبنةً، لبنةً وليست انفجارًا يحدث في ثوان، ثم يعم الصمت المكان، وحين يفيق الناس من صدمة الانفجار، يجدون أنفسهم في خَلْقٍ جديد. فالثورة فعل تراكمي ولذلك فإن ما يسمى بالثورات الفاشلة في التاريخ ليست، في حقيقة الأمر، سوى مراحل من بنية ثورةٍ ناجحةٍ أتت لاحقا. وفقا لهذا المفهوم، فإنني أنظر إلى ثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985 بوصفهما محاولتين فاشلتين لإحداث التغيير الجذري، لكنهما وضعتا البلاد، على عتبة المحاولة الثالثة الناجحة، التي أتت بعد كل تلك العقود الممتدة التي أمضتها الدولة السودانية في التراجع المستمر. غير أن المحاولة الثالثة، الجارية الآن، لا تعد ناجحةً لمجرد أنها قد حدث وأزالت قمة هيكل النظام القديم. فجسد النظام القديم وعقلية النظام القديم لا تزالان تسيطران على مجريات الأمور. بل إن عقلية النظام القديم منتشرة حتى وسط من يتصدون لقيادة الثورة حاليا. وهذا أمر قد أخذ يتبدى للناس كل صبحٍ جديد.
لقد قيض لله لهذه الثورة المباركة توازنًا مثاليًا للقوى. والذين يرون المشهد من زاوية واحدة لا يلقون بالا إلى عنصر توازن القوى وأهميته في هذه المرحلة المفصلية الحرجة من مجمل حراك التغيير السوداني، الذي لم يتوقف منذ الاستقلال. لقد كان من الممكن، لولا وجود قوى عسكرية متعددة، متضاربة الأهداف، أن يسحق تحالف المصالح الحاكم، الثورة عبر الخطة الموضوعة لقتل عشرات الآلاف. وكما رأينا، فقد أخذ الرئيس المخلوع الفتوى بذلك من علماء السوء. لقد أتاح توازن القوى العسكرية الذي حيد القوة الغاشمة للرئيس المخلوع ورهطه، مساحةً جديدة للثورة لتتحرك فيها. لذلك حين جرى فض الاعتصام، الذي ظن معدوه أنه الضربة القاصمة، كانت الثورة لا تزال محتفظةً بقواها سالمة؛ حسيًّا ومعنويًا، فأخرجت مليونية 30 يونيو التي أجهضت الانقلاب على الثورة وأبطلت محاولة تتويج جنرالٍ جديد. غير أن سيناريو رابعة العدوية لم يمت بعد. فقد أخذ أهله ينضجونه على نارٍ هادئة، عبر التخريب الاقتصادي وخنق الناس في معاشهم. وقد أدى هذا أيضًا إلى تعادل قوى جديد. فالثورة لا تنجح لمجرد أن عينها مصوبةٌ على تحالف الثورة المضادة؛ في شقيه العسكري والمدني، وحسب وإنما ينبغي أن تكون عينها مصوَّبةً، أيضًا، على من أخذوا يقودون الثورة بأساليب ماكرةٍ خبيثة. فالخطر على هؤلاء من الثورة قائمٌ، مثلما هو قائمٌ من أولئك.
لقد تمكنت قوى الثورة المضادة، وهي قوى مدنية، أن تقضي على ثورة أكتوبر 1964 في بضعة أشهر. كما تمكنت نفس تلك القوى المدنية من جعل الفترة الانتقالية لثورة أبريل 1985 ذات العام الواحد، فترة خاملة مجردةً من أي إنجاز ثوري، لتعود بعدها العقلية السابقة لنظام مايو لتسيطر من جديد. علينا أن نفكر في توازن القوى بعقلية ترى التركيب والتعقيد الكبير في المشهد السياسي الراهن. ليس من مصلحة الثورة أن تعادي الجميع في آن معًا، لأن هذا يخل بتوازن القوى. واختلال توازن القوى في الظرف الراهن هو الثغرة التي ينفذ منها كارهو الثورة لإجهاضها. هذا المشهد المركب، المعقد، بفترته الانتقالية التي تمددت لأربع سنوات هبةٌ من السماء. فشراء الوقت الآن في مصلحة كثير من القوى الفاعلة المؤثرة، وهذا يتيح فرصًا للمراجعات، ولبروز عوامل داخلية وخارجية جديدة في الصورة.

 

آراء