الكَراسِي البِلُوح قِندَيلا
نحن أضعف (خلق الله إنسانا) إزاء السلطة وبريقها وصولجانها. نحبها حباً جماً وندَّعي البراءة. ليتنا اعترفنا بهذه الخطيئة التي رزحنا في جحيمها زمناً طويلاً. فلربما فتح الاعتراف لنا بابين، الأول لمعرفة الأسباب، والآخر لاستكناه الحلول. لكن الذي لن ينتطح فيه عنزان، هو تفسير الظاهرة بواحدٍ من اثنين، إما لأسباب نفسية (سايكولوجية) أو نتيجة لعوامل سلوكية اجتماعية تربوية. وأياً كانت المبررات فمن المؤكد أن وراء هذه الخطيئة تكمن أزمة الحكم في البلاد، والتي ظننا أنها سياسية وتنكبنا جراءها السبل منذ الاستقلال، أي منذ أكثر من ستة عقود زمنية، توهاناً في ذات الحلقة الثلاثية الشريرة. كل ما توسمنا خيراً في انجلاء ليلنا البهيم، أسفر عن صبح ولم يك بأمثل!
كان القائد الأممي العقيد معمر القذافي قد قال في إحدى تجلياته العبقرية إن تعريب مصطلح الديمقراطية اليوناني الأصل، يعني (ديمومة الجلوس على الكراسي) وكأني بالعقيد خرج من خيمته عارياً يومذاك، وهو يصيح وجدتها، كما أرخميدس. وحتى يقرن القول بالفعل طبَّق ما توصل إليه عملياً، إلى أن تمَّ اقتلاعه من كرسي السلطة اقتلاعاً، وختم حياته بنهاية درامية مؤلمة يخشاها أي ديكتاتور مثله. مع ذلك فكثيراً ما داهمني الوسواس الخناس الذي طالما قال لي إن القائد المُلهَم كان يعنينا بذلك التفسير العبقري، لدرجة بت أتحسس فيها الكرسي الذي أجلس عليه كلما سمعت كلمة ديمقراطية!
تبعاً لتلك الخطيئة، ليتنا اعترفنا أيضاً بأخرى تؤكد أننا لا نشبه هذا الجيل من الشباب الذين صنعوا ثورة ديسمبر العظيمة. فلو كنا نشبههم لما تقاعسنا لأكثر من عام دون أن نهتدي للجناة الذين قتلوهم بدم بارد. ولو كنا نشبههم لوارينا أنفسنا الثرى قبل أن نتوارى خجلاً من مئات الجثث المكدسة في المشارح منذ فض الاعتصام. ولو كنا نشبههم لحققنا لهم ما قدموا أرواحهم من أجله وصاغوه في شعارات بلسان ثوري مبين. ولو كنا نشبههم لما صبرنا على أذى الفلول وهم يمدون لنا ألسنتهم سخريةً واستهزاءً. ولو كنا نشبههم لما تركنا زبانية الدنيا يتحكمون في الأسواق ويستبيحون الإعلام ويديرون عجلة الدولة. ولو كنا نشبههم لما اشبعنا وثيقة من بضع صفحات خرقاً حتى تململت أرواحهم في قبورها!
ليت الأمر توقف عند حدود الاعتراف بالخطيئة أو التشبه بالشهداء الكرام. فقد بتنا نسمع حديثاً عجباً، يروج له ثلة من المناضلين الذين اصطفوا خلف ترهاتهم، يحذروننا من مغبة ممارسة العزل السياسي ضد فلول النظام البائد، بمبررات سخيفة، يظنون أنها يمكن أن تدرأ عنهم شبهة التهافت المريع. هم يريدون أن يكافئوا الجلاد بكل صلفه وغروره وعنجهيته، ويطلبون من الضحية أن تنكفي على نفسها وتجتر سنواتهم العجاف، تلك التي هُلك فيها الزرع وجفَّ الضرع وتضورت البلاد ظمأً ومسغبة. بل يطلبون ما هو أفظع، بنسيان دم الشهداء وأنين الجرحى وعذاب المفقودين. باختصار يطلبون أن نكون شركاء في مجزرة الثورة، لا شهوداً على مجزرة القيادة!
لم يحدثوننا عن القيم التي بذرتها ثورة ديسمبر في الأرض اليباب، وعوضاً عن ذلك بات أحدهم يحدثنا عن قوة من يسميهم (الإسلاميين الذين لا يمكن إبعادهم من السلطة) لماذا يا مولاي؟ لأنهم بحسب وجهة نظره (حكموا البلاد ثلاثين عاماً ويمتلكون المال والتدريب والسلاح) ولكن نحن نمتلك المليونيات. وثمة واحدٌ آخر طالما شنَّف آذاننا بذات المنولوج الداعي إلى عدم إقصاء (الإسلاميين) لماذا يا سيدي؟ لأن بعضهم شركاء في التغيير كما يقول، وعندما ملَّ ترديد سيمفونيته، جاء يحدثنا عن ضرورة أن نعطي العسكريين خدنا الأيسر كلما صفعونا على خدنا الأيمن. وأنه ينبغي أن نحاورهم لأنهم بحسب خزعبلاته (جزء مهم في المعادلة) ويزيد بالغزل في جنرال الدعم السريع ويقول لولاه لما استطعنا الإطاحة بنظام العصبة. هكذا هم المُولِهون بالإسلامويين يذبحوننا كل يوم ونحن صامتون!
ليس هؤلاء فحسب فهناك خليط من الحربائيين وجدوا في انتهاك الحريات ضالتهم، وهم الذين كادوا أن ينزلقوا في مصيدة ما يُسمى (الهبوط الناعم) قبيل الثورة بأيامٍ معدودات. عوضاً عن أن يأووا إلى كهف يُكفِّرون فيه سيئاتهم ويعتذرون للثورة التي أنقذتهم من مستنقع (تامبو أمبيكي) جاءوا بعدتهم وعتادهم لهبوط آثم هذه المرة. انضم إليهم سواقط الأبالسة ممن جُبل على حب السلطة ولا يطيقون منها فطاماً، إذ يطيب لهم أن يؤذوننا بمقولة (الوطن يسع الجميع) وتوهموا أنهم لمجرد أن غادروا المركب الغارقة في الساعة الخامسة والعشرين فقد اغتسلوا من جنابتهم!
ثمة سؤال بسيط يمثل القاسم المشترك الأعظم بين هذه الفئات: لماذا اندلعت الثورة في الأساس؟ فإن قالوا لنا إنها اندلعت من أجل الحرية سنقول لهم الحرية لا تُمنح جُزافاً لمن انتهكها قتلاً وتنكيلاً وتعذيباً. وإن قالوا إنها اندلعت من أجل العدالة سنقول لهم وفيم العجلة؟ صبرنا على غيابها ثلاثين عاماً على أيديكم، فلماذا لا تصبروا قليلاً حتى نبني أركانها لكي لا يُظلم عندها أحد. وإن قالوا إنها اندلعت من أجل السلام سنقول لهم وأين هو السلام؟ دلونا على نص واحد في ما وقعتموه من اتفاقيات أو بروتوكولات تقتص للشهداء حقوقهم وتضعهم في سدرة العليين التي يستحقونها!
قال مارتن لوثر كينج إن أسوأ مكان في الجحيم محجوزٌ لهؤلاء الذين يبقون على الحياد في أوقات المعارك الأخلاقية العظيمة، واقع الأمر أن الذين يدعون لعدم الإقصاء والعزل السياسي يُخطئون ثلاثاً: أولاً: حينما يحسبوننا نحن الجناة، والذين يبكون من أجلهم هم الأبرياء. وثانياً: يخطئون عندما يسبقون التحقيقات التي يفترض أنها جارية لمعرفة البريء من المذنب. وثالثاً: يخطئون عندما يمنون علينا بأنهم عصموا دماءنا مع أنهم أهدروها والشمس في كبد السماء. لماذا يستهينون بقوة الجماهير التي زلزلت الأرض وحسمت خيارها؟ لماذا لا ينتقدون هيمنة العسكر وبقية القوى النظامية على الاقتصاد، وما تزال شكوى رئيس الوزراء معلقةً في الهواء؟ لماذا لا ينتقدون تغول كبيرهم على السلطة عنوةً واقتداراً؟
يا سادتي.. لسنا في أزمة سياسية كما يتهيأ لبعض الناس، إنها أزمة أخلاقية.. أزمة الضمير الغائب كلما طلَّت في الأفق الكراسي البِلوح قنديلا.. فهل عجزنا أن نداري سوءتنا؟!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
faldaw@hotmail.com