كما نمّطت القنوات الرياضية لعشاق كرة القدم لقاء برشلونة ومدريد بـ"
كلاسيكو الأرض" أغرقتنا القنوات الإخبارية في لجّة الإنتخابات الأميركية لكأنها "كلاسيكو الكون" السياسي. ربما يتسلسل الكلاسكويان في فرضية قيمة مفقودة لأسباب غير ما يشي به ظاهرهما. فكما مدريد وبرشلونة ليستا أفضل فرق الأرض الكروية فالحزبان الجمهوري والديمقراطي ليستا أفضل المؤسسات الساسية في الكون. ربما اكتسب برشلونة ومدريد جاذبيتهما عبر المعمورة من بريق نجوم من طراز ميسي ورونالدو. لكن حتماً لا يوجد في حزبي أميركا نجم سياسي بثقل ميسي ورونالدو داخل الملعب السياسي. كلا المرشحين الجمهوري والديمقراطي"مظراط و................ " بالطبع اسبانيا لا تجسد مركز الثقل الكروي عالمياً لكنما أميركا هي القابضة على أزرار مفاتيح الحرب والسلام عبر العالم. *** *** *** المفارقة الصارخة في انتخابات أميركا تشخص في تناقض مثير. ثمة إجماع غالب على ارتفاع حمى المنافسة على نحو استثنائي. تلك حقيقة تكرّسها كثافة حملات المرشحين بلإضافة إلى تدافع الناخبين .إلا أن المرشحين أبهت ما يكون طراز الكاريزما، بؤس الأداء، جاذبية الخطابة والطرح السياسي. هكذا تقدم أميركا نسقاً متفرداً من الإرباك والفوضى على المسرح السياسي العالمي المفتوح. تفردٌ مصبوغٌ بتناقضات ليس غير. من فرط بهاء ذلك التناقض يسقط فيه العالم طوعاً ميسراً.نحن كما عديدٌ من شعوب العالم تترقب نتائج انتخابات الرئاسة الأميركية شوقاً إلى تغيير مرتجى. لكن المرشحين يذهبان في إتجاه واحد ليس فيه قليل من ذلك الوهم المرتقب. *** *** *** قضايانا على الساحة العالمية لا تشغل بال عشرة بالمئة من الناخبين الأميركين. هم لهم من الإهتمامات على جبهات الإقتصاد، الصحة، التعليم، والأجندة الإجتماعية ما يشغلهم عنّا. البنتاغون حين يقرر إرسال جنود إلى أي بقعة في الأرض تأمينا لمصالحه أوبغية تحقيق مكاسب لا يلتفت إلى الرأي العام طويلا. تركيزه ينصب على الصدى في أجهزة الإعلام. ذلك ما حدث في حالات البوسنة، الصومال، أفغانستان، هاييتي والعراق. الأميركيون يدركون مغبة مغامرة البنتاغون حينما يرتفع معدل عودة التوابيت من بؤرالقتال. *** *** *** انتخابات التجديد تتخذ دوماً طابع الإستفتاء على أداءالرئيس وقتئذٍ. المنافس من الحزب الآخر يضطلع بهمة الإطاحة بالرئيس. أداء ترامب في ولايته الأولى اتسم بالبؤس غير أن اختيار الحزب الديمقراطي لم يكن موفقاً. لذلك غلب التأرجح على الحسم في نتائج الإقتراع. من يمن طالع بايدن عثورهم دونما مشقة على وفرة للنبش والحفر بغية الإطاحة بالرئيس بلا مشقة. بالإضافة إلى إخفاقات جمّة على صعد متباينة تكالبت ظروف بعينها ضد الجمهوريين. لعل أبرزها حدوث ممارسات عنف الشرطة العنصرية ضد السود وانفجار وباء كورونا. عنف الشرطة أضاف طبقة بغيضة على سور ترمب على الحدود المشتركة مع المكسيك. خطوات ألّبت قطعات ذات ثقل من الكتل الديموغرافية الأميركية ضد ترامب. أسلوب لا مبالاته تجاه الكورونا أفقده قطاعاً عريضاً من المسنين والمتقاعدين في الولايات ذات الكثافة السكانية العالية. بايدن لم يكن مطالباً بالكثير من الجهد لكسب هذا الرصيد الجاهز من الأصوات. ** *** *** وسط عاصفة من التذمر تجاه أداء ترامب أخذت شعبيته في التآءكل. فبينما أختزل رجل تلفزيون الواقع رحلة الصعود السياسية توثّباً، شاهد العالم بأسره تدرّج هبوطه لجهة القاع مع بدء العد التنازلي لولايته الأولى. كسر ترامب التوقعات إبان صعوده المباغت إلى المكتب البيضاوي لأنه كسر صورة السياسي النمطية في المخيلة الأميركية. لكنه بدلاً من ترسيخ تلك الصورة، دفعه مجمل أدائه الرئاسي في إتجاه معاكس. حتى قبيل رفع الستارعن الفصل قبل الأخير من الحملة الإنتخابية بدأ ترامب يحوّل العرض الديمقراطي إلى ملهاة من قماشة تجارب العالم الثالث المثيرة للسخرية. في مظاهر تراوح بين عنف الشوارع، اقتحام مراكز الفرز والمحاججات القانونية هبط أداء أنصار ترامب حد ابتذال التجربة الديمقراطية وتشويهها برمتها. *** *** *** هكذا أمسى ترامب الرئيس يناطح ترامب المرشح مفسحاً المشد مفتوحاً أمام المرشح الديمقراطي يستثمر في هامش الصدام الجمهوري. فبايدن لم يرهق دماغه في البحث والتنقيب السياسيى إذ اكتفى ببناء حملته الإنتخابية على محور وحيد؛ فجعل خطايا ترامب جسر العبور إلى البيت الأبيض. الحملة الديمقراطية تركزت فقط على تصحيح ما ارتكبه ترامب في السنوات الأربع الأخيرة في الداخل والخارج. بغية استقطاب المستقلين حيّدت الحملة الديمقراطية كل القضايا المثيرة للجدل وركزت على معالجة ترامب لوباء الكورونا بعيداً عن الأروقة العلمية والطبية. على نقيض ما يبدو الرئيس دوماً في انتخابات نهاية الولاية الأولى منافساً غير قابل للهزيمة فقد ظهر ترامب منافسا غير مؤهل للفوز. *** *** *** هذه المعركة الإنتخابية تميزت بحزمة من الأرقام القياسية الإستثنائية؛ بذل قادة الحملتين المرهق، حجم التمويل، الإقبال الكثيف على الإقتراع، كسب المرشح الديمقراطي من الأصوات. هذه نتيجة باهرة لا تفصح عن واقع تدني مستوى عرض الكلاسيكو السياسي وبهتان نجوميته. فالخوف من خشونة ترامب دفع الجماهير إلى هجر مقاعد الفرجة والنزول إلى الملعب. تفوق بايدن في كسب الأصوات لا يعني علو كعبه السياسي. بل هو أكثر من ذلك نتيجة منطقية لضعف الخصم. *** *** *** الأميركيون يدخلون في غضون الشهرين المقبلين نفقاً عتماً قبل خروج ترامب من البيت الأبيض وولوج بايدن. هو نفق يكتنفه الرعب من نوبات شغب وعنف بالإضافة إلى هواجس من رد فعل ترامب المسكون بشعور الهزيمة والغضب. هو نفق ملبّد بالخوف من وباء كورونا. في هذه الأثناء ينكب بناة الإدارة الديمقراطية الجديدة على رسم كيفية إعادة بناء جسرعابر إلى الضفة الشرقية من الأطلسي، ترميم جسر آمنٍ مع الصين. بينما تترقب عواصم وشعوب عديدة مبادرات أميركية جديدة تصلح ما أفسده ترامب أو تعزز ما أحدثه. كيفما جاءت مبادرات الديمقراطيين فهي لن تبرأ كالعادة من جدل الرفض والقبول في الداخل والخارج. ما مايز ترامب عن سابقيه إعتماده على رؤاه الذاتية في تسيير ولايته. العالم لم يعرف في ولايته كما دأب " رجال الرئيس" أو شخصية نافذة من طرازهنري كسينغر، جيمس بيكر، ديك شيني ، مادلين البرايت وكونداليزارايز في منصب مستشار الأمن القومي، وزير الخارجية أو وزير الدفاع.كثيرمن الوجوه هربت من إدارته. لعل أبرزها جون بولتون صاحب " الغرفة التي شهدت الأحداث" ربما هي نهاية منطقية لعرض أحد ممثلي تلفزيون الواقع غير المحترفين في أداء منفرد.بالتأكيد هي خاتمة تراجيدية لرجل لا يرى نفسه مطلقاً في خندق الهزيمة. *** *** ***