بانوراما في رحيله الفادح: ما بين دريسة الهلال ودريسة الحزب !!
رحيل دريسة شكل بالنسبة لي (أم المفاجآت) في الرحيل الذي ظل يسرع الخطى بأعداد لا يستهان بها من عضوية حزبنا مؤخراً، بالتحديد في هذه السنة الشؤوم، ونسبة لتعودنا فيها على توقع الموت من بين أوساطنا، فقد ظللت أسجل أعداد وأسماء الراحلين منهم، وعندما وصل العدد إلى الراحل د. أسامة الفيل بالرقم الأخير من الذين رحلوا، قلت لأكتب الرقم التالي وانتظر!، فهذا شهر كابس في سنة كبيسة ولن ينقضي دون أن يطوي حياة أحدنا، وفضلت منتظراً بتوقع مشوب بالأسف واللوعة!، ولم أكن أعلم أو أتوقع قط أن المعني سيكون (دريسة)!.
حيث رحل قبله عدد من الزملاء والزميلات منهم:ـ ( عمر العالم، حسن قسم السيد، جلال إسماعيل ، عمر الحلاق، د. بيطري محمد عربي،، صلاح حسن طه، عبد الدافع دفع الله، مصطفى عكاز، أحمد علي قوي، د. علي نور الجليل، كمال حسين، زينب بدر الدين، كمال النور سوار الدهب، حسن العبيد، عبد الله خليفة السفاح، التوم النتيفة، عبد المنعم السوداني، أحمد المصطفى أبو عاقلة، فاروق أبو عيسى، ثريا التهامي، محمد عز الدين، حسن شمت، خالد العبيد، د. أسامة الفيل)!. عليهم جميعاً الرحمة والمغفرة.
أستطيع أن أشير إلى أن أحد الأسباب الأساسية في رحيل هذا الكم الهائل من الزملاء والزميلات الذين واللاتي شكلوا عصب التفاني والاخلاص والوفاء داخل الحزب لأجل الشعب والوطن، هو أنهم قد أفنوا سلفاً زهرة أعمارهم الندية فداءاً وتضحية، لا ينامون إلا القليل من الساعات، لا يأكلون إلا ما يقيم الأود، لا يمتلكون إلا ما هو أساسي للحياة، لايلتفتون لصحتهم والعناية بأمور أمراضهم المتلتلة إلا بالمباصرة ريثما يمنحهم الدواء فسحة قليلة من وقت، ليس ليستجموا فيه من عناء تنفيذ تكاليفهم الحزبية كواجبات لا يتقدمها واجب!، بل لكي يواصلوا مشاوير حياتهم اليومية لتكون لهم في خدمة شعبهم عرق!.
أما دريسة فلم أكن أتوقع ولو للحظة أن اسمه سيحتل ذاك الرقم الذي سطرته وقبعت أنتظر بتوقع مشوب بالأسف واللوعة!، ليس لأن دريسة أقل عن من رحلوا جهداً وتفاني، لا ،، بل إنما كنت اراه الأصغر عمراً، من ناحية وأن أمثاله لا يرحلون بمثل هذه السرعة!، وهو الممتلئ صحة وحيوية ونشاطاً وشباباً!.
دريسة دفعتنا في مرحلة الدراسة الثانوية، وقد جاء إلينا وانتظم في مدرسة الأحفاد الثانوية وهو عامل في السكة حديد، حيث كانت له عليه الرحمة ميولاً ومثابرة في تأهيل نفسه أكاديمياً، فانتظم طالباً بعد فترة انقطاع عن الدراسة، وكنا وقتذاك ضمن جيل الحركة الطلابية التي كسرت لأول مرة حواجز التردد وخرجت بمواكبها الشهيرة تنديداً بزيادات سعر السكر وبعض المواد التموينية الأخرى، ضمن السياسات الاقتصادية لمايو والنميري عام 1973، وهي مظاهرات لم يشهدها الشارع السوداني منذ أحداث ودنوباوي والجزيرة أبا وانقلاب 19 يوليو عام 1971، وكانت قيادات هذه الحركة تضم عدداً من مدارس الثانويات بنين وبنات وضمنهم عدد من الشيوعيين وأعضاء الجباه الديمقراطية بالثانويات، حيث كان كل من الراحل دريسة وعوض نوبة من مدرسة الأحفاد، الراحل علي السيد من الخرطوم القديمة، ماضي أبو العزائم والراحل عبد الوهاب قباني ومحمد شمس المعارف وضمنهم أنا من بيت الأمانة، ناصر المك وعبد المنعم الجزولي ومامون الرشد نايل من محمد حسين، الراحل مزمل تبيدي وخالد عثمان محجوب من المؤتمر، حسن عثمان من الخرطوم الجديدة وكل من محاسن النقر وأسماء عطية من الأم بنات، كانت هذه بعض القيادات التي أسعفتني بهم الذاكرة!.
ومنذ تلك المظاهرات والمواكب التي انطلقت بالعاصمة، فقد انفجرت احتجاجات الحركة الطلابية في كل مسام البلاد عبر المدن التي شملت كل المراحل الدراسية، ليتطور شكل الاحتجاج بالاعتصامات الشهيرة التي احتل فيها طلاب الثانويات مدارسهم لمدة أسبوع كامل تعطلت فيها الدراسة ودخلت جماهير الطلاب في تحدي ومقاومة لنظام النميري حيث كان المطلب الأساسي هو حل وحدات الاتحاد الاشتراكي كتنظيم سياسي وحيد بالثانويات والمطالبة بحرية النشاط السياسي وتكوين الاتحادات الطلابية التي كانت قد حرمت مايو نشاطها، وقد امتدت الاعتصامات لتشمل المراحل المتوسطة والابتدائي، فاستشعرت السلطة خطورة في الأمر لتقتحم قوات الاحتياط المركزي دور المدارس بعنف وهمجية وشراسة أدت لسقوط عدد من الجرحى واعتقال المئآت من الطلاب الذين امتلآت بهم حراسات العاصمة. وفي اليوم التالي للاقتحام انتقلت المقاومة إلى الشوارع بمواكب ومظاهرات أتعبت النظام، فسقط أول شهداء الحركة الطلابية منذ ثورة أكتوبر 1964 وهو حاتم مبارك عبيد، لتتأزم الحالة السياسية في البلاد، فتلجأ السلطة الديكتاتورية لاعلان حالة الطوارئ وهي ترتجف!، خاصة أن طلاب جامعة الخرطوم قد دخلوا وقتها في إضرابات ومواكب واحتلوا الجامعة أيضاً، تتصاعد الأحداث سراعاً فتدخل بعض الأحزاب ساحة المعركة ليصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانه الذي دعى فيه لأول مرة القوى السياسية للتوحد بعنوان "لتتحد قوى المعارضة الشعبية"!.
التقيت دريسة مرة أخرى وعملنا سوياً في ظروف العمل السري سنوات مايو في قطاع الثانويات إلى جانب كل من الراحل محمد بابكر مختار وكل من الزملاء حسام زاهر والأستاذ عبد الحميد وميمي العاقب. وكنت مستمتعاً بزمالته في اللجنة المركزية قبل أن يشق نبأ نعيه على الجميع!.
يجدر بي التوقف عند لقب (دريسة) الذي اشتهر به، والذي برز في أوساطنا منذ تلك الفترة باعتباره قدم إلينا من صفوف عمال السكة حديد، ولذلك ارتبط اسمه (دريسة) بها! وهو تقليد حميد وسط الحزب والطبقة العاملة أن يتسمى بعض الشغيلة بأسماء (أكل عيشهم)! ويحضرني اسم كل من حسن (كنترول)، عوض ( كليتون)، وقيل أن الراحل الصادق زكريا لقب في فترة من الفترات بالصادق ( محولجي)!.
كان هذا اعتقادنا في لقب عبد الرحمن بـ (دريسة) ضمن أسماء (سكك حديد السودان) حتى قرأت ذاك الرثاء الجميل الذي كتبه صديقنا المشترك علي عسيلات لدريسة، مشيراً فيه إلى أصل اللقب، وأبان مصدره!.
لم نكن نعتقد أن الراحل دريسة ونسبة لمهارته وإجادته لكرة القدم في فترة من فترات صباه، اتخذ لقبه من لاعب الهلال والفريق الدولي الشهير ستينات القرن الماضي عبد المطلب ناصر ( دريسة)!، وكان لدريسة الهلال لقب مركب، فقد لقب أيضاً بـ ( رجل الثواني)، حيث اعتاد أن يسجل هدف الفوز في شباك الخصم عند الدقائق الأخيرة من عمر المباراة، لذا فإن مدرب الفريق الخصم كان يحرص على توجيه الدفاع إلى مراقبة لصيقة لدريسة في تلك الدقائق المتبقية، ورقم ذلك كان اللاعب الموهوب يتسلل من بين أعين وأرجل مراقبيه في فريق الخصم ليسجل هدف الفوز.
ونخال أن (دريسة) الحزب اعتاد أيضاً أن يتسلل من أعين رجال الأمن في كثير من الحالات وهو يحمل (رزنامات التحريض) كتكليف ليسلمها لمحطات توزيع المنشورات الحزبية في فترة من الفترات، وهكذا كان دائماً ما يسجل أهدافاً في مرمى الخصم الذي لا يستطيع رقم المراقبة الامساك به!.
رحمك الله صديقنا وزميلنا عبد الرحمن سيد احمد الشيخ (دريسة) ولترقد روحك بسلام يا رفيق.
ــــــــــــــــــــ
* نشرت بالميدان.
* محاربة الكرونا واجب وطني
hassanelgizuli@yahoo.com