سبق وان نشرت مقال بعنوان "المباصرة السياسية والشراكة الذكية" وكنت آمني نفسي بأن حكمتنا السودانية السلمية والتي تلجأ للتبصير الهادئ والإقناع والتجريب قد تنجح في إنتاج تجربة "مباصرة" سياسية ذكية تبرز تفوقنا السياسي على كل شعوب العالم في القدرة على التوافق والتراضي ونقدمها للعالم كنظرية سياسية سودانية.
لكني فوجئت بأن العسكر و"المنتفعجية" من السياسة وحتى العملاء والخونة تتلخص مطالبهم في كلمتين السلطة والمال، أما حجتهم "التنمية والقسمة العادلة للثروة والاستثمار" فهم يقصدون بها أنفسهم وليس الشعب!!! ثم عند البحث أكثر في حال إذا تعارضت السلطة والمال فإن خيارهم هو المال كما حدث عند الغالبية ممن وصفوا قديما بي المقولة "قلوبهم مع علي وسيفهم مع معاوية" وهو ما تكرر عند المفاصلة بين الإسلاميين في العشرية الثانية فاختارت الغالبية المؤتمر الوطني- مناصرو البشير- وبقى البعض في المؤتمر الشعبي- مناصرو الترابي- وراحت مجموعة تراوح أو "تتشبح" بين المعسكرين مقدمة نفسها بأنها تسعى لإعادة التوفيق بين المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي - مجموعة غازي صلاح الدين-، إذن غالبية "جوكية" السياسة تسعى للسلطة والمال. كان جون قرنق قد وصف حكومة سوار الذهب بأنها مايو2 و تسارع البعض لوصف خدعة الانقلاب الأبيض لابن عوف على البشير ثم انقلاب البرهان على ابن عوف ومحاولة سرقتهم لثورة ديسمبر 2018م بأنها الانقاذ2!!! بالطبع، بقى الكثيرون مصرون على أن وجود المكون العسكري في الحكم هو استمرار حقيقي لجزء كبير من نظام الإنقاذ وانه لم يتم سوى تبديل طاغية قديم بمن يصر أن يتعلم الحلاقة الاستبدادية على رؤوس الشعب السوداني وإن تطلب الأمر مساندة دول أجنبية يقوم ويجلس بأمرها حتى تمكنه من رقاب الشعب السوداني بسياسة العصا والجزرة!!! لم تتم مشاورة الشعب السوداني في تكوين المجلس العسكري وإنما فرض نفسه بقوة السلاح، ولم تتم مشاورة الشعب السوداني في تشكيل مجلس السيادة والصلاحيات التي منحت له وخاصة للمكون العسكري ورئيسه البرهان!!! صبر الشعب السوداني على تلك الكيفية العسكرية الاستبدادية التي فرض بها البرهان والكباشي وحميدتي أنفسهم كأوصياء على الشعب السوداني، على أمل أن يبرز من بين أبنائه البررة من يمثلونه في المجلس التشريعي وبذلك تحدث موازنة ضد من يريدون استمرارية الحكم العسكري أو الانقاذ2 "المطعم" بحكومة مدنية مكبلة الأيدي ولا تستطيع أن تفك الوثاق إلا باستقالتها، وهو جل ما يريده المكون العسكري، حتى يسرع بتعيين حكومة بواجهة مدنية مؤتمرة بأمره و تعمل وفق هواه!!! عندما علم المكون العسكري ومن وراءه الدولة الأجنبية التي يأتمر بأمرها بأن الشعب قد يلفظهم في لحظة من خلال المجلس التشريعي إذا ما تواصل الحكم المدني، وتيقن أكثر بان الشعب سيلفظهم أذا جاءت انتخابات نزيهة وقد يحاكمهم، عرفوا أنه لا حيلة لهم إلا بإضعاف الحكومة المدنية والتحكم فيها عن بعد بصورة أكبر من خلال تشكيل مجلس الشركاء كأعلى جهة سلطوية "متسلطة" في البلاد وتكون غالبيته من العسكريين وبعض الوجوه الأخرى التجميلية!!! أنا على يقين بأن صراع لصوص السلطة لن يتوقف، وان الكباشي يكيد لحميدتي والبرهان، وان البرهان يتوجس خيفة من الكباشي ويقبل به مؤقتا ليقوم نيابة عنه بالأدوار القبيحة يعني "يشيل وش القباحة"، وحميدتي يعتبر نفسه أكثر من وقف بجانب الشعب في السنتين الماضيتين ويجب أن يصل إلى كرسي الرئاسة ويرى ان البرهان والكباشي ليس خير منه ولا أكثر شعبية وقبول وسط الجماهير، وكذلك هو يعلم بأنهم يكيدون له من وراء ظهره بواسطة جزء من طغمة نظام الإنقاذ البائد أي الإسلاميين!!! الخلاصة أن من سعى وحصل على السلطة والمال بصورة غير شرعية يحس بضرورة الاستمرار في السلطة كضمان لاستمرارية مصالحه و لحماية نفسه من المحاكمة على جرائمه!!!
أجدني هنا أحاول أن اطرح حل وسط يتم من خلاله الاعتراف من الجهات التي تسببت في إضعاف الدولة السودانية وفي معاناة الشعب السوداني خلال عهود طويلة وعلى رأسهم العسكر والإسلاميين والحركات المسلحة وبعض الشخصيات التي كانت تدير السلطة بصورة مباشرة أو من وراء ستار، نعم يعتذر الجميع للشعب السوداني بأنهم أخطأوا في حقه ويطلبون السماح من المحاكمات وغيرها مقابل أن يسمح لهم بالبقاء في السودان أمنيين أو مغادرة السودان إلى جهة يختارونها!!! من المؤكد، أن هذا العفو العام لا يتعلق بجرائم القتل والاغتصاب والتعذيب وغيرها من الجرائم التي وقعت على أفراد أو جماعات، فهنا لا يملك العفو الكامل إلا من وقع عليه الظلم أي صاحب "الوجعة " وله الخيار في رفض العفو والإصرار على تقديم المتهم إلى محاكمة عادلة.
نقطة أخيرة، بعد رفضنا للهبوط الناعم المرسوم من أمريكا ورفضنا لوقوع السودان رهينة لدول المحاور، فإننا نرفض كذلك جملة وتفصيلا الانقلاب الناعم أو مجلس الشركاء والذي يحاول أن "يتذاكى" عبره "العسكروكيزان" لإستباق القرار الأمريكي بدعم الديمقراطية في السودان. على كل، إذا بقيت ل"العسكروكيزان" ذرة من شرف العسكرية والوطنية فليدعموا تكوين المجلس التشريعي بدلا عن "لعب العيال" الذين يريدون أن يضحكوا به على الشعب!!! في حالة إصرار "العسكروكيزان" على تعطيل الحكم المدني ، قد يضطر الشعب كأقل الضررين بالقبول بالانتخابات المبكرة شريطة ألا يشارك فيها حزبي نظام الإنقاذ البائد أي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي باسميهما ولهم المشاركة كأفراد أو جماعة تحت مسمى حزب جديد والمنافسة في الانتخابات. تجدني ازداد إصرارا على أن الخير الذي في السودان تحت الأرض وفوق الأرض يكفي ليجعل من السودان أحدى جنات الله في الأرض، وأنه يكفي أن يتوجه الشعب جميعا للإنتاج كل في مجاله بدلا عن توجههم جميعا للسياسة التنظيرية وترك العمل، مع تفعيل قانون من أين لك هذا، و إيقاف أي حصانة للمسئولين الحكوميين في الجهاز التنفيذي والتشريعي والقضائي، وتقليل مخصصات شاغلي الوظائف السياسية حتى تصبح اقل من مخصصات اصغر معلم في المدرسة الابتدائية ، وحينها يقل من يشغلون الشعب عن الإنتاج بصراعات ثانوية مثل الهوية والتهميش وغيرها بدلا عن تمليك الشعب لوسائل الإنتاج، وبذلك يزهد الجميع في كرسي الحكم كما هو الحال في الدول الاسكندنافية.
أنشد أحد شعراء الثورة "حتقول شنو؟ لما الخلوق تتلاقى تطلب حقها قصاد الكريم يوم الحساب؟! *** حتقول شنو.. لمن يقابلوك المساكين البطونهم سكتوها بموية بي كسرة و بصل.. و أكلت أنت و جاع بلد.. حتقول شنو..؟! *** مليتها بلدك بالخراب.. رخصتنا برخص التراب.. سديتها أبواب أي خير.. و فتحت للشر ألف باب.. وريني بس يوم الحساب.. حتقول_شنو؟!"