رحل إبراهيم إسحق .. وبقيت “ودعة” و “أخبار البنت ميا كايا” !!
رحل عن عالمنا يوم السبت 23 يناير إلى دار الخلود الروائي الكبير إبراهيم إسحق. وبرحيله تكون قبيلة الإبداع في السودان قد فقدت واحداً من أميز الروائيين من الجيل الذي حمل راية السرد بعد الأديب ذائع الصيت الطيب صالح. ولأنّ الكتابة الجيدة (خشوم بيوت) فقد فاجأ إبراهيم إسحق القارئ منذ صدور باكورة إنتاجه "حدث في القرية" في العام 1970م بعالم سردي مختلف. فالمكان في المتخيل السردي قرى وحلالات أخذت كثيراً من ملامح قريته "ودعة" وما جاورها من القرى والحلالات في شرق دارفور. وأكثر ما فاجأ به إبراهيم إسحاق القارئ لغة الحوار التي لا تخلو من وعورة لمن إعتاد على حوار أشخاص الرواية بالعربية الفصحى أو بعامية ام درمان واسعة الإنتشار . لم يعبأ هذا الروائي كثيراً باللغط الذي اثاره بعض أدعياء الثقافة وأنصاف النقدة عن وعورة لغة الحوار في قصصه ، وبأنها ممعنة في المحلية - وكأنما الكتابة الجيدة في نظرهم هي الجاهز والمألوف. أو كأنّ السودان ومجتمعاته المتنوعة هو شتات ما يوافينا به راديو وتلفزيون ام درمان من تمثيليات وغناء وحكي!
تقرأ إبراهيم إسحق فتقرأ صدق العبارة وحيوية الصورة، حتى لكأنّ الحروف تنبض وهو ينقل لنا إحدى لوحات الريف السوداني. فهو يتقمص روح مجالدة الحياة ومغازلتها عند الإنسان في الحلالات والقرى. بل يأتيك الإحساس تارة أن هذا الروائي يسقط من ذاكرته على الورق بعض صور طفولته وصباه.. يقول في قصته القصيرة "الفجوة في حوش كلتومة" : ( عمي عبد القادر أخبرني بأشياء أخرى. ويومذاك كنت مع منعم في بيت حاج احمد. ساقني إلى المكان في الحوش الذي يفصل بين بيتهم وبيت كلتومة. وعدنا إلى الراكوبة فراح منها يصور لي . الفكي كان يقعد في الصباح والمساء حوالي هنالك . يكتب رقيات لحنونة والنسوان أيام الفرح. كانوا كشفوا تلك الفجوة.)
أفاد إبراهيم إسحق - أستاذ اللغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية - من قراءته الكثيفة للأدب الإنجليزي وبالخصوص لروائيين أيرلنديين وأميركيين وبخاصة كتابات جيمس جويس، وفوكنر. والقارئ لعمله الأول "حدث في القرية" يمكنه مشاهدة بصمات جيمس جويس في عمله الشهير (سكان دبلن The Dubliners ). رغم أن "حدث في القرية" جاء رائعاً بكل المقاييس إذا ما وضعنا في الإعتبار أنه التجربة الأولى لكاتب في الخامسة والعشرين من عمره أو أقل. لقد أفلت "حدث في القرية" من الهتافية والمباشرة التي قلما ينجو منها كاتب مبتدئ في الرواية أو الشعر. بل إستطاع المؤلف الشاب في ذاك العمل الروائي الباكر أن يسرد رواية طويلة متماسكة الأحداث عبر ضمير المتكلم، مسقطاً منها عنصر الوقت بصورته التقليدية في الحكي. إذ تدور أحداث الرواية كلها في يوم واحد من طلوع الشمس إلى غروبها حين تفجع قرية في غرق أحد الصبية الذي تسلل مع رفاقه إلى الخور الهائج بأمواجه ذاك الصباح. ويشاع أن تمساحاً جرفته الأمواج ربما يكون هو الذي خطف الصبي. هذه الثيمة التي هي غاية في البساطة كما يبدو، يصنع منها الروائي إبراهيم إسحاق مشاهد سردية شديدة التماسك والحيوية في باكورة إنتاجه "حدث في القرية"!
من كتابات إبراهيم إسحق التي تنضح بالنضج من حيث لغة الحكي ومشاهد السرد أقصوصته " أخبار البنت ميا كايا". ينتقل المكان السردي في هذه الأقصوصة من دار فور إلى ود عشانا – المدينة الصغيرة التي تجمع بين أضلاع مثلث يمثل السودان الذي كان: أعالي النيل (جنوب السودان ) وكردفان (غرب السودان) والإقليم الأوسط كمدخل للسودان النيلي الشمالي. تدور أحداث القصة في زمن غابر – ربما القرن السادس عشر الميلادي. ومثلما حدث أن وقائع هذه الرواية جمعت بين تقلي وفشودة وود عشانا جغرافيا، فإنها في الواقع رمزت وبشيء من الذكاء إلى العجينة الثقافية السودانية وكيف تمازجت عبر زمن طويل، تارة عبر نشاط تجار الجلابة وتارة عن طريق غارات قبائل الشلك النيلية وتارة أخرى عن طريق المراعي والنزوح من أجل كسب العيش.
برحيل إبراهيم إسحق تفقد المكتبة السودانية كاتباً غزير الإنتاج – ليس في الرواية والقصة القصيرة فحسب – بل في البحوث المتعلقة بالتراث والتاريخ الشعبي ، مثل مبحثه لنيل رسالة الماجستير حول السيرة الهلالية. ولعل أمام النقدة والباحثين في مجال الرواية والسرد في السودان جبلاً شاهقاً عليهم أن يتسلقوه بحذر وهم داخلون إلى مؤلفات إبراهيم أسحق المترعة بعوالم وحيوات من صميم البيئة السودانية – وفي غرب السودان بالتحديد - مما يقضي أن يتسلحوا بالجرأة والأمانة وشجاعة وثقافة الناقد الحر ليخرجوا لنا اللآليء والدرر التي حوتها روايات وقصص مثل "وبال في كلمندو" ، " أخبار آل نورين" ، "حكايات من الحلالات" ، " أعمال الليل والبلدة" ، "مهرجان المدرسة القديمة" ، "أخبار البنت ميا كايا" وغيرها من الروايات ومجموعات القصص القصيرة.
فضيلي جمّاع - لندن
في 24/01/2021
fjamma16@yahoo.com