المباصرة السياسية بين “الاستحمار” الداخلي والاستعمار الخارجي

 


 

 

 

من المعلوم أن هناك صراع محموم و محتدم حول ثروات السودان من الدول الخارجية، أما داخليا فأمره عجب!!! فخارجيا هناك صراع إقليمي واضح بين مصر وإثيوبيا وطمع الدولتين في الانقضاض على أراضي السودان وخيراته، ثم يتوسع الأمر فتدخل فيه قوى خليجية و شرق أوسطية بالإضافة إلى إيران وتركيا وجميعهم لهم إطماع في نهش "لحم الثور" السوداني، ثم يتوسع الصراع فتتجاذب فيه قوى دولية عظمى ممثلة في الصين وروسيا وأمريكا وأوربا. وليس ببعيد الزيارات العسكرية الأمريكية الأخيرة و "أفريكوم" للسودان لحماية مصالحهم.

مما لا شك فيه، أن كل هذه الصراعات تدور حول خيرات السودان، في الوقت الذي ينشغل فيه الشعب السوداني عن بكره أبيه بصراعات داخلية لا جدوى منها، ولكنها تؤدي لتشتيت جهوده وإضاعة خيراته، على سبيل المثال لا الحصر، تصاعد الحساسيات القبلية في شرق السودان وغربه بل وصل الصراع القبلي إلى وسطه، شراهة الصراع بين الحركات المسلحة وغير المسلحة على اقتسام كعكة الحكم في الخرطوم، مع ارتفاع سقف مطالب الحركات المسلحة، ثم تأتي الثارات المؤجلة والغبن بين بعض القبائل وقوات الدعم السريع، كذلك يظهر الطمع والتنازع بين الأحزاب السياسية المختلفة في الانفراد بالحقائب الوزارية السيادية، وتلوح فجوة بين غالبية الشباب تحت سن الثلاثين والشيوخ فيما فوق الأربعين حتى السبعين المتشبثين بالسلطة!!! وعليه يظل التأمر والصراع قائم بين كل المجموعات حول السلطة.
في حين ينشغل المكون العسكري في عمالة واضحة للحركة الاسلاموية والنظام المخلوع وتحديدا اللجنة الأمنية للبشير، بالتآمر لإفشال الحكم المدني، و تأمين عودة النظام السابق للحكم بصورة مباشرة أو غير مباشرة عبر أصدقائهم وحلفائهم، وفي أسوء الاحتمالات ، تأمين الخروج السالم لهم إلى تركيا وماليزيا.
ينشغل الدعم السريع بتكوين دولته الخاصة داخل دولة السودان من خلال إيجاد مصادر مالية وشركات كبرى كالجنيد وغيرها، وتجنيد أعداد كبيرة من صغار الشباب من داخل وخارج السودان بهدف تضخيم عدد القوات و ضمان استمرارية قوتها وتحكمها، وتأمينها ضد أي محاربة لها من بعض القبائل اوالجهات الأخرى، الأمر الذي يضطرها لشراء زعماء تلك القبائل والحركات غير الصديقة بالمناصب والمال، وفي إطار تكتيكي قد يشغلها بتوجيه عداواتها ضد من يحددونهم لهم بسكان الوسط والشمال النيلي!!!
ثم تأتي نقمة أخرى، إلا وهي الصراع الأيدولوجي بين "عجائز" حملة الشهادات العليا والمثقفين والمتعلمين ومدعي الوكالة الحصرية للدين، وهؤلاء وبكل أسف لا ينظرون أبعد من أرنبة أنوفهم، فلا يهمهم سوى الانتصار للأيدلوجية السياسية أو المذهب الديني أو الخط الحزبي أو حتى الرأي الخاص، ولعلي لا أجد فرق بينهم كبير وبين الحكامات اللاتي يثرن الحرب، بل إن الحكامات كثيرا ما يصبحن دعاة للسلم ووقف العداوات بين أفخاذ القبيلة نفسها أو بين القبائل المختلفة.
قد يقول قائل إن هذا الصراع الداخلي دلالة على ضعف الحكومة المدنية الحالية، ولكن الحقيقة أن هذا الصراع، أمر ليس بجديد بل أن بداياته كانت مع انقلاب الحركة الاسلاموية على السلطة بقيادة المرحوم د. الترابي في 1989م، ويمكن للقارئ أن يستمع للتسجيلات التلفزيونية الموثقة في الانترنت والتي يعترف فيها والي الخرطوم الأسبق واحد زعماء الحركة الإسلاموية د.المتعافي بأنهم أعادوا إحياء النعرة القبلية لمصلحة الحركة الاسلاموية للتغلغل في مناطق كانت مقفولة للأحزاب الطائفية، ولعل الجميع يذكر كيف كانت تتم البيعة للحكومة المركزية بإسم أفخاذ القبائل أو شيوخ القبيلة من كل منطقة!!!
يبقى أن الحل الوحيد وسط كل هذه المعممة التي تنذر بشر مستطير، هو إيجاد "مباصرة" سياسية لكل لتلك التحديات والمخاطر من قبل مجموعة من الوطنيين الذين قلوبهم على الشعب وعلى السودان، لا سيما من خلال وجودهم في الأيام المقبلة كغالبية في المجلس السيادي والحكومة التنفيذية والمجلس التشريعي، وبالطبع أن كل تلك القوى الإقليمية والقوى العظمى الشرهة لخيرات السودان ستحاول قدر الإمكان ألا تترك فرصة لنجاح تلك المبادرات الوطنية الصادقة.
قبل الختام، لعل "المباصرة" السياسية يمكن أن تتم من قبل الشعب السوداني قاطبة إذا أنتشر الوعي فيه بأن أي صراع داخلي سيؤدي لمزيد من التخلف والفساد والدمار وهذا ما لا نرجوه ، فبدلا عن وضع المتاريس على الطرقات، يجب وضع متاريس من مواثيق شرف لمنع التنازع بأي ثمن، وأن نكون جميعا صادقين في الوطنية ومساهمين بصورة فعالة لضمان خروج السودان بسلام من مخاطر التفتت و الحرب. أخيراً، ينسب لآدم سميث، قول "نحن لا نتوقّع أن تأتينا أطباق العشاء بصدقةٍ من الجزّار أو الخبّاز، بل لأن ما يفعلونه يحقّق لهم مصلحة شخصية كذلك".
أنشد الشاعر عمر علي عبدالمجيد "الممكون"
"في كل بقعة من الأرض يا شعبي ملك الاحترام
فلك التحيات الجسام، ولك الجلوس و لك القيام
ولك إحتشادات السلام
حدق العيون ليك يا وطن بقمة الحب والاحترام
وأنا بعتذر ليك يا وطن، لو انو بعضنا
كان في يوم سبب الشتات والانقسام".

wadrawda@hotmail.fr

 

آراء