بعض مما فضحه التشكيل الوزاري الجديد
صحيفة التيار 14 فبراير 2021
يمكن القول، بكل بساطة، أن ما ظل يعتمل داخل الوسط السياسي، منذ اقتلاع نظام الإنقاذ وبداية التفاوض مع العسكر ، قد كانت سمته الرئيسة التدليس المستمر، المتمثل في نقض العهود والمواثيق. من أمثلة ذلك، عدم الالتزام بما نصت عليه الوثيقة الدستورية. فقد مر على إعلان الوثيقة الدستورية عام ونصف، ولم نر مجلسا تشريعيا. وإنما رأينا ما سمي "مجلس الشركاء"، الذي نبت فجأة وجرى تشكيله بسرعة البرق. هذا، في حين ظل كل ما نصت عليه الوثيقة الدستورية من استحقاقات يسير بسلحفائية قاتلة، أضحت تشير بوضوح إلى التعمد في تأخير تلك الاستحقاقات، بل، وربما التنكر لها بصورة نهائية. وعموما، لا ندري من أين جاءت فكرة "مجلس الشركاء" هذه، التي أضحت واقعا بين يوم وليلة. وأصبح قياديو قوى الحرية والتغيير أعضاء فيه، وهم المفترض فيهم أن يكونوا حراس الثورة وحراس وثيقتها الدستورية. أيضا لم نر تشكيلا لمفوضية الانتخابات وغيرها من المفوضيات. ولم يكن كل هذا المطل والتباطؤ ممكنا لولا أن الذين استلموا مقود عربة الثورة قد كانوا قوما بلا مبادئ وبلا صدقية.
أحدث الوزير السابق، مدني عباس مدني، أول خرق لما ألزمت به قوى الحرية والتغيير نفسها، وهو عدم تولي أي فرد منها منصبا تنفيذيا أثناء الفترة الانتقالية. والآن سار الجميع على نهج مدني، فجاء إلى المناصب التنفيذية كل من إبراهيم الشيخ، وخالد عمر يوسف، ومريم الصادق، وحمزة بلول، ويوسف آدم الضي، وغيرهم. ويبدو أن حرص الجبهة الثورية على نهج المحاصصة في المناصب أثناء الفترة الانتقالية، الذي كان بندا من بنود المفاوضات التي جرت لإبرام إتفاقية السلام في جوبا، قد فتحت شهية الأحزاب السياسية وقيادييها للاستوزار أثناء الفترة الانتقالية، شأنهم شأن رصفائهم في الجبهة الثورية. وقد حفلت مواقع التواصل الاجتماعي في الأسبوع المنصرم بإعادة تدوير أحاديث إبراهيم الشيخ وخالد عمر يوسف من على منصات الاعتصام، التي أكدوا فيها نأيهم بأنفسهم عن تسنم أي منصب تنفيذي في الفترة الانتقالية. وقد أظهرت مقاطع الفيديو تلك مدى تناقض المواقف لدى سياسيينا، بل ومدى عدم اكتراثهم بأن يناقضوا أنفسهم. وهذه جانب واحد من جوانب "تخانة الجلد"، التي ظلت السمة الرئيسة لسياسيينا منذ الاستقلال. ويبدو أن حلمنا بأن تنشأ من بين قوانا السياسية قامات ذات مبادئ ومصداقية وانحياز لنبض الشارع، لا يزال حلما طوباويا معلقا في الهواء.
كان من الأفضل في نظري أن تكتفي الجبهة الثورية بمناصب في السيادي، إضافة إلى تولي مفوضية السلام لتشرف على تنفيذ اتفاقية السلام، وتنصرف بكليتها إلى تحويل نفسها إلى حراك مدني تنشغل عبره بالاستعداد لخوض الانتخابات، عقب الفترة الانتقالية. أيضا، كان على الأحزاب، فيما أرى، أن تنأى بنفسها عن المناصب التنفيذية، وتنشغل هي الأخرى بتوسيع قواعدها الجماهيرية، وتمتين هياكلها التنظيمية، لخوض الانتخابات. غير أن الفريقين هرعا إلى المناصب التنفيذية، ظنا منهما أن هذا النهج يوصلهما إلى موارد الدولة، فيستغلانها في تمتين بنيتيهما. خلاصة القول أن عقلية الإنقاذ في تجيير موارد الدولة للصالح الحزبي ليست وقفا على الإنقاذ وحدها، وإنما تشمل أيضا من يظنون أنهم البديل للإنقاذ. سوف تنقضي الفترة الانتقالية إن عاجلا أم آجلا. ولسوف تجد الأحزاب الصغيرة، قصيرة النظر، التي تتسيد حاليا هذا المشهد المتشظي، نفسها، عقب الفترة الإنتقالية، منفية خارج دائرة القرار السياسي. وسيكون كل ما كسبته هو استوزار بعض منسوبيها لبضع سنوات، غالبا ما لا تبلغ أجلها المكتوب. فكل المؤشرات تشير إلى أن الحكومة الجديدة ربما واجهت أوضاعا أعسر بكثير مما واجهته سابقتها. لكن يبدو أن المناصب تعمي البصائر.