كانت الإنجليزية لغة السودان الرسمية حتى استقلاله، ولعدة سنوات بعد ذلك، إذ كانت هي لغة التعليم في المرحلتين الثانوية والجامعية وما بعد الجامعة، ولغة المراسلات والتخاطب الحكومي، ولغة المحاكم المدنية، وكان معظم المحامين الأوائل يترافعون في العديد من القضايا بلغة انجليزية رفيعه كnative speakers، مثل المحجوب ومبارك زروق وأحمد خير وزيادة أرباب وأميل قرنفلي وهكذا، ( ولقد كان الحكم الذي تلاه قاضي المحكمة العليا الراحل صلاح حسن الآمر ببطلان قرار الجمعية التأسيسية بحل الحزب الشيوعي عام 1966 باللغة الإنجليزية على ما أذكر)؛ ولو استمر الحال كذلك، لولا لوثة التعريب التى تسللت إلينا عبر البوابة المصرية وعلي أجنحة (الوهم) الإسلامو عروبي، لاستمر السودان كالهند وغانا ونايجيريا وكينيا وكافة المستعمرات البريطانية السابقة، دولة أنجلوفونية كاملة الدسم، مرتبطة بالتعليم والثقافة الإنجليزية، مع التعايش التام مع اللغة العربية وآدابها التي برع فيها المتعلمون السودانيون، فقد كانوا بالفعل متمكنين من اللغتين العربية والانجليزية perfect bilinguals ، وزادتهم تلك الخاصية تميّزاً بين المتعلمين العرب والأفارقة. ومنذ الأربعينات حتى سبعينات القرن الماضي كان للمهنيين السودانيين القدح المعلّي في المنظمات الدولية المتفرعة من الأمم المتحدة، مثل FAO الفاو ومنظمة الصحة العالمية WHO، كما شكلوا النسبة الأكبر من المهنيين والفنيين الوافدين الذين استجلبتهم الدول العربية المنتجة للنفط ليؤسسوا بنياتها التحتية بعد الطفرة النفطية مع بداية الستينات. وكان أولئك السودانيون متفوقين في مجالاتهم التخصصية، مع القيمة المضافة المتجلية في اللغة الإنجليزية، إذ لعبوا دوراً محورياً في الترجمة أثناء التفاوض والتعاقد بين الجهات المخدمة والشركات المنفذة لعقود البناء والتشييد والتسيير للبنية المؤسسية. وما كانت هناك أي منافسة مع وافدين مصريين أو غيرهم من العرب الذين لم يظهروا في السوح الخليجية إلا مؤخراً، وبالتحديد بعد عودة مصر للجامعة العربية وإعادة العلاقات مع الدول التى كانت قد رفضت تطبيع السادات مع إسرائيل، وقلبت ظهر المجن لمصر، وتم نقل الجامعة إلى تونس؛ كما تزامن ذلك الانفتاح الجديد مع انهيار التعليم في السودان وتخليه عن الانجليزية. ولقد أخذ السودان في التدهور إقتصادياً وحضارياً منذ انحسار اللغة الإنجليزية، وأصبحت مؤسساته التعليمية تنتج كوادر معطوبة وغير مرغوبة في سوق العمل الإقليمي والدولي؛ كما ضعفت العلاقات التجارية بالشركات والمؤسسات العالمية الناطقة بالإنجليزية. ونسبة لأسباب اقتصادية وسياسية أخرى، أثناء حكم الإخوان المسلمين المعزول عالمياً، أصبح السودان مرتبطاً بمراكز صناعية جديدة كالصين ذات المنتجات المتدنية الجودة وقصيرة العمر، وذات الممارسات غير الأخلاقية كسرقة براءات الإختراع الأوروبية، واستنزاف العمالة الاسترقاقية – المساجين والأطفال وهلمجراً – بشروط مجحفة وفي غياب الشفافية وحقوق الإنسان؛ فالصين (الشيوعية) كانت الزبون الأول والصديق الأقرب والمثل الأعلي لنظام الإخوان (الإسلامي) السوداني، أي صادف شنوٌ طبقه. غير أن اللغة الإنجليزية لم تشكل هجراناً تاما للنظم التعليمية بالسودان، ًفقد اكتشف الإسلاميون الذين سطوا علي الحكم عام 1989 أنها شر لا بد منه؛ وبعد أن عرّبوا الجامعات الحكومية وأغلقوا المجلس البريطاني والمركز الثقافي الأمريكي، وطردوا كل الأساتيذ البريطانيين الذن كانوا يعلمون الإنجليزية بالمدارس والجامعات، أنشأوا جامعاتهم ومدارسهم الخاصة التى تستخدم الإنجليزية كلغة تدريس، لكي ينعم بهذه الخاصية رهطهم الأقربون فقط، وبعض أبناء البرجوازية الخرطومية التى خبرت اللغة الاجليزية وأدركت مزاياها في سوق العمل الدولية وفي التعامل مع الشركات الغربية، إلخ. ولقد أنجبت تلك المؤسسات الإخوانية الإنجليزية، أنجبت أجيالاً من أنصاف المتعلمين المشوّشين والمؤدلجين الراغبين فقط في مغادرة البلاد، وياللمفارقة، صوب الغرب، بأسرع فرصة ممكنة. وفي هذه الأثناء، تردّي مستوي التعليم في السودان بشكل مأساوي (باستثناء الجزر الإخوانية الهادفة لاستنقاذ ذراريهم من المستنقع التعليمي الحكومي، والتى جعلت من التعليم سلعة للتكسّب والتربّح الفاحش)، كما تهشّمت البنية التحتية للتعليم تماماً، وأصابت عدوى الجشع والمتاجرة بالتعليم بعضاً من معلمي المدارس الحكومية أنفسهم، خاصة أساتيذ الرياضيات والعلوم – الفيزياء والكيمياء، الذين سايروا مفهوم التعليم "بالكاش" والدروس الخصوصية، وانتشرت حمي فصول التقوية والمدارس الخاصة بالحواضر الشمالية التى نظمها أساتذة هم أنفسهم كانوا قد استفادوا من التعليم الحكومي المجاني، بما فيه المرحلة الجامعية والتخصص والدراسات العليا بالخارج. إن التخلي عن الإنجليزية كلغة تدريس كارثة استراتيجية فادحة، فلا أرضاً قطعنا ولا ظهراً أبقينا، وأصبحنا كالأطرش في الزفة؛ فالإنجليزية رضينا أم أبينا هي اللغة العالمية الأولي التي ينطق بها أكثر من مليار ونصف مليار نسمه في كل أركان المعمورة، وتأتي بعدها الماندرين الصينية والإسبانية، غير أنها تتفوق عليهما بالشيوع والانتشار الأفقي؛ فإنك حيثما تذهب على وجه البسيطة تستطيع أن تقضي حوائجك ببضع كلمات إنجليزية، إذ أن واحداً من كل خمسة من سكان العالم يتحدث الإنجليزية، وهي اللغة الأساسية في مائة وواحد دولة - مثل بريطانيا وآيرلندا وأمريكا الشمالية وأستراليا ونيوزيلاندا وجزر الكاريبي وجنوب إفريقيا وزمبابوي، إلخ. وهي لغة الأكاديميا الأولي التي يتم بها تلقي التخصصات الهامة والدراسات فوق الجامعية في مجال الطب والهندسة وكافة ضروب المعرفة، وهي لغة المؤتمرات والمجلات العلمية، ولغة الطيران والملاحة البحرية، ولغة الإنترنت والvideo games والصحافة الدولية المرموقة وكافة وسائل الثقافة والترفيه - مثل السينما والمسلسلات العالمية الراقية والوثائقيات documentaries والغناء والمسرح، وهي نافذة لذخيرة لا تنضب من الإرث الأدبي والمعلوماتي المدون بالإنجليزية عبر القرون. ولقد أصبحت اللغة الإنجليزية شرطاً أساسياً للتقديم لأي وظيفة في أي منظمة عالمية أو شركة عابرة للحدود. وبسبب انتشارها الخرافي منذ عهود الإمبراطورية البريطانية، وبفضل الخبرة المتراكمة والتطوير المستمر لفنون تدريسها عبر القرنين المنصرمين، فقد أصبح تعلم اللغة الإنجليزية من السهولة بمكان، شريطة توفر الرغبة الذاتية والبيئة المشجعة affective Domain، وعلي ذلك أضرب لكم مثلين: • فقد حكي العلامة الأمدرماني المتخصص في غناء الحقيبة، الأستاذ بشرى النور، مساء اليوم (الثلاثاء) ببرنامج (الليلة بالليل) في قناة النيل الأزرق، حكي عن الشاعر سيد عبد العزيز طيب الله ثراه الذي كان يجهل اللغة الإنجليزية حتى تجاوز سن الأربعين، ثم قرر فجأة أن يتعلمها، فالتحق بفصل مسائي للكبار متخصص في تعليم الإنجليزية، وتعلمها وأجادها في زمن قياسي، وأصبح يطالع الأدب العالمي المترجم للإنجليزية، كما اطلع علي أشعار وليام شكسبير وغيره من نوابغ الانجليز. • والمثل الآخر هو أصغر أبنائي - عمار وزينب - اللذان ترعرعا وتعلما في أبو ظبي، والتقطا الإنجليزية من التلفزيون فقط، فقد كانت مدارسهم شبيهة بالسودانية، ناطقة بالعربية. ورغم أنني وأمهما معلمان منذ عشرات السنين، فلم نقدم لهما أي عون يذكر في هذا المجال، بسبب ضغوط كسب العيش في تلك الغربة الحارة؛ فإذا بهما يجيدان الإنجليزية كتابة وكلاماً ونطقاً لدرجة فاقت كلينا، وقد التحقا بجامعات الدراسة فيها بالإنجليزية وتخرجا فيها بسلاسة بحمد الله. وقد ينبري لنا من يخشي من اندثار هويتنا الوطنية ولغتنا الأم إذا نحن اتجهنا صوب الإنجليزية بالكامل، علي حساب شخصيتنا وثقافتنا. والرد علي ذلك جاهز منذ الأزل، فقد قال المصطفي عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا العلم ولو في الصين". وفي الحقيقة فإن الإنجليزية أكثر سهولة من الصينية، ويتعلمها الراغب في بضعة شهور إذا عاش في بيئتها أو تم اصطناع بيئة مشابهة في المدرسة، خاصة منذ سن مبكرة. ولو استنهضنا الإنجليزية مجدداً فإن ذلك خير وبركة واستجابة لاستحقاق أصيل من استحقاقات النهضة المنشودة، ولن يكون ذلك علي حساب العربية أو أي من لغاتنا المحلية. وقد أثبتت دراسات علم النفس التربوي الحديثة أن الأطفال الذين يتعلمون أكثر من لغة يصبحون أكثر ذكاءً من رصفائهم الذين يتحدثون لغة واحدة monolinguals. وخير مثال للأذكياء الذين يجيدون أكثر من لغة المرحوم حسن الترابي (كبيرهم الذي علمهم السحر) الذى أجاد الإنجليزية والفرنسية والعربية، التي تعلمها علي حساب الشعب السوداني عبر تعليم مجاني وبعثات حكومية لفرنسا وأمريكا؛ ونفس الشيء ينطبق علي الدكتور المخرّب الأكبر ابراهيم احمد عمر الوزير الإخواني للتربية في أول أيام الانقاذ الذي قام بتعريب الجامعات وبمحاربة اللغة الانجليزية؛ وأحسب أن تلك الهجمة البربرية علي التعليم وعلي الانجليزية بالذات كانت بدافع (الحسادة) وعقلية جحا (طالما طلعت من بطن امي ليته ينسد)، ومن أجل تحجيم الحركة الطلابية وكسر أنف جامعة الخرطوم التى كان طلابها دائماً طليعة الثورات ضد الطغاة؛ والإسلاميون كانوا يطمعون في استدامة حكمهم أكثر من مصلحة البلاد ومن تعليم أجيالها المتعاقبة على أرضية وضعها التربيون الأوائل العظماء: مستر يودال وقريفيث وهودجكن وجي إي برايت وعبد الرحمن علي طه وأخوه عبد الحليم والتجاني علي وسر الختم الخليفة وعبد الله الطيب واحمد الطيب واحمد محمد سعد وهاشم ضيف الله والدكتور مصطفي عبد الماجد عليهم شآبيب الرحمة المدرارة – وكلهم عباقرة مفوهون بالانجليزي والعربي، وأكثر مهنية وتقوى وإنسانية وتجرداً ووطنية وتواضعاً من الإخوان الأشرار الذين أناخوا علي ظهورنا طوال الثلاثة عقود المنصرمة، والذين أتواعلى مجد الأوائل بالساحق والماحق (كما قال ابن خلدون: "المجد يبنيه جيل، يأتي بعده جيل من صلبه يأتي عليه فتذهب ريحه".) لا بد من إعادة الإنجليزية لسيرتها الأولي في سودان الثورة، حتى نلحق بركب الدول الجادة في مساعي التطور والتقدم الاقتصادي والتحول الاجتماعي؛ وأول شيء نبدأ به هو دعوة المجلس البريطاني والمركز الثقافي الأمريكي ليعودا للخرطوم ولبعض الحواضر ألأخرى؛ ثم الاتفاق مع الحكومة البريطانية أو الأمريكية أو الكندية أو الأسترالية على استجلاب المتطوعين الشباب من الخريجين الجدد للتدريب في المدارس السودانية، فمجرد وجودهم بها فيه دعم وترسيخ للإنجليزية بتلك المؤسسات التعليمية. ولا بد من قرار ثوري يقضي بإدخال الإنجليزية من الصف الأول الابتدائي كما هو الحال في الإمارات العربية المتحدة، ووضع مقررات مواكبة للعصر وللتقدم التكنولوجي ولحاجيات الوطن الاستراتيجية ولمتطلبات سوق العمل؛ وهكذا نكون قد شرعنا في إنجاز الثورة التعليمية التي سوف نجني ثمارها خلال عقد واحد من الزمان، بإذن الملك العلام. والسلام.