على أيَّة حال، فلعلَّ ما نقدِّمه في صفحات هذا السفر الذي سميناه "مداد القلم"، وغيره مما نشرناه في الماضي وسوف نظل ننشره ما دمنا أحياءً، يعتبر مساهمتنا المتواضعة في تعميق الوعي التأريخي في عقول النشء، وحملهم على دراسة الماضي باسم العقل والواقع، ومحاولات استخلاص الدروس والعبر التي تفيدهم في حاضرهم ومستقبلهم. أجل، فعظات الماضي سلاح المستقبل، وإنَّ إلقاء نظرة فاحصة على الماضي لتساعد على أخذ دروسه وعبره زاداً وعتاداً. مهما يكن من أمر، فلا سبيل إلى الشك في أنَّ العالم اليوم وبفضل العولمة وتكنولوجيا المعلومات قد أصبح قرية كبيرة، وهذا الأمر يتطلب تعاوناً إقليميَّاً ودوليَّاً بين الأقطار المختلفة للاستفادة من بعضها البعض. إذ تحتاج الأقطار، وبخاصة الدول النامية، إلى تكنولوجيا المعرفة والتأهيل العلمي والفني، والخبرات الصناعيَّة وغيرها للارتقاء بدولهم واستثمار مواردها لصالح شعوبها. وقد نحت دول كثيرة منحى عقد تحالفات مع غيرها لتبادل الخبرات والمؤهِّلات والتعاون في مجال مكافحة الجريمة المنظَّمة والإرهاب. أما في القارة الإفريقيَّة فقد أثبتت هذه التحالفات جدواها ليست في القضايا الاقتصاديَّة فحسب، بل ساهمت في حل بعض النزاعات المسلحة، لأنَّ التنمية والنمو الاقتصادي تتطلبان السَّلام والاستقرار من أجل الاستثمار والرفاهيَّة والحياة الكريمة وسط الشعوب. فلا ريب في أنَّ الرابطة الاقتصاديَّة أساس الرابطة الاجتماعيَّة، والعمل ونظامه التعاوني مصدر نظام المجتمع وأساس بناء المجتمع. وإنَّنا لنرى التعاون على نوعين: بسيط ومركَّب. فالبسيط هو التعاون على ما فيه مجهود من نوع واحد كرفع الأثقال وتحريكها والسَّعي في طلب طريدة (في حال الإنسان الصيَّاد) وما شاكل. والمركَّب هو ما كان في المشاريع البنائيَّة، وفي نوع حاجات المجتمع وأغراضه العمرانيَّة، والعمل يجري على أحدهما وأحياناً يجمع بينهما. على أيَّة حال، إذ ينبغي أنَّ تصب الأهداف الأساسيَّة لعمل الحكومات في تحقيق "أهداف التنمية المستدامة"، وهي تلك الأهداف التي اتَّفقت عليها دول العالم العام 2015م، وتشمل 17 هدفاً تغطِّي أولويَّات أيَّة حكومة تسعى لتنمية الدولة، وترقية مواطنيها في سبيل الرفاهية والرَّخاء الاجتماعي، وتستهدف هذه الأولويَّات 6 محاور تشمل ما يلي: (1) محاربة الفقر في سبيل العيش بكرامة؛ (2) تمتُّع الجميع بالصحة والمعرفة، وإشراك كل فئات المجتمع؛ (3) بناء اقتصاد معافى يشمل الجميع، ويفضي إلى تحوُّل حقيقي لتحقيق الرَّخاء؛ (4) المؤسَّسيَّة وإشاعة الأمان والسَّلام في المجتمع لتحقيق العدل؛ (5) حماية النُّظم البيئيَّة (رأسمال التنمية) لصالح مجتمع الحاضر والمستقبل؛ (6) التضامن الوطني والإقليمي والعالمي لتحقيق الشراكة من أجل استدامة التنمية. في العودة إلى أواخر الثمانينيَّات نجد أنَّ أهل الإنقاذ كانوا قد مهَّدوا لانقلابهم في 30 حزيران (يونيو) 1989م على الديمقراطيَّة – مهما كان من أمرها – بشعارات تمسُّ قضايا النَّاس المعيشيَّة، فعلى سبيل المثال "السُّكر أو الجيش"، و"الجيش أو العيش". ومنذئذٍ شرع عمر البشير – مثله كمثل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح – يحكم البلاد والعباد مستخدماً "سياسة اللعب مع الثعابين، والقفز من فوق الحبال المشدودة"، حتى ظنَّ أنَّه أعنف من عُقاب الجو، وذلك قبل أن يأتي اليوم الذي فيه تشخَّصت الأبصار، وأُذيل عن الأنظار، وحدث ما حدث. أما اليوم فيستوجب على السُّودان تفعيل تعاونه مع المنظَّمات الدوليَّة المانحة وتمتين علائقها مع التحالفات الإقليميَّة لحل أزمتها الاقتصاديَّة التي أناخت بكلاكلها على السُّودان، وثقلت وطأتها على السُّودانيين في ظل الظروف المعيشيَّة الصعبة التي يعيشها المواطنون. وقد بلغ أمر الرغيف بأهل السُّودان في الحاضرة مبلغاً يستعصي علينا وصفه مهما كنا حراصاً على ذلك، حتى غدا مصدر التندُّر والتفكه. إذ أخذ البعض يكتبون على كروت المناسبات الاجتماعيَّة من باب الظرافة والمؤانسة أنَّ من يأتي ملبِّياً الدَّعوة أن يحضر معه رغيفه. ولعلَّ من لا ينصاع لهذه الوصيَّة تصبح حاله كحال الأعرابي الذي وصفه دعبل الخزاعي بأنَّ ضيفه قد جاء بزادٍ له فلا داعي لترك البيت هروباً منه، فأرجع حتى تكون ضيفاً على ضيفك: يا تارك البيت على الضَّيف وهارباً عنه من الخــــــــــــوف ضيفك قد جاء بخـــــــبزٍ له فارجع وكن ضيفاً على الضَّيف