?من غير المرجح أن يساعد مؤتمر باريس في التغلب على التحدي الاقتصادي السوداني الرئيسي، والمتمثل في استعادة توازن الاقتصاد الكلي.
?لإيضاح ذلك دعنا نقول ان أم جميع مشاكل الاقتصاد السوداني هو ما يسمى بالعجز التوأم: عجز الموازنة وعجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات.
?تنشأ المشكلة عندما يستمر عجز كبير ومزمن في الموازنة على مدى فترة طويلة من الزمن. عادةً ما يتم تمويله عن طريق طباعة النقود وزيادة عرضها (أو ما يسمى بالاقتراض من البنك المركزي) - ويشار إلى هذا بـالاختلال أو عدم التوازن الداخلي.
?يؤدي العجز وطريقة تمويله إلى تضخم جامح يفضي بدوره إلى تآكل القوة الشرائية للمداخيل وإضعاف قدرة المنتجين المحليين على المنافسة في الأسواق المحلية والعالمية على حد سواء. ويؤدي ضعف القدرة التنافسية للمنتجين الوطنيين إلى انخفاض الإنتاج، أو ضعف نموه وارتفاع معدلات البطالة ، وانتشار الفقر على نطاق أوسع وأعمق ، فضلاً عن انخفاض الإيرادات الضريبية.
?ضعف القدرة التنافسية للمنتجين السودانيين في الأسواق الدولية يعني ضعف أداء الصادرات في حين أن تراخ قدرتهم التنافسية في السوق المحلية يعني أن الواردات أرخص نسبيًا و / أو ذات جودة أفضل مما يقود إلى تدفقات أكبر من الواردات – علي حساب المنتج المحلي - لتلبية الطلب على السلع الأساسية. يعني انخفاض الصادرات وارتفاع والواردات تمدد العجز التجاري وعجز الحساب الجاري – أو ما يعرف باختلال وضع الميزان الخارجي أو عدم التوازن الخارجي.
?بعد إ هذا العرض المبسط للمشكلة يتضح ان عجز الموازنة الكبير والمستمر هو مصدر جل شياطين الاقتصاد السوداني الماثلة في المدي المنظور. والسؤال الآن هو هل سيساعد مؤتمر باريس الحكومة في التغلب على هذه العفاريت؟. أنا أشك في ذلك كثيرا.
?يمكننا أن نتوقع بعض الفرقعات الاعلامية من قبل المانحين الطيبين والكثير من التظاهر بأنهم على استعداد لمساعدة السودان وتتعزز الفرقعات بحضور وجوه شابة كضيوف شرف في المؤتمر المهرجاني مثل الدكتور الاصم وآلاء صلاح وصائدة البمبان وقد تشعل صور الطاقم السوداني مع ماكرون الاسافير.
?لكن تقديري هو أن نوع المساعدة التي قد يتعهد بتقديمها المانحون لن توفر دعمًا ماليًا كافيًا لخفض عجز الموازنة الحكومية. على الأكثر وفي افضل التوقعات، قد يتعهدون بإعفاء بعض الديون ، وتمويل بعض مشاريع البنية التحتية وتمويل الإغاثة الإنسانية وبعض الخدمات.
?والسبب هو أن المانحين بشكل عام لا يفضلون دعم الموازنة لأنهم لا يثقون في الحكومات ، خاصة تلك التي لديها نظم رقابة ضعيفة وقدرات مؤسسية واهنة ، كما ان أيديولوجيتهم النيوليبرالية تنظر إلى الحكومات على أنها المشكلة وليست الحل كما قال شيخهم ريغان.
? لهذا السبب في العقود الماضية تبنى المانحون المنظمات غير الحكومية لتمرير دعمهم واجندتهم من خلالها بدلاً من تقديم التمويل للحكومات مباشرة. كما انه في حالة السودان ، لدى المانحين شكوك كبيرة بشأن الحكومة الحالية حتى لو لم يذكروهـا علنًا لأسباب سياسية ودبلوماسية.
?أضف إلى ذلك أن المانحين يعتقدون أن تمويل عجز كبير وهيكلي في الموازنة سيعطي الحكومة حافزًا خاطئًا يشجعها على عدم معالجة المشكلة. وبما أنه لن يقوم أي مانح بتمويل عجز كبير كل عام، فإن أي دعم للموازنة يؤدي فقط إلى تأجيل المشكلة في نظر المانحين، وهذا صحيح.
?وفي هذا السياق فإن صندوق النقد في تقريره الأخير وجه رسالة مبطنة للمانحين بعدم تقديم دعم للحكومة ( يختص غالبا بالموازنة) إلا بعد تنفيذ السياسات المطلوبة والثبات عليها فترة من الزمن. ويأتي ذلك التحذير لان الصندوق يخشى ان تتراجع الحكومة عن السياسات القاسية التي تبنتها تحت وطأة الضغوط وردود الفعل السياسية الرافضة.
?نظرًا لأنه من غير المحتمل أن يسفر مؤتمر باريس عن دعم كبير للموازنة، فإن المشكلة الاقتصادية السودانية ستظل كما هي ، أي، كما أوضحنا سابقًا، عجز مالي كبير يمول من مصادر تضخمية. وكل هذا يعني أنه في المدى القريب, في ظل رهان الحكومة الكامل علي الخارج, ستظل معدلات التضخم مرتفعة والقدرة التنافسية ستظل ضعيفة وسيستمر التدهور والانزلاق على الأزقة المتقهقرة نفسها.
?باختصار الحل الوحيد هو لجم الصرف الحكومي غير المنتج وتشجيع الإنتاج الذي يصاحبه تحسن العائد الضريبي ولن يأتي حل مشاكل الاقتصاد إلا من الداخل لأن العالم الخارجي لن ينقذنا حتى لو أتت فرقعات باريس طنانة.
? كم ذكرنا حكومة نبات القرع التي لا تمد جذورها الا الِي الخارج ان الحل في الداخل, لا في سراب المانحين ولم يكن ذلك موقفا سياسيا صرفا بل هو منظور يرتكز علي حقيقة الأشياء وطبيعة العون الاجنبي الذي يبدو ان حكومة نبات القرع لا تعي ربعه.