كنت قد حددت موقفاً شخصياً في عدم متابعة محاكمة فلول النظام البائد، ومرد ذلك لقناعتي أنها دون الطموحات التي اندلعت من أجلها ثورة ديسمبر المجيدة. غير أن صديقاً عزيزاً ألح عليَّ أن أشاهد وقائع (الحلقة) التي بُثت الأسبوع الماضي، فامتثلت لطلبه واقتطعت ساعتين ثمينتين من وقتي لمتابعتها. والحقيقة ذُهلت واندهشت وفُجعت على الرغم من علمي أن الذين أشاهدهم فاقوا سوء الظن العريض، كما قال عنهم الأستاذ المفكر محمود محمد طه. وقبل تناول الموضوع الرئيس أتمنى أن تكونوا شاهدتم تلك الصورة المأساوية المتخلفة التي أسفر فيها أصحاب المشروع الحضاري عن سوء أدبهم للمحكمة وسوء خُلقهم للقاضي (الطيِّب) الذي كان يعيد ويكرر في الشرح وهم لا يَرعوُن. شرذمة من شذاذ الآفاق وغوغاء البشر المنسوبين لمهنة المحاماة يتقدمهم ربيب الديكتاتوريات عبد الباسط سبدرات وقرينه في السوء أبو بكر عبد الرازق وآخرون من ذات الفصيلة. يقفون قبل أن يُسمح لهم، ويتحدثون دون أن يُؤذن لهم، ويخلقون هرجاً ومرجاً كما القطيع بعلو الصوت وانخفاض الذوق. وجميعهم يصلحون أن يكونوا ممثلين (كمبارس) في مسرحيات هزلية وليس في أماكن يُرفع فيها صوت العدالة!
(2) الجلسة كانت مختصة بسماع أقوال المتهمين التي أدلوا بها بمحض إرادتهم عند استجوابهم ودوَّنها المتحري من قبل. ويبدو أن بعضهم ما كان يظن أنها سوف تُتلى على الملأ ويسمعها رفاق السوء في القاعة، بل ويشاهدها جموع الناس عبر وسائل الإعلام، فبدأوا في التحلل منها بذات بدعة التحلل من الفساد صنيعتهم. ومن أكثر الأشياء مدعاة للدهشة تحلل بعضهم من الفكرة برمتها. وهم ممن كانوا يمشون بين الناس في خيلاء ويتبخترون بكبرياء ويتباهون برفع عقيرتهم يومذاك بتخاريف (هي لله، لا للسلطة ولا للجاه) وخزعبلات أخر افتروا بها على الله كذباً. هل شاهدتم ذلك الصمت المريع الذي اجتاح القاعة عندما كان المتحري يتلو في وقائع مقتل الشاب الوديع مجدي محجوب محمد أحمد؟ قلت لنفسي والكاميرا تتابع حركات عيونهم الزائغة، هل يا ترى يَمثِّلون أم أنهم أدركوا بشاعة ما يسمَّعون؟ وهل شاهدتم ذات الصمت الذي حاكى صمت القبور عندما كان إبراهيم نائل إيدام يسرد في وقائع مقتل الدكتور علي فضل رغم تقادم السنين؟
(3) شهادتان، بل قل اعترافين شفيفين من جملة آلاف الجرائم التي قامت بها العُصبة ذوي البأس يومذاك، كانتا كفيلتين بنصب المشانق في الطرقات. جريمتان فقط ارتعدت لها الفرائص وارتعبت لها الأعناق بمجرد أن شعروا بأن الأنشوطة اشتد وثاقها. لقد كتبنا كثيراً عن انحطاط تنظيم الحركة الإسلاموية، وظلنا على مدى أكثر من ثلاثة عقود زمنية نرصد موبقاتها ولم نستطع لها حِصراً. ومع ذلك عندما صدر الحديث من أفواه مجايليهم، كانت هناك بضع دقائق فقط كشفت للخلق المستور طيلة السنوات العجاف. بضع دقائق فقط أكدت بما لا يدع مجالاً للشك أنهم قوم نزعت الرحمة من قلوبهم. بضع دقائق فقط كانت كفيلة بوضع النقاط فوق الحروف. بضع دقائق فقط وضَّحت للناس كيف يفر الجبان من أخيه ومما صنعت أيديه وفكرته التي تأويه.. أقسم بالذي رفع السماء بلا عمد لو أن هؤلاء فيهم ذرة من إحساس لتواروا عن الحياة خجلاً قبل أن يُواروا. ذلك لأن الله يُمهِل ولا يُهمِل!
(4) هل شاهدتم ذاك الذي تكاد عيناه تخرجان من محجريهما تحت القناع؟ أليس هو ذات المخلوع الكذوب الذي كان يتبجح بوضع العالم تحت جزمته؟ هل شاهدتم كيف أن عينيه لا تستقران على شيء كما اللص الهلوع الجزوع؟ ظلتا عيناه تجولان في كل الاتجاهات كأنه يبحث عن شيء ضائع. وبالفعل لديه شيء ضائع اسمه القيم والأخلاق والمبادئ. لهذا كان يظن أنه خالدٌ في سدة السلطة أبداً، ولهذا طغى وتجبَّر وتكبَّر، وظن أن الآخرين مجرد صراصير يمكن أن يدوس عليهم بجزمته. ولهذا أيضاً كان يحلو له أن يرقص على آلام الأمة كلما ضُربت له الدفوف؟ ثمَّ أنظروا لذاك الذي يواري سوءته من الكاميرا كلما اقتربت منه. أليس هو نافع على نافع الذي كان يحكي انتفاخاً صولة الأسد؟ ألم تكن الديكتاتورية دينه والسلطة كعبته التي يطوف حولها آناء الليل وأطراف النهار!
(5) ثلاثون عاماً وأنتم تظنون أنكم خالدون في الحكم، حسبتم أنكم ستخرقون الأرض وتبلغون الجبال طولاً. فإذا أنتم اليوم أضعف من جناح بعوضة، تهيمون كالجرذان التي ليس لها حول ولا قوة. الكاميرات التي كنتم تتسابقون عليها والميكرفونات التي أدمنتم معانقتها، اليوم ترونها جحيماً لا يطاق. تخفضون رؤوسكم حتى لا يراكم ابناؤكم وبناتكم وأهليكم. بل لربما بعضكم يتمنى أن تخسف به الأرض قبل هذا اليوم. هل تستطيعون أن تقولوا لذريتكم أنكم كنتم مجرد عصابة ظنَّت أن الحكم نُزهة، وأنكم كنتم تخادعون الله وهو خادعكم؟ تعلمون الآن أنكم تعيشون أسوأ حالاتكم لأنكم كذبتم على هذا الشعب الصابر. بل أنتم في أسوأ حالاتكم لأنكم لم تعرفوا معنى الشعب، ولهذا كنتم تشعلون الحروب الواحدة تلو الأخرى لإبادته!
(6) تحاولون الهروب من الجحيم الذي واجهه أبطال هذه الأمة بقصص أشبه بالأساطير. لو كنتم قرأتم تاريخ هذا الوطن جيداً لكنتم قد تعلمتم ما لا تعلمون. لم تقرأوا سيرة عبد القادر ود حبوبة ولا أطلعتم على بطولة عثمان دقنة، ولم تستوقفكم مأثرة عبد الفضيل الماظ، عُميت عيونكم عن رؤية تلك الابتسامة الوضيئة للمعلم الشهيد الذي وقف كالطود الأشم على منصة الإعدام والحبل ملتف حول رقبته. أنظروا في جدران سجن كوبر الذي فيه تقبعون، ستجدون رتلاً من الأبطال كل واحدٍ منهم سيرته تملأ الآفاق. ألم تروا (دروة المدرعات) في الشجرة كيف واجه فيها الشجعان الموت الذي منه تحيدون. هل فيكم يعقوب كبيدة الذي طلب أن يتقدم رفاقه في الإعدام؟ هل تعرفون الشهيد بابكر النور الذي كان يردد (عاش السودان حراً مستقلاً) حتى ارتجف قناصوه؟ هل تأملتم سيرة الشباب اليفع الذين قتلتوموهم بدمٍ باردٍ في سبتمبر 2013م وبوحشية في ديسمبر 2018م وهم مقبلون على الموت بصدور مفتوحة؟ هل تعرفون الشابة رفقة (صائدة البمبان) التي أعجب مسلكها الأجانب؟ هل قرأتم عن كنداكات هذا الوطن في التاريخ الغابر وهن يقدن الجيوش أماني تيري وأماني ريناس وأماني شاخيتي؟ هل تعرفون حفيداتهن مندي بنت السلطان عجبنا ومهيرة بت عبود؟ أنتم تجهلون كل ذلك لأنكم عار على هذه الأمة الولود!
(7) سوف ترحلون عن هذه الدنيا للقاء الملك العادل الذي لا يُظلم عنده أحد، وسوف يطمس الناس وجوهكم الصدئة في ذاكرتهم، وسوف ينسون صوركم القميئة وأقوالكم الكريهة، ولكنهم لن ينسوا منظر عيونكم الذليلة وكأنها تستعطف القاضي. لن ينسوا ما أصابكم من ذل ومسكنة في هذه المحاكمات وإن لم تشف غليل المظلومين. كنتم محض سقط متاع في هذه الأمة، فأمضوا إلى مصيركم المحتوم... في الميتة أم رماداً شح! آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!