هل أسدل الستار وتمت مصادرة ثورة 19 ديسمبر ؟؟

 


 

 

المبتدأ: -
في مواجهة محاولات سرقة صوت الجماهير، وتزييف إرادتها، والانحراف بمسارها الثوري؛ تبرز قيمة الوعي الجماهيري وضرورات تطويره.
الخبر: -
مرة تلو الأخرى تثبت النخبة الاصلاحية السودانية التي نمت وترعرعت تاريخيا في حضن نظم الاستبداد، انها ليست فقط بعيدة عن وعي الجماهير وتطلعاتها أو منفية فحسب في شعاراتها وأوهامها، بل انها تكاد أن تكون الوجه الآخر لعملة نظم الاستبداد، فطول خضوعها وتعايشها مع وحش الاستبداد خلف فيها من فكره وعقليته الكثير وأفسد في دواخلها مفهوم التغيير؛ لتتحول بالتدريج اهدافها من صراع مبدئي واخلاقي مع الاستبداد؛ الى محض عراك بائس من أجل السلطة.
(1)
لقد استوعبت نظم الاستبداد التي تعاقبت على حكم السودان وفطنت لحقيقة أن النخبة السياسية الإصلاحية لا يهمها من أمر الشعب سوى كرسي السلطة على عكس النخبة الثورية التي تناضل من اجل مصالح جماهيرها وقد استغلت النظم المستبدة هذه الرغبة الانتهازية والشهوة المحمومة للنخبة الاصلاحية في تمديد سنوات حكمها من خلال إشباعها لشهوة قيادات الأحزاب الإصلاحية فطوت الكثير منهم تحت جناحها ووضعتهم تحت ابطها؛ داخل مؤسسات صورية خلقتها كبرلمانات (الاجماع السكوتي) التي انشأها نظام الحركة الإسلامية أو مناصب شكلية دون صلاحيات حقيقية كمنصب (مساعد رئيس الجمهورية) والهدف من وراء ذلك معلوم وهو سحب شرعية تمثيل هذه النخب للشعب بعد تلويثها وافسادها وفي أحيانا كثيرة تدفع دفعا غير رحيم لتنفيذ الملفات القذرة وتتحمل تبعاتها حين يتم التخلص منها ذليلة مكسورة بعد ان يقضي نظام الاستبداد منها وَطَرَه.
(2)
الثورة السودانية التي فجرتها القوى الثورية واشعل فتيل مرجلها الشباب، صودرت بدهاء من قبل قوى الهبوط الناعم وقوى إقليمية مساندة لها؛ وقد تمت هذه المصادرة على مراحل تمثلت المرحلة الاولى في طرح شعار جماهيري عفوي يدعو لرحيل النظام (تسقط بس)، وفي المرحلة الثانية تم تنفيذ هذا الشعار بقوة دفع القوى الثورية والشبابية، ورغم ان الجماهير كانت تمضي في اتجاه تصعيد شعاراتها وضغوطها من اجل تحقيق نصر حاسم وتغيير جذري يلبي مطالبها في (الحرية والسلام والعدالة)؛ إلا أن تدخل قوى الهبوط الناعم وعقدها لشراكة آثمة مع المكون العسكري من خلف ظهرها؛ أدى لوضع العقبات أمام تصاعد المد الثوري وايقافه عند حد سقوط رأس النظام دون المساس ببقية بنية النظام الذي خلف فكره وطريقة ادارته للدولة المعمول بها حتى اليوم، واما في المرحلة الثالثة فقد تم الاخلال بكافة التعهدات التي تضمنتها الوثيقتين السياسية والدستورية على علاتها ومصادرة حق القوى الثورية والشبابية في التمثيل في السلطة الانتقالية؛ وتم تشكيل حكومة انتقالية قيل عنها انها حكومة كفاءات؛ حاول افراد من طاقمها الوزاري الالتزام بالبرنامج الثوري المتفق عليه إلا أن قوى الثورة المضادة بمساندة الأجهزة الأمنية وبصمت وتواطؤ بعض القوى المدنية كانت بالمرصاد لتلك المساعي؛ حيث سعت لوضع العراقيل أمامها وفتحت نيران النقد الهدام على وزيري الصحة والتربية والتعليم ومدير منهاجه التعليمية؛ فعزل الأول وحجم اثر الثاني حينما آثر مدير المناهج تقديم استقالته تحت وابل من الهجوم الذي وصل حد التكفير؛ ليتم حل الحكومة في نهاية المطاف وإعادة تشكيلها من قوى الهبوط الناعم وإقصاء بقية مكونات التحالف الثورية.
(3)
لتنفيذ مراحل مصادرة ثورة 19 ديسمبر وضع الشعب السوداني ولا يزال، تحت ضغط أجواء جرائم متلاحقة وانفلات امني مدروس؛ وذلك لنشر الخوف والذعر حتى يخضع ويتوقف عن المطالبة بتحقيق شعارات واهداف الثورة؛ ويغدو المطلب الرئيسي له هو تحقيق الأمن والأمان وليس المشاركة الفاعلة في صياغة المستقبل، في هذه الأجواء الملبدة بالرعب تمكن المكون العسكري الذي أصبح بقدرة قادر شريك في الثورة وفي سلطتها وبدعم من شركاء مدنيين في الداخل وحلفاء طامعين في الخارج، من الاحتفاظ ببنية النظام القديم والمحافظة على كوادره القابضة على مفاصل الدولة.
(4)
وبمعنى ادق قد تم ادخال النظام القديم لغرفة العناية المركزة وإنعاشه ليستعيد عافيته وينشط في وضع العوائق والعراقيل امام سلطة الفترة الانتقالية؛ التي فشلت في توفير احتياجات المواطن المعيشية؛ من خبز وكهرباء وحتى الماء شح في احياء العاصمة الخرطوم التي تقع بين ذراعي نهر النيل العظيم؛ وجن جنون السوق وارتفعت الأسعار وتهاوت قيمة العملة الوطنية لتبلغ نسبة التضخم ارقام فلكية؛ وكل ذلك بفعل فلول النظام البائد التي تمسك بتلابيب مؤسسات الدولة تحت سمع وبصر الشراكة المدنية العسكرية المعلولة.
(5)
لقد تم قطع الطريق على عملية التغيير الجذري بخيانة مخزية من مكونات مدنية في تحالف قوى الحرية والتغيير؛ اقرت الشراكة مع المكون العسكري من خلف ظهر القوى الثورية والجماهير؛ وكل الذي حدث بعد ذلك ويحدث اليوم ما هو إلا عملية استنساخ وقحة للنظام الذي ثارت عليه الجماهير؛ ان خيانة النخبة السياسية السودانية الإصلاحية لشعبها في المنعطفات التاريخية وفي لحظات التحول والنهوض الثوري ليست جديدة. وفي اعتقادي إن النخبة السياسية الإصلاحية السودانية هي من أكثر النخب السياسية انتهازية وسطحية؛ حيث لا يحتاج أي حزب او تنظيم سياسي منها لأكثر من منصب في أي سلطة كانت؛ حتى يتخلى عن مبادئه وشعارته وحتى عن جماهيره من اجل اشباع رغبات واشواق ذاتية مريضة. لقد شهدنا كيف صادرة ذات النخبة السياسية الاصلاحية تضحيات الجماهير في ثورتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م وها هي تحاول مرة أخرى مصادرة تضحيات واحلام الشعب السوداني وشبابه الثائر.
(6)
لقد مثلت ثورة 19 ديسمبر 2018م في السودان نقلة نوعية في تاريخ الثورات بتجاوزها للنخب السياسية التقليدية؛ واعتمادها على الطلائع الثورية ممثلة في الحزب الشيوعي ولجأن المقاومة التي تضم العديد من شباب الأحزاب الاخرى؛ التي وعت حقيقة أن الشعوب في لحظة انفجارها الثوري لا تحتاج الى من يصف لها طريق الخلاص؛ لكنها تحتاج في لحظة الانتصار الى من يستثمر نصرها ويحوله لطاقة وقوة دفع إيجابية؛ تنقل الوطن بسلام من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة، فالكثير من الثورات تضيع وتسرق؛ في لحظات نصرها؛ على يد النخب الانتهازية الخبيرة بفنون التبرير لمنطق التسويات؛ والصفقات؛ والمساومات.
(7)
ما ينفذ اليوم من برامج اقتصادية وسياسية تحت اشراف القوى الإصلاحية التي اختطفت الثورة السودانية؛ لا تختلف للأسف عن برامج النظام البائد والمؤسف أكثر أن هذه السياسات المجربة تنفذ بكل بصفاقة أذهلت المواطن السوداني، وادخلته في أجواء سوداوية من الإحباط والقنوط؛ وها هي الجماهير التي كانت بالأمس تتفجر ثورة وحيوية؛ تغرق في جب ظلام داخلي صنعته صدمتها في قيادات خدعتها وصادرة ثورتها؛ ووضعت الشعب والوطن برمته أمام تحديات تمس كرامته وتهدد صميم وجوده. عندما يوضع أي شعب في مناخ من الاحباط، يفقد تلاحمه وقوة دفعه الثورية وتصبح الفكرة المحورية المسيطرة على عقله هي كيفية النجاة من محرقة هذا الواقع البئيس؛ وهو منطق غريزي مشروع. إنها إذا عين سياسة (الصدمة) الملعونة التي أسس لها واستخدمها النظام البائد؛ والتي تتلخص في: دع الشعب يعيش الرعب والاحباط والمصير المجهول؛ لتتمكن النخبة المسيطرة العبث من خلف الأبواب المغلقة بمصيره وتستطيع عقد الصفقات والتسويات المشبوهة.
(8)
القوى الثورية التي تجاوزت النخبة السياسية التقليدية؛ واشعلت شرارة ثورة 19 ديسمبر ودفعت بطلائعها للصفوف الامامية في أشد لحظات الثورة خطر، باذلة التضحيات الجسورة ومتحملة عبء المواجهة والصدام مع أجهزة نظام الاستبداد، لم يكن ليخطر في بالها ان نخب الإصلاح ؛ التي التحقت بالثورة في مراحلها المتأخرة والأقل خطراً؛ هي نفسها التي ستعمل على اقصائها في لحظة النصر وتتحالف مع جنرالات العهد البائد للانحراف بالثورة عن مسارها المرسوم؛ وتعيد ترتيب كامل المشهد وفق منطق المساومات بمفاهيم برغماتية بعيدة كل البعد عن شعارات واهداف الثورة وعن أحلام وطلعات الجماهير وقواها الثورية صانعة التغيير؛ وهكذا وبكل وقاحة تمت عملية مصادرة ثورة 19 ديسمبر؛ ولكن هل حقا اسدل الستار وانتهى الامر عند هذا الحد؟!! لا أعتقد ذلك فمن واقع ما يلمسه المرء من إصرار القوى الثورية وحرصها على استعادت الثورة لمسارها الصحيح؛ يتضح أن الستار لن يسدل على هذا المشهد الكئيب الغارق في العبثية؛ وثمة سحب كثيفة تتلبد في سماء الخرطوم؛ منذرة بعواصف صوارِمُ قادمات؛ نذرها الأولى بدأت تلوح بالدعوة لمليونية الثالث من يونيو القادم.
تيسير حسن إدريس
01/06/2021م

tai2008idris@gmail.com

 

آراء