عودة الى مؤتمر باريس (1+2) الفرصة الرابعة؟
السر سيد أحمد
6 June, 2021
6 June, 2021
أعاد مؤتمر باريس تسليط الاضواء على امكانيات السودان الطبيعية وموارده الهائلة، الامر الذي يتيح أمكانية أيجاد شراكات مع مؤسسات مالية اقليمية ودولية تساعد البلاد في جانبي التمويل والخبرة يمكن من خلالهما تحقيق قفزة نوعية في أداء البلاد الاقتصادي.
وتعتبر هذه هي الفرصة الرابعة التي تتاح للسودان والامل أن يتم أقتناصها والا تهدر كما أهدرت ثلاث فرص من قبل وأنتهى الامر بالبلاد الى أسوأ مما كانت عليه قبل كل واحدة منهما.
الفرصة الاولى كانت عقب الاستقلال مباشرة اذ تمتع السودان بخدمة مدنية وأدارية جيدة وفائض مالي معقول أدت الى القيام ببرامج تنموية في الاعوام 1957-1961 وهو العام الذي تم فيه وضع الخطة العشرية، وهي أول خطة تتبنى مفهوما شاملا للتنمية، رغم المثالب التي شابتها، مع أعطاء نصيب مقدر للقطاع الخاص، لكن أطاحت بها وبالنظام العسكري الاول الذي وضعها أنتفاضة أكتوبر 1964.
جاءت الفرصة الثانية في مطلع سبعينات القرن الماضي بعد أن نجح السودان في وضع جد للحرب الاهلية مما أتاح التركيز على الجانب الاقتصادي، وهو ما تعزز بأرتفاع أسعار النفط وبرز بالتالي شعار تحويل السودان الى سلة غذاء للعالم العربي من خلال استثمار فوائض النفط في الموارد الطبيعية السودانية والاستناد الى التقنية الغربية وكان ألنموذج الساطع لهذا التوجه مشروع سكر كنانة، وهو أنجح مثال للاستثمارات العربية في السودان الى اليوم، اضافة الى طريق الخرطوم- بورتسودان الذي شهد مشاركة الصناديق العربية والصين في التمويل والتنفيذ وكذلك الشركات الايطالية وتأسيس الهيئة العربية للأاستثمار والانماء الزراعي في الخرطوم، الامر الذي يشير الى ان فكرة المشاركة في مشروعات التنمية وعدم الاقتصار على المنح والمعونات ليست اكتشافا جديدا. وهذه هي الفترة التي أدى فيها التفرد بالقرار وسوء الادارة الى تعثر الكثير من المشروعات وعدم وصولها الى المرحلة الانتاجية وبالتالي الى العجز عن سداد الديون وتراكم الفوائد واليها يرجع الجزء الاكبر من ديون السودان الحالة ومتأخراتها التي تقدر بحوالي 60 مليار دولار.
الفرصة الثالثة تمثلت في عقد البترول الذي استمر منذ بدء التصدير في 1999 وحتى انفصال الجنوب في 2011. ويعتقد انه دخلت خزينة الدولة ما بين 30 مليار الى 35 مليار دولار، هو أكبر مبلغ بالعملات الصعبة يحصل عليه السودان طوال تاريخه. وفي مطلع العام 2008 مثلا تجاوز سعر برميل النفط حاجز المائة دولار لآول مرة في التاريخ بسبب تصاعد الطلب وقلة المعروض وحصلت الدول المصدرة على عوائد أضافية لم تكن في الحسبان. ويقدر ان السودان حصل وقتها على ما بين مليارين ونصف المليار الى ثلاثة مليارات دولار اضافية كان يفترض تخصيصها للقطاع الزراعي الذي كان يحتاج الى أربعة مليارات دولار لاحداث نهضة حقيقية، لكن واقع الحال يشير الى ان السودان أصيب وقتها بالمرض الهولندي وأعتمد على ريع عائدات النفط وتدنى بالتالي معدل النمو في القطاع الزراعي الى 3.6 في المائة/العام في السنوات العشر التي شهدت الفورة النفطية مقابل نسبة نمو تجاوزت 10.8 في المائة في هذا القطاع في العقد الذي سبق تصدير النفط.
النقطة الرئيسية في هذه التجارب الثلاثة انها تمت تحت راية أنظمة عسكرية بكل ما فيها من تفرد في أتخاذ القرار مما يفتح الباب أمام الفساد وسوء الادارة، وهو ما أدى الى أهدار هذه الفرص وتراكم الديون واستمرار تدهور الوضع الاقتصادي.
هذه المرة الهدف تحقيق طفرة تنموية وفي الخدمات وفي أطار نموذج سياسي مختلف يسمح بالمشاركة الشعبية مع حرية للتنظيم والاعلام، الامر الذي يتطلب تناولا مختلفا ينطلق بداية من تحقيق قدر من الاستقرار السياسي والا أصبح الامر حرثا في البحر. فأول مؤشرات النجاح لآي جهد تنموي أن يتبناه الناس المستهدفين بهذه المشروعات وأن يسهموا في التنفيذ، الامر الذي يتطلب قدرا أكبر من الشفافية تتجاوز ما طرح في باريس أو عبر مجهود بعض البرنامج التلفزيونية التي قدمت اضاءات جيدة لكنها تحتاج الى المزيد سواء عبر تحديث المواقع الالكترونية لمختلف الوزارات ونشر تفاصيل هذه المشروعات وأقامة ورش نقاش مفتوحة حولها وغير ذلك من أليات.
أن مؤتمر باريس يعتبر في التحليل النهائي نافذة تحتاج الى الولوج من خلالها عبر جهد منتظم بجدية أكبر وترتيب أفضل للاولويات. فمثل هذه المؤتمرات يتم تقييمها عبر ثلاثة معايير: عدد الاتفاقيات النهائية التي تم أبرامها، أو مذكرات التفاهم التي تم توقيعها بين طرفين سوداني وأجنبي وتعكس عادة قدرا أكبر من الاهتمام يمكن تطويره الى أتفاقيات شراكة ملزمة باستثمارات واضحة وأجال زمنية معلومة، وهناك النوع الثالث المتمثل في حضور العروض الترويجية وابداء قدر من الاهتمام أو حتى الحماس، لكنه لم يترجم الى شيء ملموس وفي الغالب فأن أفضل ما يمكن أن يتمخض عنه هذا الحماس أو الاهتمام أن تأتي وفود للمتابعة بخصوص هذا المشروع أو ذاك. وهذا النوع الثالث هو ما خلص اليه مؤتمر باريس، باستثناء العقد الذي تم أبرامه مع شركة قولد الكندية، وهو في واقع الامر تمديد لعمل الشركة في مربع 14 والتعدين عن الذهب في ولاية نهر النيل الذي تعمل فيه تلك الشركة منذ العام 2018.
بل ويمكن المضي خطوة أخرى والقول انه حتى الاعلانات التي صدرت ليس فيها جديد. فمثلا منحة الملياري دولار من البنك الدولي أعلن عنها ديفيد ميلباس رئيس البنك في 27 مارس، أي قبل سبعة أسابيع من مؤتمر باريس. ونفس الشيء مع قرار فرنسا توفير مبلغ الميار ونصف مليار دولار لتسوية ديون السودان على صندوق النقدالدولي الذي أعلن عنه الديبوماسي الفرنسي جان ميشيل دوموند مبعوث باريس الى كل من الخرطوم وجوبا وذلك في الحادي والعشرين من أبريل، أي قبل ثلاثة أسابيع من المؤتمر. أما مبلغ 700 مليون دولار من بنك الاستيراد والتصدير الافريقي فيمثل لغزا بالنسبة لي. فحسب افادات مسؤولين حكوميين انهم كان يخططون ليطلبوا من هذا البنك جدولة ديون السودان لديه واذا به يفاجأهم بتخصيص هذا المبلغ تحديدا لمشاريع الطاقة والاتصالات. ولست أدري متى وكيف تحولت البنوك الى مثل هذه الاريحية؟ المهم لننتظر ونر ماذا سيكون عليه الوضع بعد قدوم وفد البنك للمتابعة.
وهذا ما ينقلنا الى جانب الاعداد بصورة أفضل للوفود التي يتوقع حضورها للمتابعة لبعض المشروعات. وبحسب المعلومات المتناثرة التي تجمعت ومن مصادر مختلفة لا يجزم المرء بمدى دقتها فقد تولد عندي احساس أرجو الا يكون دقيقا أنه لم تكن هناك معايير لآختيار المشروعات التي ستعرض. فالمشروعات التي قدمت في باريس تبدو وكأنها قائمة مشتروات قامت كل وزارة بأعداد قائمتها التي ترغب في تمويلها بغض النظر عن مشاركة مؤسسات أخرى في الدولة. فمثلا مشروع الهواد ليس واضحا الى أي مدى هو معتمد من وزارة الري التي لديها خطة رئيسية منذ سبعينات القرن الماضي يتم تحديثها باستمرار وليس الهواد من بينها. وغياب التنسيق المؤسسي كان أحد مقاتل التجارب الثلاث السابقة. وأيضا مدى ملائمة بعض المشروعات لمحفل دولي مثل مؤتمر باريس. فمثلا مع مشروعات للسكة الحديد أو أستخراج الرخام والجرانيت وغيرها بكلفة تتراوح بين المليار والملياري دولار هناك مشروع للأستزراع السمكي يغطي اربعة ولايات وبتكلفة 50 مليون دولار، أو مشروع بناء خطوط أنابيب داخلية لنقل المنتجات النفطية. فهذه من نوع المشروعات التي يفترض أن تقوم بها الحكومة أو تتمكن عبر ألياتها من الاتفاق مع شركة خاصة سودانية أو أجنبية على تنفيذها بصورة مباشرة. صحيح الكل يعرف بالوضع المالي الصعب الذي تعيشه الحكومة لكن أن تطرح مثل هذه المشروعات الصغيرة في محفل دولي عام يشير الى مدى حاجة الحكومة الى أي أموال أجنبية، الامر الذي يمكن أن يعرضها الى ضغوط للقبول بشروط مجحفة للأستثمار.
ومع أنتظار وفود المتابعة المأمولة للمزاوجة بين موارد السودان الهائلة والاستثمارات الاجنبية هناك حاجة الى جهد داخلي أستثنائي ليؤتي أكله في أربعة مناطق محددة: تحسين قدرات الاحصاء والارقام وتلك الادارية والقانونية، وتوفير القوى البشرية عبر تدريب مكثف للعمل في هذه المشروعات. والمنطقة الأخيرة ما يطلق عليه المكون المحلي للأستثمارات. فالدولارات للمشروعات المقترحة تحتاج الى ما يقابلها من العملة السودانية، وهو ما كان مأمون بحيري يطلق عليها العملة الاصعب. ويمكن معرفة أبعاد هذا التعبير وضعا في الاعتبار أن ميزانية الدولة ظلت منذ سنين عددا تقتصر فقط على الرواتب والتسيير. فمثلا مشروع الهواد الزراعي الذي قدم في المؤتمر تبلغ تكلفته 400 مليون دولار ويشتمل هيكل تمويله على 40 في المائة عبارة عن مكون محلي.
(غدا: ملاحظات على المشروعات النفطية)
asidahmed@hotmail.com