رئيس الوزراء حمدوك بين متاهتين 

 


 

 

أن خطاب رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أثار العديد من القضايا التي تحتاج إلي حوار هاديء جدا بين المكونات السياسية في المجتمع، و الانتقال من مرحلة الشمولية إلي الديمقراطية يحتاج إلي صبر و حكمة، و الجدل المعرفي الذي يجعل الوطن علي قمة الأولويات. الملاحظ أن المتسيدة الآن في الساحة  السياسية هي الثقافة التي خلفها النظام الشمولي السابق، و هي التي تتحكم في كل الإجراءات و المعاملات، و هي الثقافة المعروفة لدى الناس باعتبار أنهم يمارسونها ثلاثين عاما، أن الأطفال الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 10 إلي 15 سنة عندما استلمت الجبهة الإسلامية الحكم هم الآن في المواقع القيادية، و هؤلاء هم الذين يديرون مؤسسات الدولة، و لكي تنقلهم من اسلوب عمل اعتادوا عليه إلي أسلوب جديد يحتاج لزمن، و ليس شرط أن يكون هؤلاء من عناصر المؤتمر الوطني، بل من أبناء الشعب عامة، لكن هذه خبرتهم التي اتكسبوها أثناء النظام السابق. و للأسف أن بعض السياسيين يعلمون ذلك...! و بدلا من الأخذ بيدهم و تعليمهم من خلال التدريب الأسلوب جديد، يتهمون جميع العاملين في الدولة بأنهم مؤتمر وطنى للحصول علي مواقعهم، و أيضا في مؤسسات الدولة تنشط العناصر التي لا تملك أي قدرات لكي تتهم الآخرين لكي تحصل هي أيضا علي مواقع. كل ذلك كان يجب أن يستوعبه رئيس الوزراء لكنه لم يفعل، بل ذهب هو نفسه في طريق الشلة، الدولة العميقة أصبحت تبرير للأخطاء، الممارسات غير القانونية التي درج عليها البعض.

قال رئيس الوزراء في بداية خطابه قبل يومين "أبدأ بالقول إنني أعي تماماً حقيقة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي تمر بها بلادنا؛ أعرف أن هنالك من يحاول الإيحاء بأننا نعيش في برجٍ عاجي، وربما مردّ ذلك أنني لم اعتد على التحدث كثيراً أو الظهور في كل وقت، فمنهجي أن أترك للسياسات والقرارات أن تتحدث" و يجب أن يعلم حمدوك أن هناك فرق كبير بين رئيس وزراء جاء بالانتخاب، و رئيس وزراء جاءت به شرعية ثورية، دائما الأخير يكون مرتبط بالشارع، من خلال تنظيم مؤتمرات صحفية دورية يرد فيها علي تساؤلات الشارع، و أيضا يبلغ بالمشروع الذي يعمل عليه، لكي يجعل الشارع يستوعب عملية الإصلاح الاقتصادية و السياسية معا، و أيضا يخلق جدلا فكريا عميقا حول المسألة الاقتصادية، بهدف استفزاز العقل الاقتصادي وسط الناس أن يقدم ما عنده، و ربما تكون هناك رؤى عند البعض تساعد علي التعجيل بالحلول، لكن رئيس الوزراء لم يفعل، و حتى الشارع لم يحث بشيء غير التصاعد المتواصل لاسعار السلع و سوء في الخدمات. يقول حمدوك لم اعتد علي الحديث، هنا الناس لا تريد أن " تتونس معاك" يريدون المشاركة الفاعلة في بناء الوطن يد بيد، إذا كنت أنت خبيرا اقتصاديا في المؤسسات العالمية. يوجد داخل السودان خبراء اقتصاديون أيضا يعرفون كيف يعالجون مشاكل الفقر و الاسراع بعملية التنمية، لا تتجاهل الطاقات الإبداعية في البلاد، هؤلاء لم تعطيهم الإنقاذ فرصة و خانتهم الأحزاب السياسية عندما لم تلتفت إليهم و حولت أعينها خارج البلاد لتبحث عن آهل المنظمات العالمية، أعطيهم أنت هذه الفرصة، فالحوار يفتح أفاق رحبة للإبداع و تقديم المبادرات و أيضا يعزز الثقة بين الناس.

و عن الدعم الاجتماعي قال حمدوك " فيما يخص الواقع الآن وآثار المرحلة الحالية من المعالجات الهيكلية لاقتصادنا وضعنا عدداً من التدابير والمعالجات لتخفيف آثار هذه الإجراءات منها أن ابتدرنا برامج الدعم الاجتماعي، برنامج الدعم الأسري ثمرات، وهو معني بتقديم دعم نقدي مباشر لملايين المواطنين." السؤال المباشر لرئيس الوزراء لماذا لم تعكف الدولة علي حصر الذين يجب أن يستفيدوا من برنامج " ثمرات" قبل رفع الدعم و تكون الدولة بالفعل قد استطاعت أن تحد عملية الحاجة.؟ لكن أن ترفعوا الدعم لأنكم تسارعون الخطى لترضية المؤسسات الدولية دون الشعور بمعاناة الناس هو عدم الأحساس بمعاناة الأخرين و الجلوس علي البرج العاجي، و كان في يدكم أن تتجاوزا هذه القضية، هذه يجب أن يتحمل مسؤوليتها رئيس الوزراء. و يقول بكل شجاعة قد أخفقنا في هذه، أما قضية إصلاح هياكل الاقتصاد لا يلومكم أحد. اللوم يقع في الأشياء التي ليست في أيديكم و تقاعستم عنها.

يقول حمدوك عن الصراع في قوى الحرية و التغيير "أن التدهور الأمني الآن يعود بالأساس للتشظي الذي حدث بين مكونات الثورة، والذي ترك فراغاً تسلَّل منه أعداؤها وأنصار النظام البائد، ولكن قوى الثورة لا مجال أمامها سوى أن تتوحد وتعيد تماسكها وتُنظِّم صفوفها، فهي بوحدتها فقط قادرة على حماية الثورة وقيمها وأهدافها، فتشتُّت قوى الثورة هو الذي يدفع أعداءها للتحرك والتآمر. كما إننا ندرك أهمية وجوهرية مهمة إصلاح القطاع الأمني وهي مما نضعه نصب أعيننا ونعمل لأجله ليل نهار، فبدون اجراء هذه الإصلاحات الضرورية ستظل بلادنا نهباً للمخاطر الداخلية والخارجية"  هنا "Disturb concept" أن التشظي الذي حصل بين قوى الثورة كان متوقعا لأنها قوى متباينة في أفكارها و ثقافتها السياسية، لكن كان المتوقع أيضا أن تبرز القيادات ذات الحكمة و تشتغل بالفكر، لكي تجعل الصراع يدور في مواعين ديمقراطية، كل يحاول أن يقدم رؤيته و تحسم القضايا بالتوافق الوطني، لكن للأسف هناك قوى سياسية تريد أن تفرض شروطها علي الأخرين، باعتبارها هي الأب الشرعي للثورة، و علي الأخرين الانصياع، و هناك قوى تعرف أن رصيدها الاجتماعي ضعيف جدا هي تريد أن تستثمر الفترة الانتقالية للكسب الحزبي، و هناك أيضا حركات تتباين في مواقفها بين الذاتي و الوطني، كل ذلك كان يحتاج لاتساع دائرة المشاركة و فتح العديد من قناوت الحوار بدلا عن التخوين، و كان على رئيس الوزراء و حتى العسكريين أن يشترطوا علي الأحزاب إما أن تشارك في السلطة التنفيذية " السيادي – الوزراء" تصبح 80% من مقاعد التشريعي للجان المقاومة و عناصر اخرى أكاديمية و قوى مدنية حتى تكون عملية المراقبة و المحاسبة لها وقعها، و إما ترفض عدم المشاركة في السلطة التنفيذية، و تعطى ثلث مقاعد التشريعي. لكن الآن أصبحت هي في السلطة التنفيذية و تريد أن تتحكم في المجلس التشريعي هذا يقود للفساد السياسي و الاقتصادي و عدم الشفافية معا. لآن المحاسبة سوف تنعدم. و رئيس الوزراء و معه العسكر يفضلون أن يكونوا هم السلطة التنفيذية و المجلس التشريعي و يتحكمون في السلطة العدلية، فهل بعد ذلك رئيس الوزراء يعمل في صمت أن يريد أن تتحول الفترة الانتقالية لسلطة شمولية. مع أهل البندقية و مجموعة من الأحزاب التي لا تمتلك قواعد اجتماعية.

يحاول حمدوك اللوم للحزب الشيوعي الذي أعلن جهارا نهارا أنه ساعي لإسقاط الحكومة، و هذا حق يتماشى مع الوثيقة الدستورية، و الحق مكفول للكل ماداموا يسلكون الطرق السلمية، لكن حديث الإسقاط دائما تضجر منه القوى غير الديمقراطية، و الأحزاب الصغيرة التي لا تملك قاعدة اجتماعية. و رئيس الوزراء منزعج من ذلك حيث قال " لقد رأيتم ما آلت إليه الأمور في الأيام الماضية من أجواء تنذر بالفوضى وإدخال البلاد في حالة من الهشاشة الأمنية؛ الحقيقة أن بلادنا مهددة بالدخول في حالة من التشظي والانقسام بسبب تدهور الأوضاع الأمنية؛ تحوَّل الأمر في بعض الحالات من تحركات للتعبير عن الرأي إلى أحداث سلبٍ ونهبٍ للممتلكات وترويع المواطنين في عددٍ من المناطق، واعتداءات مباشرة، سبقتها حوادث قتلٍ وتعدٍّ على عددٍ من الثوار. وهناك حالات عنف واعتداء على النساء بصورة غير معهودة" القضية ليست بالصورة التي يعكسها رئيس الوزراء، لكن المبالغة في القول يعني التمهيد لإتخاذ إجراءات أو إصدار قانون يمنع الخروج، و يحد من عملية التعبير الجماهيري، خاصة في ظل شارع منقسم علي نفسه بسبب الصراع الداخلي لقوى الحرية و التغيير، الأمر الذي سوف يصعد من المواجهة، أن الشباب الذين صنعوا الثورة و دفعوا فيها مهرا غاليا لا يمكن أن يتنازلوا عن حق اشتروه بدمائهم.

لذلك يتراجع في ذات الخطاب حمدوك بعد حاول أن يوصف حالة التشظي و يناشد بقوله "إن وحدة القوى التي صنعت الثورة والتغيير، من أحزاب وحركات وتجمعات ومنظمات مجتمع مدني ولجان المقاومة والنقابات وتجمعات المهنيين وأطراف العملية السلمية، أمر حتمي لاستمرار الثورة وانتصارها، والمدخل لوحدة كل هذه القوى هو الحوار الحر والمفتوح بينها بلا استثناء، وأبوابنا وقلوبنا مفتوحة للمساهمة في هذا الحوار" أن الذي يتعمق في دراسة القوى السياسية السودانية، يتأكد له أنها لا تستفيد من تجارب الماضي، و يستطيع أن يتنبأ كيف تتصرف هذه القوى عند الأزمات. أن القوى السياسية السودانية التي تفاجأت بالثورة، و لم يكن في اعتقادها أن هؤلاء الشباب العزل قادرين علي إزالة نظام لديه العديد من المؤسسات القمعية الرسمية و غير الرسمية، و سوف تتراخى فرائيصهم أمام هتافاتهم الداوية، و يسقط عرش النظام الديكتاتوري. الأحزاب تحاول بكل هذا الصراع غير المبرر أن تثبت وجودها بصطناع الأحداث التي لا تقدم و لا تأخر، البعض يريد أن تمتد الفترة الانتقالية متعللا بعدم انجاز المهام، و أخرين يريدون مزيدا من المكاسب الشخصة و الحزبية، و كلها حجج تكشفها الإيام. و قوى الحرية و التغيير لن تعود إلي سابق عهدها لقد دق بينها عطر منشمي، و كل وجه وجهه نحو مبتغاه.

إذا انتقلنا إلي قضية العدالة يقول فيها رئيس الوزراء "أخيراً فإن موضوع العدالة يظل الموضوع الأكثر أولوية، وكما قلت فإن حرصنا على استقلالية مؤسسات العدالة لن يمنعنا من المساهمة في الدفع بكل ما نستطيع حتى تتحقق وحتى يجد كل صاحب حقٍ الإنصاف، وسوف نعمل مع كل الأطراف المعنية على تسمية النائب العام ورئيس القضاء، والشروع في استكمال المؤسسات ذات الصلة" أن عدم أكتمال مؤسسات العدالة مسألة تمت بقصد و رئيس الوزراء مسؤول عنها، و معه قوى الحرية و التغيير و المجموعة العسكرية، فالعدالة أهم الأعمدة التي تؤسس عليها عملية التحول الديمقراطي، و هي الفارق الجوهري بين النظام الشمولي و الديمقراطي. و لذلك تقاعس الجميع في تكوين المحكمة الدستورية و الاستئناف و أكتمال الهيئة القضائية و النيابة العامة، حتى تكون مؤسسات اعتبارية تكمل هياكل السلطة، و هي مؤسسات غير مسموح للسلطة التنفيذية التدخل في شأنها، كما حدث من إقالة للنائب العام و رئيسة القضاء من قبل نائب رئيس مجلس السيادة، و هو أمر غير مقبول دستوريا، و هؤلاء تعودوا خرق الوثيقة الدستورية دائما لذلك لا يريدون قيام المحكمة الدستورية. البلد في حاجة ماسة لقيام المؤسسات العدلية. فهل يصدق حمدوك بالفعل في الشروع في تكوين هذه المؤسسات أم نوع من التخدير فقط ثم العودة لسلوك الشخص Indifferent" "

و العلاقة بين المدنيين و العسكر يقول عنها حمدوك "طالما تحدثت عن أهمية الشراكة وعن ضرورة إنجاحها، والحقيقة أن الشراكة القائمة الآن هي نتيجة للوثيقة الدستورية واتفاق السلام،  بل إن الحكومة الانتقالية نفسها هي نتيجة لهذه الشراكة التي لا تخلو من التحديات. ولكن تظل مسؤولية إنجاحها مسؤولية جماعية لكل مؤسسات الحكم الانتقالي، والتي ينبغي أن تعمل مع بعضها لمواجهة هذه الصعوبات، ولن ينجح هذا الأمر دون مشاركتكم جميعاً والعمل من أجل استكمال مؤسسات الانتقال وعلى رأسها المجلس التشريعي" أن الذين ينطلقون من رؤية مدنية السلطة يبحثون عن تبريرات لمواقف سابقة، و عجزوا أن يقدموا مبادرة وطنية يقتنع بها الناس. أن الشراكة التي نصت عليها الوثيقة الدستورية يجب أن تسير حتى نهاية الفترة الانتقالية، و تسير بتناغم كامل حتى تنجز مهام الفترة، و أي محاولة للخروج منها تعتبر مزايدة سياسية غير مقبولة.

كان المتوقع من الأحزاب السياسية أن تلعب الدور الجوهري في عملية الوعي السياسي، و تضع خطط لعملية التحول الديمقراطي، و ليست هي عملية فيها استبدال موظفين بآخرين، هي عملية ثقافية متكاملة تنتج فيها القوى السياسية الثقافة الديمقراطية من خلال منافذ و منابر عديدة في المجتمع حتى تنداح علي الثقافة الشمولية، هي عملية عقلية تزيل كل رواثب الماضي و تنطلق نحو أفق جديد، لكن للأسف أن الأحزاب حصرت نفسها في دائرة السلطة و المحاصصات و لا تستطيع أن تخرج من هذه الدائرة بسب الضعف الفكرى عندها الذي لا يؤهلها أن تقدم مبادرات البناء الوطني. نسأل الله حسن البصيرة.


zainsalih@hotmail.com

 

آراء