حول الجرائم العابرة للحدود في السودان

 


 

 

تُعد "الجريمة المنظمة العابرة للحدود" من أخطر أنواع الجرائم في العصر الحديث، ومن أكبر التحديات التي تواجه كافة دول العالم دون استثناء. وأصبح تنامي هذه الجريمة وخطورتها ومردوداتها السلبية تنعكس على المجتمع الدولي باعتبارها جريمةً متعددة الجوانب وعابرة غالبا للحدود، وذات أبعاد تمس الأمن القومي والسيادة الوطنية وأمن واستقرار المجتمعات. كما تدار هذه الجرائم عبر تنظيمات إجرامية عالية التنظيم ومدربة لتنفيذ أنشطة غير قانونية ضد الدول والمجتمعات المستهدفة. وتتعدد أنوع الجرائم العابرة للحدود الشائعة في عالمنا المتصل والمترابط دوما، مثل جرائم غسل الأموال والفساد وجرائم الارهاب وجرائم الإتجار بالبشر، والاتجار بالمخدرات وبالأسلحة وتهريبها، وتهريب الآثار، والاتجار بالأعضاء، والتخلص غير المشروع من النفايات السامة، وتجنيد الاطفال، وتهريب الأشخاص وغيرها. كما تُعد مثل تلك الجرائم أكبر مهدد للسلم المجتمعي، وأكبر مقوض لأجندة التنمية في العالم، حيث تنتهك مبادئ حقوق الإنسان وتتسبب في زيادة التوترات الأمنية والسياسية في البلدان.
وتتأثر أغلب بلدان العالم تقريبا بظاهرة الاتجار بالبشر على حدٍ سواء، باختلاف أغراض ممارسة الجريمة في مختلف البلدان سواءً أكانت بلد منشأ أو نقاط عبور أو جهات مقصد، وعند التطرق إلى برتوكول الاتجار بالبشر نجد أنه في 30 يوليو كل عام يحتفل العالم باليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالبشر الذي يعتبر جريمةً شنيعة، من خلالها يتم استغلال النساء والأطفال والرجال على حدٍ سواء لأغراض عدة بما فيها العمل القسري والبغاء. وتقدر منظمة العمل الدولية عدد ضحايا العمل القسري في العالم بـ 21 مليون نسمة، بمن فيهم ضحايا الاستغلال الجنسي. وفي حين لا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد الضحايا الذين اُتجر بهم، إلا أن التقديرات تشير إلى أن ملايين البشر حول العالم تعرضوا لهذه الممارسات غير الاخلاقية. ويظهر تزايد الاهتمام العالمي بهذه الجريمة من خلال إتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة التي صدرت في عام 2000م، والتي تٌسمى بـ "اتفاقية باليرومو Palmyro Convention"، التي تحتوي على ثلاثة بروتوكولات وهي بروتوكول منع ومعاقبة الإتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والأطفال، وبروتوكول مكافحة تهريب المهاجرين عن طريق البحر والجو والبر، وبروتوكول مكافحة الصنع غير المشروع للأسلحة النارية والاتجار بها. وجميع هذه البروتكولات تحتوي على عناصر القانون الدولي بشأن الاتجار بالبشر وتهريب الاسلحة وغسل الأموال ومكافحة الفساد.
وتمثل الجريمة العابرة للحدود في السودان، بصورة عامة، تهديدا لاستقراره وعرقلة تنميته الاقتصادية والاجتماعية كما تمثل تهديداً ممتدا لدول المنطقة العربية والافريقية في الجوار. لذلك حرصت هذه الدول على تعزيز التعاون في مجال منع ومكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية في المجالات كافة، واتخاذ تدابير وإجراءات منعها ومكافحتها وملاحقة ومعاقبة مرتكبيها وفق أحكام كل دولة، ووفقا لأحكام الاتفاقيات الدولية والاقليمية. وانشئت على مستوى المنطقة العربية اتفاقية الدول العربية لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الحدود الوطنية بالمجالين القضائي والأمني، وتجريم الأفعال المكونة لهذه الجريمة. وعلى مستوى قارتنا، قام الاتحاد الإفريقي، بإنشاء المعاهدة للجماعة الاقتصادية الأفريقية بشأن الهجرة. وأجازت لجنة الاتحاد الإفريقي المتخصصة للهجرة والنازحين واللاجئين وميثاق لمكافحة الهجرة غير النظامية، وأنشأت (مركز العمليات القاري لمكافحة الهجرة غير النظامية) ومقره الخرطوم. ويجب ذكر أن جميع أحكام هذه الاتفاقيات لا تتعارض مع دساتير الدول المشاركة في هذه الاتفاقيات وأنظمتها الأساسية.
ويواجه السودان مشكلة عدم القدرة على إحكام الرقابة على حدوده الممتدة ومنافذه المتعددة. كما يعتبر السودان موطناً لكثير من اللاجئين من منطقة القرن الأفريقي بسبب الصراعات المستمرة، وتزايد عدد لاجئين وافدين من وسط أفريقيا وغربها إليه عبر الحدود الغربية، وتسللهم إلى مدن السودان المختلفة كدولة مقصد.
ويكافح السودان ظاهرة الاتجار بالبشر، التي تضاعفت معدلاتها في السنوات الأخيرة، على حدوده الشرقية، وحدوده الشمالية الغربية، حيث يعتبر السودان معبرا ومصدرا للمهاجرين لغالبية من دول القرن الإفريقي، حيث يتم نقلهم إلى السواحل الأوروبية. ولتحجيم الإتجار بالبشر صادق البرلمان السوداني في عام 2014م على قانون لمكافحة هذه الظاهرة تراوحت عقوباته ما بين الإعدام والسجن من 5 أعوام إلى 20 عاما، وتم مؤخرا (في مارس عام 2021 م) تعديل بعض بنود هذا القانون.
وعند الاطلاع على بعض ملامح تقرير الاتجار بالبشر في السودان )2020 Trafficking in Persons Report: Sudan) الذي أوضح إستغلال تجار البشر الضحايا المحليين والأجانب في السودان على حدٍ سواء، حيث يستغل المتاجرون بالبشر الأطفال المشردين في الخرطوم (بما في ذلك الأطفال المهاجرين السودانيين وغير المصحوبين بذويهم من غرب ووسط أفريقيا) في أعمال قسرية مثل التسول، وفي النقل العام (كمحصلين للنقود من الركاب في وسائل المواصلات العامة)، والأسواق الكبيرة، والاتجار بالجنس. ويقوم بعض أصحاب الأعمال، ومشغلو التعدين غير الرسميين، وأفراد المجتمع، والمزارعين باستغلال الأطفال حيث يتم تشغيلهم في الزراعة ومصانع الطوب، وتعدين الذهب، وجمع النفايات الطبية، والبيع في الشوارع. ويتعرض الأطفال خلال عملهم للتهديدات والاعتداء الجسدي والجنسي، فضلاً عن ظروف العمل الخطرة، مع محدودية فرص الحصول على التعليم أو الخدمات الصحية. والجدير بالذكر هنا أن التقرير الصادر في نهاية عام 2019م عن مجموعة البنك الدولي –التعليم الشامل لجميع اللاجئين – كان قد أفاد بأن "هناك 79.5 مليون شخص يعيشون في حالة نزوح قسري، وهو ما يشكل 1% من سكان العالم. وكان بينهم 26 مليون لاجئ، نصفهم أقل من سن 18 عاما. ويتركز اللاجئون في بلدان نامية تعاني هي نفسها من ضغوط لتوفير التعليم. فالأنظمة التعليمية في تلك البلدان المضيفة غير مجهزة بالشكل الكافي لتحسين نواتج التعلم لأطفالها ذاتهم أو للاستجابة لتدفق كبير لأطفال اللاجئين واحتياجاتهم التعليمية. كما أن هناك في الأغلب تحديات إضافية على المستويات المحلية إذ يستقر اللاجئون في المعتاد في المجتمعات المحلية الفقيرة والضعيفة حيث تتسم الخدمات التعليمية عادة بانخفاض الجودة نسبيا".
كذلك تستغل الجماعات الإجرامية النساء والفتيات السودانيات - لا سيما النازحات داخليًا أو من المناطق الريفية - في العمل المنزلي وفي الاتجار بالجنس. وعزا التقرير حالة الضحايا المعرضين للاتجار بسبب أوضاعهم الاقتصادية وعدم وصولهم إلى العدالة. وأشار كذلك إلى أن السودان دولة كبيرة بحدودها سهلة الاختراق وبها كثير من المناطق النائية الفقيرة التي تصبح بيئة مهيئة لهذه الجريمة. ويعتبر التقرير أن الحكومة قليلة القدرة على إقامة سلطة أو وجود إنفاذ للقانون في العديد من هذه المناطق. كما لا يحظر القانون الجنائي السوداني، للأسف، بعض أشكال الاتجار بالبشر، مثل وسائل الاتجار بالبشر التي يستخدم فيها المتاجر بالبشر القوة والاحتيال القسري عن طريق التلاعب بالديون واحتجاز الأجر ومصادرة وثائق الهوية من الضحية. كذلك يعد الإكراه النفسي، وإشانة السمعة، والتلاعب باستخدام مواد الإدمان، والتهديد بأشخاص آخرين، جميعها نوع من أنواع وسائل الاتجار بالبشر. وتعتبر الديون من أكثر الوسائل شيوعاً لإجبار الضحية على العمل أو ممارسة البغاء وعندها يتحول الدين إلى جريمة اتجار بالبشر.
وتجدر الملاحظة هنا أن التشريعات السودانية التي تجرم الاتجار بالبشر (مثل قانون خدم المنازل لعام 1955م) لم يتم تعديله وفق المستجدات الدولية لمفاهيم الاتجار بالبشر والتي قد تستخدم فيه خدم المنازل تحت ستار جريمة منظمة. كذلك تم أستثنائهم من تطبيق احكام قانون العمل السوداني للعام 1997م وفق تعريف الوارد لخدم المنازل السوداني للعام 1955م، حيث كان يجب إدراجهم ضمن قانون العمل السوداني. وفي المقابل تؤدي الحكومة على الصعيد الرسمي دورًا منفردًا بمعزل عن المجتمع المدني لمعالجة الآثار المترتبة على ضحايا الاتجار بالبشر، الذي يجب أن يتضافر المجتمع في دعم ضحاياه، وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم، ورفع مستوى الوعي بين الناس في المناطق التي تمارس فيها تلك العمليات الإجرامية. كذلك لا يمكن التصدي لهذه الجريمة بمعزل عن الاستفادة القصوى من أوجه التعاون الدولي المتاحة بمقتضي المواثيق الدولية والتنسيق الكامل بين الأجهزة الحكومية وغير الحكومية.
كذلك لا يعد تدوير العوائد المتحصلة من النشاط الإجرامي الخاص بالاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين من أكبر المهددات الأمنية فحسب، بل والاقتصادية كذلك، إذ أن هذه الأنظمة تستخدم القنوات غير الرسمية وأحيانا داخل القنوات المالية الرسمية، مما يجعل منها تحدٍ كبير لاختراق وتقويض سلامة المؤسسات المالية الرسمية من عائدات هذه الجريمة مستغلة ضعف البنية التقنية والتنظيمية الأساسية والمعرفية بمتحصلات جرائم المالية بصورة عامة.
وباالنظر لموقف السودان من خلال تقييم وزارة الخارجية الأمريكية السنوي حول وضع مكافحة الإتجار بالبشر في العالم للعام 2019م، الذي أورد أن الحكومة السودانية أظهرت بعض الجدية في مكافحة الإتجار بالبشر بإدانة مزيد من المجرمين وتحرير مجموعات كبيرة من الضحايا وإحالتهم إلي مراكز الخدمات، كما طورت نظام لإدارة عمليات حماية الضحايا بين المجتمعات ذات الهشاشة إلى جانب تدريب عدد من الموظفين والكوادر الرسمية على طرق التعرف على أنماط جرائم الإتجار بالبشر. ومع ذلك فقد وضع التقرير السودان في المرتبة الثانية (أي مرتبة دول المراقبة)، وهي نفس المرتبة التى وردت في تقرير العام السابق 2018م. كذلك وضع تقرير عام 2020م السودان في قائمة المراقبة من الفئة الثانية، أي في الحد الأدنى من المعاییر الخاصة بالقضاء على الإتجار بالبشر، حيث اعتبر أن حكومة السودان لا تمتثل امتثالاً تاماً، ولكنها تبذل جهودا كبیرة لتحقيق ذلك، إذ أن السلطات حاكمت المزید من المتاجرين المشتبه بهم، وأطلقت برامج لرفع مستوى الوعي لأول مرة منذ عامین. كما حسنت الحكومة من قدرتها على التنسیق بین الوزارات من خلال تبسیط آلیتها الوطنیة لمكافحة الاتجار بالبشر وتركیز الموارد على اللجنة الوطنیة لمكافحة الاتجار بالبشر.
نختم القول بأنه لا يمكن مكافحة هذه الجريمة دون إستراتيجية وطنية لمكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، وان تكون هذه الاستراتيجية قائمة على رفع الوعي حول الجريمة وتفعيل دور الاعلام فيها. كذلك ينبغي إدراج التوعية بمخاطر الاتجار بالبشر في المقررات التعليمية بشكل جاذب يسهل استيعابه وفي الأنشطة الجامعية. كما أن بناء وتفعيل الإطار التشريعي الداعم للإنشطة مكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين يعتبر هو الركيزة الاساسية لمكافحة هذه الجريمة، حيث أن التعديل الأخير في قانون الاتجار بالبشر السوداني الصادر عام 2021م الذي عدل المادة (رضا الضحية ومسئوليتها) التي سوف تحدث فارقا كبيرا في التكييف القانوني لمكافحة الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين. غير أن المادة الجديدة المعدلة لتعريف مرتكب الجريمة لم تحدد، في تقديري المتواضع، مفهوم الاستغلال إلى الآن، وهو ما يعد أحد جوانب الضعف في القانون. كذلك ينبغي العمل على رفع الكفاءات المهنية لاعضاء اللجنة الوطنية للمكافحة والاعضاء في اللجان من الجهات الأخرى ذات الصلة. ويجب تعزيز كفاءات اجراءات التحقيق والاتهام من خلال تدريب متخصص، للتفريق مثلا بين جريمتي الاتجار بالبشر وجريمة تهريب المهاجرين، وتوفير المساعدات القانونية للضحايا والمساعدات الخدمات الصحية والنفسية والاجتماعية. والأهم من كل ذلك أن يكون كل ما ذكر مدعوماً بإرادة سياسية فاعلة لمكافحة جرائم الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين.

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء