سعد أمير طه: الشرارة

 


 

 

تآنست أمس الأول مع دفعتي (أولها) وصديقي الدكتور علي سليمان فضل الله عن أستاذنا سعد أمير بعد أن أطلعته على مقال الأمس عنه. وذكر لي علي ابتداع سعد للإنشاء الشفوي. فكان يطلب من الواحد الوقوف ويطلق لسانه فصيحاً عن ما يخطر له. وأظن هذا مما اكتسبه من الشيوعية المصرية التي كان تعليم الخطابة فناً يدرسونه للرفاق. وقال لي علي إن من أحسن الإنشاء الشفوي كان رفيقنا المرحوم عبد الله محمد إبراهيم (محسي). فاختار محسي أن يصف كيف أخذ صديقاً زائراً يريه معالم مدينة عطبرة. ومن ضمن ما ساقه إليه حي السودنة (الحي الإنجليزي القديم). وختم محسي فُرجة السودنة بقوله: "ألم أقل لك يا صديقي إنها نعيم مقيم". وفاز. وكان المحسي شاعراً. وللتمويه سمينا مكتب الكتاب والفنانين التقدميين في الحزب الشيوعي "محسي" تخليدا لمصرعه في مقبل عمره عام ١٩٧٣. وقال لي علي إنه وزميلين منا قدما بين يدي سعد أوراقاً عن تاريخ المهدية لما جاء زائراً مدرستنا في ١٩٥٦ مفتشاً للتاريخ من رئاسة وزارة المعارف. وحكيت في موضع آخر ما جرى خلال حصة في تاريخ السودان قدمها لفصلنا في تلك الزيارة. وكان تدريسها ليلاً لا أدرى لماذا. وقطعت الكهرباء. ولا نأمة. ولا نحنحة. ولا بغم. كنا مشدودين إليه حتى نهاية الحصة. كان سحره سحراً يؤثر. فإلى المقال القديم الآن:

فوجئت بعد نحو 40 عاماً من الزمالة بأنني والتشكيلي النور أحمد علي ننتظم في سلسلة نسب واحدة أصلها دوحة المرحوم سعد أمير طه: المعلم من طراز فريد. فلم يأت ذكره على لساننا قط حتى كتب النور ذات مرة بمنبر "سودانفورأول" عن خيال سعد التربوي أكدت لي مرة أخرى أن سعداً كان "بخت رضا مضاد" من الدرجة الأولى. وأعنى بذلك أنه لا يتصندق في "مقررات" بخت الرضا بل يتجاوزها إلى قمم في تربية بلا حدود. وكنت قلت بهذا في مضمار الترحيب بالدكتور خلف الله قراشي الذي التقيت به بعد أن قرأ لي كلمة في محبتي لسعد. فقد درست على سعد بالوسطى بعطبرة عام 1954 ودرس قراشي عليه بمدرسة النيل الأبيض بالدويم.
لم يترك النور فرضاً ناقصاً في دعم نظريتي في أن سعداً كان معلماً مضاداً لبخت الرضا. فقال بوضوح إنه لم يلتزم بمنهجها في المطالعة مع أنه خبير مناهج معروف برضا. فدّرسهم في السنة الثانية كتاب "مذكرت دجاجة" للفلسطيني إسحق موسى الحسيني بمقدمة من طه حسين. ثم أعقبه بكتاب "الايام" لطه حسين. وكنت درسته عليه في عطبرة. ومن لم يقرأه تحت سعد فنصف عمره راح. فله فيه صنعة عجيبة. ولما جاء العام الثالث على النور ترك سعد كل الكتب جانباً وجَمّع في كراسة متفرقات أدبية للفصل شملت ابن الرومي وإيليا أبو ماضي والياس أبو شبكة وجبران خليل جبران. ولم يشفق الطلاب وهم في غيبة عن المنهج وقد دنا امتحان الشهادة. فدبر الأمر ونجح الفصل كله في امتحان الشهادة الثانوية.
وجاء النور بأمر إدا. فقد قال إنه كان يدرسهم افتتاحيات مجلة المصور وآخر ساعة. والواضح أن لسعد شاغل قوي بالصحافة. فقد كان يشرف على جريدتنا الحائطية "الشعلة" بالمدرسة ويعقد اجتماعات التحرير، التي ضمت فتحي فضل وصابر بحاري، ويطلعنا على حيل كسب القارئ.
من أين جاء سعد أمير؟ سياسياً هو من جيل طلاب الخمسينات الذين درسوا بمصر وتعلقوا بالشيوعية. وقطع دراسته بكلية الحقوق ليعود مُهَرباً في صندوق ما كما قيل لنا. وأذكر بصورة غامضة قولي في الجمعية الأدبية يوماً إن كل داخل لبلد ما لابد أن يمر عن طريق الدولة. فابتسم وتبسم بعض المدرسين في وجهه. كان يعرف أن ليس ذلك صحيحاً في كل حالة ووقت.
ولم يتبع سعد في مصر "حدتو" هنري كوريل التي جذبت أستاذنا عبد الخالق محجوب والرهط. بل كان في جماعة أيسكرا (الشرارة) التي تميزت بشغف ثقافي أميز مقارنة بحدتو الحركية. ولم يُعرف أنه نَشِط شيوعياً بعد استقراره في السودان. وسيكون من المفيد أن نستقصى إن كان لاحتكاكه بقادة الشرارة من أمثال شهدي عطية الشافعي وأنور عبد الملك، ممن ألفوا أمهات الكتب، دخل في سعة ثقافته وخياله وخلوه من الورع حيال الأصنام الثقافية مثل المنهج.
لا أعرف عبارة عن نفع التمرد على بخت الرضا أقوى من عبارة النور: "أُعلنُ بملء صحوي أنني ابن مناهج سعد أمير طه والتي تتغالط وتتناقض مع مناهج التربية والتعليم، والتي أتبرأ من عائدها على تكويني ولا أحفظ لها جميلاً" وأتمنى أن تتبنى "أروقة" والسمؤال اقتراحاً قديماً لي بعقد حلقة دراسية عن نهج سعد التربوي.
بكلمة: كان سعد، خبير المناهج وواضعها، هو “بخت الرضا التي ضد بخت الرضا" متى كان في حضرة الطلاب يصاهل بهم المعارف الأخرى.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء