الشيخ العجيمي: الفقير والنساء في مجتمع القرى التي بلا رجال 

 


 

 

تجاذبت الحديث مع الطيب صالح على هامش لمؤتمر الدراسات السودانية بأمريكا بنيويورك. وبلغنا حديث "آنت من وين في الأهل؟" فقلت له أنا من بين قريتي القلعة والبرصة بدار البديرية والشايقية. فسأل: أهذا قريب من دار السادة العجيمية؟ قلت نعم. وهم المترة "الساقية" التي بعدنا مباشرة على درب الترك ونحن هل. فقال: ربما فسر هذا نزوعك للخلاف عن المألوف ومفارقة السلطان. قلت له ربما. غير أنه لم يخطر لي من قبل ذل الأصل للعجيمي في تكويني الثقافي.

أخذني الوالد عليه الرحمة والرضوان وأنا طفل لنزور "الفقير، وهو الاسم الذي عرفنا به العجيمي، في إحدى إجازاته بالبلد. وأحسب ذلك في نهاية الأربعينات وقبل وفات الفقير في ١٩٥٣. وسمعت لاحقاً من السادة العجيمية أن الوالد كان بمثابة العم للفقير. وكان يحرص على زيارته كل ما نزل البلد. وما أزال وأذكر صدى خبر موت الفقير في منزلنا بحلة المحطة بمدينة عطبرة.

والفقير رجل من غمار الناس

ساقه شوق العلم إلى الأزهر الشريف. وعاد يدعو إلى طريقة خاصة له. ولم يقبل سائر أهله الختمية من ذلك. وناله من أذاهم الشيء الكثير. ولا أزال أذكر طفلا كيف كان شباب الختمية في سياحاتهم شمالاً وجنوباً لإحياء ليالي السادة الختمية الزاهية يتوقفون عند جامع الفقير لينشدوا في ما يشبه المظاهرة:

يا منكرين فويلكم عصفت واصف ليلك

والمنكر هنا هو هو الفقير وصحبه الذين خرجوا إلى الختمية الجامعة المانعة.  وسماهم الناس ب"الإخيان" لأنه يخاطبون واحدهم لآخر ب"الأخ". وقد أسس الفقير طريقته على عصبية أهله البديرية. فقرأت يوماً وأنا أزور الشيخ نور الدائم العجيمي، ابنه وخليقته، لافتة الطريقة فوجدتها منسوبة إلى البديرية الدهمشية. وفي الحق كان أغزر عصبة الفقير يأتون من بحري، أي من جهة دار الدناقلة، أي من البديرية التاريخية. وكنا نقول في جيرته حين يأتون بالمراكب لبعض حشوده:"الدناقلة جو".وكان الفقير مطلعاً على الأنساب وله كتاب حسن فيها.

من أدق ذكرياتي عن السادة العجيمية وأروعها كان يوم أخذت الأستاذة محاسن زين العابدين التي كانت تكتب رسالة جامعية عن جماعة الزبالعة الصوفية على ضوء تاريخ الحركات الباطنية الصوفية في الإسلام. والزبالعة، مثلهم مثل الباطنية متهمون عند خصومهم ب"شيوعية المرأة". فيقول الخصوم أن الباطنية، إذا استمزجوا بالطقوس وسكروا بتأثيرها، صاحوا "أطفوا النور واكبسوا الحور" في معنى التمتع بمن معهم من النساء بلا وازع. وهذا ما أذاعه الختمية عن الفقير العجيمي في الأربعينات والخمسينات. وزكيت لمحاسن أن تتحدث للشيخ عبد الباقي العجيمي، ابن الفقير، عن هذه السمعة.

وحدثنا الشيخ عبد الباقي حديثاً ذكياً ثاقباً مما هو فريد في باب علم الاجتماع الديني. قال لنا والده رأى هجرة الرجال إلى المدينة طلباً للعمل في حين تركوا زوجاتهم من خلفهم في القرية. وخاف الفقير على دين النساء وقوامهن النفسي في إثر اغتراب الرجال. فأخذ يجتمع بهن يرشدهن في دينهن ويصبرهن على بعد من كن يسكن إليهم. ويسليهن بذكر الله والعبادة. ولما رأى خصومه جلوسه ري النساء على غير العادة عدوه باطنياً موبوء يطلب الجنس بذرائع الدين.

وكان ذلك اختلاقاً يائساً. وقال لنا شيخ عبد الباقي إن النساء كن أفضل حيران الفقير ديناً وخلقاً. وكن السبب في تجنيد بعولتهن إلى الطريقة. فلما عاد الرجال إلى القرى في الإجازة وجدوا زوجاتهم وقد بلغن في الدين وأدب الزوجية مبلغاً عالياً. وكان العم عطا المنان جلاب، والد الصديق العتيق سيد أحمد وإخوانه، ومن أولئك الذين سلكوا طريق الفقير إجلالاً لزوجاتهم.

وذاق المرحوم عطا جلاب عض الختمية لسلوكه غير طريقة القوم في حي الداخلة بعطبرة. فحكى لي الرفيق عبد الله محي الدين الحسن، على قبره الشآبيب، عن وحادثة طرد عطا جلاب من الحلة المقفولة للختمية. فكان اجتمع بها الختمية المهاجرة من أهلنا الشاطراب إلى أهل الداخلة الجعلية بزعامة العمدة السرور السافلاوي المتيم بالسادة الختمية. وكانت طريقة عطا لاب تحول دونه والاجتماع بالختمية. وعد العمدة السرور ذلك منه تمرداً. فاستثقله. وأمره أن "يطلع من حلته". وكان الرفيق عبد الله يقول مداعباً أولئك الذين يستثقلهم من الوافدين على الداخلة:

-والله تكتر تقلل أكلم جدي العمدة يطردك طردة عطا جلاب يختتك عفشك على عربية كارو تشوف ليك سكنة غير الداخلة.

وعلمت لاحقاً أن العجيمية استدرجت إلى ردهتها أعلام سودانية لاحقة. فما زلت أسأل كيف قصدها رفيقنا يوسف أحمد لمصطفي، والد ود يوسف الدايح دا، وجلس للعلم بين أيدي الفقير. وأسأل أيضاً كيف كيفت تربيته على شيخ منشق خروجه في الحزب الشيوعي على رأس حرك المزارعين في الخمسينات. وكان من جاء بقيادة موكبهم إلى الخرطوم وصب اعتصامهم بميدان الأسرة الحالي حتى انتزعوا شرعية اتحادهم. وفي يوسف بديرية مهاجرة إلى الجزيرة كما نعلم. ومن جهة أخرى تلقى الشيخ البدري، من قدواب بربر، العلم علي يد الشيخ المنشق. بل انشق هو نفسه في أعقاب رحيل الفقير ولم يقبل أن تكون الولاية فيه إرثاً. وغاضب إلى بربر ليبني فيها معهداً صار الجامعة المعروفة باسمه اليوم

يا لبركة الفقير المتمرد.

سيسعدني أن أسمع أن حياة الفقير وجهاده وعلمه وعزائمه قد اجتذبت مؤرخاً شاباً ليكتب لنا عن بعد رؤيته، وورعه، وصبره على المكاره في طريق وعر لرؤية دينية اجتماعية لا مهرب منها.

 

IbrahimA@missouri.edu

 

 

آراء