ليس تصدُّقاً.. بل حقٌ وواجب !
فضيلي جماع
7 August, 2021
7 August, 2021
لفت انتباهي بوست رفعه بفيس بوك الأستاذ شريف سليمان وهو يحكي عن واقعة قد تمر على الكثيرين دون الغوص فيها وقراءتها في العمق. يحكي البوست عن صبي - ماسح أحذية (الصورة) وقد سأل الرجل الجالس جوار كاتب البوست لدى بائعة شاي ما إذا كان بحاجة لمسح حذائه. يحدد الصبي تعرفته بخمسين جنيهاً، إلا إنّ الرجل يقول بأن لديه عشرين جنيهاً. يجلس الصبي دون مساومة، ويدفع إليه الرجل بالحذاء. يقوم الصبي بخلع شبشبه ويقدّمه للرجل راجياً أن يضع فيه قدميه حتى لا تتسخ جواربه. يدفع هذا الإحساس النبيل صاحب الحذاء بأن يجرَّ بنبراً للصبي ليجلس عليه، لكن الصبي يعتذر بحجة أنه لو جلس على البنبر فلابد أن يطلب كوباً من الشاي وهو الذي بدأ عمله للتو. وعليه أن يفطر أولاً. يقوم جسر من الإلفة بين الرجل صاحب الحذاء والصبي ماسح الأحذية. يقول للصبي بأنه (عازمو فطور) .. ليقوم ويعبر الشارع حافياً ، حيث توجد كافيتريا. يشتري منها سندوتشين: أحدهما له والآخر للصبي ماسح الأحذية. وينخرط الإثنان في دردشة. فقد نمت بينهما إلفه مصدرها المواقف الإنسانية النبيلة من طرف كل منهما .. وأظن أن الطفل فرض على الرجل صاحب الحذاء وعلى كاتب البوست موقفه الإنساني النبيل رغم صغر سنه ورغم حاجته الماسة لبعض المصروف الذي يقيم أوده وربما يعود به إلى أسرته المعدمة آخر اليوم. تنتهي القصة – حسب رواية الأستاذ شريف عثمان - بأن أعطى صاحب الحذاء حزمة من الجنيهات للصبي ربما فاقت ما توقع . إنصرف الصبي ، وكلما مشى بضع خطوات رفع يده ملوحاً للرجل الذي أكرمه بهذه المنحة وبوجبة الفطور . ويختم صاحب البوست بأن عينيه فاضتا بالدمع وهو يشهد هذا الموقف النبيل، ويوصينا بجبر الخواطر.
أشكر صاحب البوست الذي دفعني ما رفع من خاطرة إلى كتابة هذا البوست. ولعلي أستأذنه في المضي بالحدث قدماً من وجهة نظر لا تنفصم عن إحساسه النبيل بالتعاطف، لكنها - أي وجهة نظري – تتوسل ما هو أكبر من جبر الخواطر. إنّ جبر الخواطر لا يعدو أن يكون منحة من صاحب فضل على من هو بحاجة للمنحة. وقد تختلف طبيعة المنحة. قد تكون نقوداً، وقد تكون كلمة تأتي في وقتها المناسب ليطيب بها خاطر المتلقي وتسعد روحه. فجبر الخاطر في هذا الصدد أقرب للصدقة والإحسان. وقد صدق رسول البشرية (ص) حين قال : (وتبسمك في وجه أخيك صدقة!)
لكن ما نويت إثارته في هذا البوست هو أن يدرك السودانيون أنّ الثورة العظيمة (ديسمبر 2018) التي دفع مهرها مواكب من الشهداء والجرحى والمفقودين، ما جاءت إلا ليكون أول أهدافها إنهاء الإستبداد وإعلان الحرب على الفقر والفاقة والتشرد. ولقد قام العشرات من أمثال هذا الصبي بالإنضمام لجحافل الثورة. لم يتخلفوا عن المواكب وما جلسوا في مساكنهم التي قد تكون حافة الشارع أو خرابات في خاصرة المدينة. لم يتخلفوا كراهية في المجتمع الذي نبذهم وألحق بهم هذا الحال المزري من الفقر والعوز. شاركوا في المواكب. دوخهم دخان الغاز المسيل للدموع مثل فعل مع الآلاف في مدن وأرياف السودان. جلسوا مشاركين في أكبر اعتصام في تاريخ بلادنا الحديث قام به شعبنا أمام القيادة العامة. ذاك الإعتصام الذي فضه القتلة وأعداء الحرية بالرصاص الحي. هذا الإعتصام الذي نهض من بحر دماء ودموع بناته وأبنائه شعبنا البطل مثلما ينهض طائر الفينيق من رماده مؤكداً في مليونية 30 يونيو على طول البلاد وعرضها أن ثورة ديسمبر جاءت لتبقى. فكان تداعي أحرار العالم ومحبي الحرية والسلام للوقوف إلى حنب ثورتنا – إحدى أكبر ثورات هذا القرن. وحيث صرنا نمشي بين مطارات ومدن العالم مرفوعي الرؤوس.
وإذا كان كل هذا قد حدث في بلادنا بفضل ثورة شعبية سلمية، فإن أولى أهدافها أن يحظى مثل هذا الطفل الذي حمل صندوق الورنيش وعليه علم السودان (الصورة)- أن يحظى بالرعاية ومجانية التعليم- على أقل تقدير. ولعلي أتوجّه بسؤال بدهي للسيد والي عاصمة البلاد: كم يا ترى عدد المشردين وماسحي الأحذية ممن يعيشون بالطبع تحت مستوى الفقر في العاصمة السودانية؟ نريد إحصاءاً تقريبياً فقط. وسؤالي الآخر لوزير / وزيرة الرعاية الإجتماعية: هل من مشروع مستقبلي في وزارتكم يلم شتات هؤلاء المشردين الشرفاء صغار السن ليلحقوا بقطار التعليم الذي هو حق وواجب ؟
إنّ الثورات العظيمة في عالمنا - والتي أحدثت تحولاً جوهرياً أدى إلى النهوض بشعوبها كان قد سبقها مخاض فكري وإبداعي سببه الفقر والإستداد وضياع كرامة الإنسان. فالشعوب لا تثور حباً في الموت أو إشاعة الفوضى. تثور الشعوب استجابة لنداء الضمير الإنساني بأحقاق العدل والحرية والمساواة ، وهي الشعارات التي طرحتها الثورة الفرنسية (1789- 1799) والتي بدأ بها عصر التنوير في أوروبا. والقارئ للمنتج في علوم الإجتماع وفي الآداب الفرنسية والروسية - من رواية ومسرح وشعر- يجد أن مفكرين ومؤلفين عظام مثل جان جاك روسو (السويسري) وفيكتور هوجو الفرنسي وتشالز ديكينز الإنجليزي فيي روايته "قصة مدينتين A Tale of Two Cities قد بشروا للثورة الفرنسية وما تهدف إليه من إنصاف للطبقات الفقيرة التي هي ملح الثورات وأتونها. كما قام أدباء عظام مثل ليو تولستوي وأنطون تشيخوف وفيودور ديستويفيسكي بالتبشير لثورة 1917 الروسية عبر كتاباتهم العميقة التي تناولت الشرائح المعدمة وخاطبت الضمير والوجدان الروسي قبل أن تندلع الثورة. لقد حان الوقت أن ننتصر أفراداً وجماعات لقيم العدل والحرية والسلام التي بشّر بها شعبنا في ملحمته الإنسانية الفريدة وأن ننتصر لها بمزيد من نشر الوعي.
لفت انتباه: يحمل الصبي ماسح الأحذية – كما في الصورة – رسماً للعلم السوداني. أرى في الطريقة الكريمة التي سلكها الصبي مع زبونه صاحب الحذاء أنه يتمتع بقدر كبير من اللباقة والكبرياء الذي عرف به الغالبية من أبناء وبنات شعبنا. يمكن لأي شخص من أصحاب المروءة والإحسان العثور على هذا الصبي في شوارع الخرطوم ، وتبنيه وإلحاقه بقطار التعليم. من يدري ، لعله وآخرين يحققوا الشعار الذي رفعته الثورة على أوسع نطاق.
فضيلي جمّاع
لندن
6 أغسطس 2021
fjamma16@yahoo.com
أشكر صاحب البوست الذي دفعني ما رفع من خاطرة إلى كتابة هذا البوست. ولعلي أستأذنه في المضي بالحدث قدماً من وجهة نظر لا تنفصم عن إحساسه النبيل بالتعاطف، لكنها - أي وجهة نظري – تتوسل ما هو أكبر من جبر الخواطر. إنّ جبر الخواطر لا يعدو أن يكون منحة من صاحب فضل على من هو بحاجة للمنحة. وقد تختلف طبيعة المنحة. قد تكون نقوداً، وقد تكون كلمة تأتي في وقتها المناسب ليطيب بها خاطر المتلقي وتسعد روحه. فجبر الخاطر في هذا الصدد أقرب للصدقة والإحسان. وقد صدق رسول البشرية (ص) حين قال : (وتبسمك في وجه أخيك صدقة!)
لكن ما نويت إثارته في هذا البوست هو أن يدرك السودانيون أنّ الثورة العظيمة (ديسمبر 2018) التي دفع مهرها مواكب من الشهداء والجرحى والمفقودين، ما جاءت إلا ليكون أول أهدافها إنهاء الإستبداد وإعلان الحرب على الفقر والفاقة والتشرد. ولقد قام العشرات من أمثال هذا الصبي بالإنضمام لجحافل الثورة. لم يتخلفوا عن المواكب وما جلسوا في مساكنهم التي قد تكون حافة الشارع أو خرابات في خاصرة المدينة. لم يتخلفوا كراهية في المجتمع الذي نبذهم وألحق بهم هذا الحال المزري من الفقر والعوز. شاركوا في المواكب. دوخهم دخان الغاز المسيل للدموع مثل فعل مع الآلاف في مدن وأرياف السودان. جلسوا مشاركين في أكبر اعتصام في تاريخ بلادنا الحديث قام به شعبنا أمام القيادة العامة. ذاك الإعتصام الذي فضه القتلة وأعداء الحرية بالرصاص الحي. هذا الإعتصام الذي نهض من بحر دماء ودموع بناته وأبنائه شعبنا البطل مثلما ينهض طائر الفينيق من رماده مؤكداً في مليونية 30 يونيو على طول البلاد وعرضها أن ثورة ديسمبر جاءت لتبقى. فكان تداعي أحرار العالم ومحبي الحرية والسلام للوقوف إلى حنب ثورتنا – إحدى أكبر ثورات هذا القرن. وحيث صرنا نمشي بين مطارات ومدن العالم مرفوعي الرؤوس.
وإذا كان كل هذا قد حدث في بلادنا بفضل ثورة شعبية سلمية، فإن أولى أهدافها أن يحظى مثل هذا الطفل الذي حمل صندوق الورنيش وعليه علم السودان (الصورة)- أن يحظى بالرعاية ومجانية التعليم- على أقل تقدير. ولعلي أتوجّه بسؤال بدهي للسيد والي عاصمة البلاد: كم يا ترى عدد المشردين وماسحي الأحذية ممن يعيشون بالطبع تحت مستوى الفقر في العاصمة السودانية؟ نريد إحصاءاً تقريبياً فقط. وسؤالي الآخر لوزير / وزيرة الرعاية الإجتماعية: هل من مشروع مستقبلي في وزارتكم يلم شتات هؤلاء المشردين الشرفاء صغار السن ليلحقوا بقطار التعليم الذي هو حق وواجب ؟
إنّ الثورات العظيمة في عالمنا - والتي أحدثت تحولاً جوهرياً أدى إلى النهوض بشعوبها كان قد سبقها مخاض فكري وإبداعي سببه الفقر والإستداد وضياع كرامة الإنسان. فالشعوب لا تثور حباً في الموت أو إشاعة الفوضى. تثور الشعوب استجابة لنداء الضمير الإنساني بأحقاق العدل والحرية والمساواة ، وهي الشعارات التي طرحتها الثورة الفرنسية (1789- 1799) والتي بدأ بها عصر التنوير في أوروبا. والقارئ للمنتج في علوم الإجتماع وفي الآداب الفرنسية والروسية - من رواية ومسرح وشعر- يجد أن مفكرين ومؤلفين عظام مثل جان جاك روسو (السويسري) وفيكتور هوجو الفرنسي وتشالز ديكينز الإنجليزي فيي روايته "قصة مدينتين A Tale of Two Cities قد بشروا للثورة الفرنسية وما تهدف إليه من إنصاف للطبقات الفقيرة التي هي ملح الثورات وأتونها. كما قام أدباء عظام مثل ليو تولستوي وأنطون تشيخوف وفيودور ديستويفيسكي بالتبشير لثورة 1917 الروسية عبر كتاباتهم العميقة التي تناولت الشرائح المعدمة وخاطبت الضمير والوجدان الروسي قبل أن تندلع الثورة. لقد حان الوقت أن ننتصر أفراداً وجماعات لقيم العدل والحرية والسلام التي بشّر بها شعبنا في ملحمته الإنسانية الفريدة وأن ننتصر لها بمزيد من نشر الوعي.
لفت انتباه: يحمل الصبي ماسح الأحذية – كما في الصورة – رسماً للعلم السوداني. أرى في الطريقة الكريمة التي سلكها الصبي مع زبونه صاحب الحذاء أنه يتمتع بقدر كبير من اللباقة والكبرياء الذي عرف به الغالبية من أبناء وبنات شعبنا. يمكن لأي شخص من أصحاب المروءة والإحسان العثور على هذا الصبي في شوارع الخرطوم ، وتبنيه وإلحاقه بقطار التعليم. من يدري ، لعله وآخرين يحققوا الشعار الذي رفعته الثورة على أوسع نطاق.
فضيلي جمّاع
لندن
6 أغسطس 2021
fjamma16@yahoo.com