الديمقراطية ومآلات تحقيقها

 


 

 

يقول التاريخ أن أي مجتمع خرج من نظام شمولي قد واجهته العديد من التحديات، إذا كانت تحديات سياسية تتعلق بنظام الحكم المفترض أن يكون، أو تحديات اقتصادية، و أخرى تتعلق بتركة النظام الشمولي الذي رحل. فالتحدي السياسي كيف تتم عملية التحول الديمقراطية، باعتبارها القاعدة التي يمارس عليها كل النشاطات و الفاعليات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و غيرها، و هي تتطلب فحص لكل الآليات الموجودة، و معرفة إذا كانت فاعلة و يمكن الاعتماد عليها ،أم أنها تعاني من إشكاليات تحتاج لإصلاح. و أيضا معرفة المشروع السياسي القادم، والذي تتم بموجبه عملية المساءلة و المحاسبة للقوى السياسية التي تنجز هذا المشروع، إلي جانب هناك قوى جديدة في المجتمع، و هي القوى المناط بها أن تحدث عملية التحول الديمقراطي في المجتمع، باعتبارها القوى الفاعلة، و السؤال هل الأحزاب السياسية هي مدركة للدور الذي يجب أن تقوم به لتحقيق كل هذه الأهداف؟ أم هي نفسها تحتاج إلي توعية سياسية بالعملية الديمقراطية؟ و هو الإشكال الذي يقع في السودان حاليا، أن التجربة القصيرة منذ سقوط النظام في 11 إبريل حتى اليوم أن الأحزاب السياسية عاجزة أن تحقق أي تقدم في الفترة الانتقالية. بل أن هذا العجز جعل رئيس الوزراء هو الذي يطرح الأسئلة السياسية المطلوب تحقيقها، و أيضا تشكيل آليتها، و تكون الأحزاب أدوات مقطورة في المسيرة السياسية.
الحيرة الآن التي يواجهها أي متابع سياسي الإجابة على أسئلة مهمة تتعلق بأهداف الفترة الانتقالية. هل الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة السياسية لها الاستعادة لعملية التحول الديمقراطي؟ و هل استطاعت هذه الأحزاب أن تقدم مشروعات سياسية تبين فيها كيف تتم عملية التحول الديمقراطي و النهضة في البلاد؟ هل الأحزاب السياسية تتابع برامج الشباب في وسائل الاتصال الاجتماعي لكي تتعرف على أتجاهات الأسئلة الي يطرحونها هؤلاء الشباب؟ و ما هي المعضلات التي تواجه الأحزاب السياسية؟ و هل القيادات في تلك الأحزاب لديها الاستعداد الكامل للقيام بهذه المهمة؟ أم أن الأحزاب نفسها تحتاج لثورة داخلية تجعلها تعيد طرح الأسئلة في مرجعياتها الفكرية ثم الإجابة عليها بالصورة المقنعة للأجيال الجديدة؟ هذه الأسئلة يطرحها الجيل الجديد في كل حواراته المختلفة. و لا يجد الإجابة عنها، و السبب أن القيادات نفسها لا تجد الإجابة عليها، و يعود لضعف المقدرات عند العديد من هذه القيادات.
الغريب في الأمر أن ثورة ديسمبر دون الثورات الأخرى، التي حدثت في البلاد حيث واجهتها تعقيدات عديدة، أولها ألخلاف بين المدنيين و العسكريين رغم أن الوثيقة تؤكد على المساومة السياسية و وجوب أحترامها من قبل الجميع، و تنادي أيضا بالتناغم بين الجانبين لكي ينجح الفريقان في عملية تحقيق أهداف الفترة الانتقالية، الثاني غياب المشروع السياسي في الساحة، حيث عجزت كل الأحزاب أن تقدم تصوراتها و تضعها على طاولة الحوار السياسي و المجتمعي. ثالثا الخلاف الذي وقع بين قوى الحرية و التغيير يؤكد عجز القوى السياسية و لم تستطيع أن توسع مواعينها ديمقراطية لكي تنهي بها خلافاتها، و قد تعودت القيادات السياسية في الأحزاب أن يكون هناك وسيط عندما ينشب خلافا فيما بينها. رابعا أن القوى السياسية عجزت أن تخرج إلي الهواء الطلق في ليالي سياسية تتواصل فيها مباشرة مع الجمهور، الأمر الذي يؤكد ليس لها استعداد كاف لهذا الحوار. و البعض يخاف أن تطرح أسئلة التحديث و التطوير في هذه المؤسسات، و أيضا هناك الخوف من طرح الأسئلة المتعلقة بقضايا الفكر و تجديد القيادات، هذه الأسئلة تجعل القيادات التاريخية تتضارى من الأجيال الجديدة، و بعض الأحزاب أكتفت بإصدار البيانات خوفا من أي حوار ينشب بينها و الأجيال الجديد و يبين تواضع مقدراتها، و أيضا تظهر في الخطاب السياسي غير المفهوم، هناك قوى سياسية وقفت في عتبة الثورة، و كل ما طرحت عليها أسئلة تعتقد هذه أسئلة من بنات أفكار الدولة العميقة تريد أن تشوش بها على الفعل السياسي الذي تقوم به قيادات الثورة. حيث تغيير مفهوم الثورة من مفهوم ينادي و يطالب بعملية التغيير المستمر في كل الآليات المرتبطة بالديمقراطية و خاصة الأحزاب، إلي مفهوم يشكل حماية للقوى العاجزة في المجتمع، و التي تفتقد حتى أن تصيغ مشروعا سياسيا يلتف حوله داعة التغيير. و تعلم هذه القيادات علما يقينيا أن نظام الإنقاذ قد رحل و لم تبق منه إلا ثقافته الشمولية، و لكن هل الأحزاب لديها القدرة على إنتاج ثقافة ديمقراطية تصبح بديلا لثقافة النظام السابق؟ أم أنها سوف تتبنى الثقافة الشمولية لكي تحقق بها عملية التحول الديمقراطي؟ الذي يظهر حتى الآن أن الثقافة الشمولية هي سيدة الموقف، و قد تبناها البعض دفاعا عن مصالح شخصية و حزبية. و الغريب في الأمر أن الحوار متوقف حتى الأن في محطة النظام السابق دون الحديث عن كيفية إكمال آليات الفترة الانتقالية، و الآليات التي تحضر لفترة ما بعد الانتقال. هذا يؤكد حالة العجز السياسي.
في الجانب الأخر من المشهد السياسي، نجد أن الشباب قد أقبلوا علي غرف الحوار بصورة كبيرة في " Clubhouse" و الأغلبية تجدها ناقدة للأحزاب السياسية، و تؤكد أن الذي يحدث من تعقيدات في تنفيذ أهداف الفترة الانتقالية يرجع لمعوقات داخل الأحزاب السياسية، هذا النقد الموجه للأحزاب كان الأولى علي الأحزاب حضور هذه النقاشات، و الدخول مع الأجيال الجديدة في حورات مفتوحة، لإقناعهم ليس هناك ديمقراطية دون أحزاب، و إذا كانت الأحزاب غير مكتملة الاستعداد للعملية الديمقراطية يجب عليها أن تشرع في إكمال النقص، و خاصة المواعين الديمقراطية، لكن للأسف أن قيادات الأحزاب تؤكد ليس لديها أهتمام بالأجيال الجديدة، و لا تريد الدخول معها في أي حوارات كانت، أنها مشغولة فقط بالسلطة و كيفية توزيع غنائمها. و الصراع الذي يحدث داخل قوى الحرية و التغيير هو صراع حول المحاصصات، و لم ينتقل إلي مربع أخر، الأمر الذي يجعل طرح السؤال الأتي: هل بالفعل أن الأحزاب الحالية هي راغبة في عملية التحول الديمقراطي؟
هناك رؤية تقول أن الأحزاب السياسية السودانية جميعها يمينا و يسارا اعتمدت تاريخيا علي الكارزمات، هي التي تطرح الأسئلة و تجاوب عليها، و هؤلاء الكارزمات كانوا يملأون فراغات عجزت النخب ملئها، و أيضا يمكن القول أن هؤلاء كانوا يعطلون بروز أي قدرات من عضوية الحزب حتى لا ينافسونهم في مركز القيادة. في كلا الحالتين أن دور الكارزما أصبح أرث ثقافي سياسي تنتظر عضوية الحزب أن يقوم به الشخص الذي يجلس علي قمة الهرم. رغم أن كل الكارزمات الذين كانوا يديرون العملية السياسية منذ عقدي الخمسينات و الستينات قد رحلوا، و أن ثورة ديسمبر جاءت لكي تنهي عصر الكارزمة. فهل الأجيال الجديدة قادرة أن تجعل للمؤسسية دورا أم هي نفسها تكتفى بالبكاء على الاطلال و تتحجج بالدولة العميقة؟ أن التاريخ لا يرحم و على الأجيال الجديدة أن تبدأ مشوارها الثوري في عملية الإصلاح داخل الأحزاب السياسية إذا كانت راغبة فعلا في عملية التحول الديمقراطية و النهضة في البلاد. نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء