بعاعيت المخلوع: وصل النضالات الحضرية والريفية في السودان .. كتب: أدوارد توماس ومجدي الجزولي

 


 

 

تغريدة جبريل إبراهيم

أغلقت سلطات انقلاب ٢٥ أكتوبر الانترنت وبذلك معظم وسائل التواصل الاجتماعي في السودان. من بين التغريدات القليلة التي تسربت خلال حاجز الانقلاب تغريدة جبريل إبراهيم، زعيم المتمردين السابق الذي أصبح وزيراً للمالية في فبراير ٢٠٢١. تم تعيين جبريل في هذا المنصب ضمن تعديل وزاري منح المتمردين السابقين مواقع وزارية رفيعة بعد بضعة أشهر من توقيعهم اتفاق جوبا للسلام. وقعت كطرف ثاني على اتفاقية جوبا حكومة السودان الانتقالية التي تولت السلطة بعد انهيار نظام الرئيس السابق عمر البشير. كانت الحكومة الانتقالية ائتلافا مضطربا بين القادة العسكريين الذين تم ترقيتهم للرتب العليا في عهد البشير وتكنوقراط مدعومين بقوة المتظاهرين في الشوارع. صار هذا الائتلاف، لأسباب عديدة، أكثر هشاشة بعد انضمام جبريل والمتمردين الآخرين إليه. اعتقل رجال الأمن غالب أعضاء الحكومة الانتقالية في أكتوبر وأعلنوا عن سيطرتهم على السلطة.

لم يتم اعتقال جبريل، وأعطت تغريدته في ٣٠ أكتوبر انطباعا أن في استطاعته استجلاء حجتي طرفي الصراع. قال جبريل لعالم التواصل الاجتماعي والمتظاهرون يصارعون رجال البوليس والقناصة: "للشعب السوداني الحق في التعبير عن آرائه بكل الوسائل السلمية. لكن تحطيم الأرصفة وأعمدة الكهرباء هو تخريب للممتلكات العامة، التي جاءت بعرق المواطن ولا علاقة له بالتعبير السلمي."

شكل جبريل و مني أركو مناوي، متمرد سابق آخر من دارفور، فصيلا منشقا عن قوى الحرية والتغيير، التحالف الذي ساعد في قيادة احتجاجات ٢٠١٨ - ٢٠١٩ ضد البشير. انضم محتجون من فصيل قوى الحرية والتغيير المنشق في أكتوبر ٢٠٢١ إلى اعتصام حول محيط القصر الجمهوري للمطالبة بإعادة الحكم العسكري. اعتقل العسكريون في ٢٥ أكتوبر أعضاء الوزارة من قوى الحرية والتغيير وأعلنوا في اليوم التالي تعليق الدستور بغير سند قانوني.

تبضعت حكومة السودان مرة أخرى إلى هيئة أجهزتها الأمنية، لكن هذه المرة، كانت هذه الأجهزة الأمنية مدعومة بقادة المليشيات الريفية التي طالما واجهتها حربا.

أصبح جبريل إبراهيم زعيما لحركة العدل والمساواة المتمردة في دارفور قبل عشر سنوات، بعد أن قتلت الحكومة شقيقه خليل، مؤسس الحركة، بضربة جوية دقيقة. كان خليل أكثر قادة المتمردين في دارفور خبرة من الناحية السياسية: فقد نشأ في الحركة الإسلامية ومليشياتها الحزبية، واحتفظ بصلات غامضة مع الإسلاميين المنشقين عن المؤتمر الوطني حتى النهاية. لكن، كان لمليشيا خليل الريفية قاعدة إثنية ضيقة بين أهله من قوم الزغاوة. هزمت قوات الدعم السريع، المليشيا الريفية الموالية للحكومة، حركة العدل والمساواة وكذلك مليشيات دارفور المتمردة الأخرى خلال حملة مناهضة التمرد التي انطلقت في ٢٠١٤. اشترت حركة العدل والمساواة الوقت خلال السنوات الخمس التالية عبر إعلانات متتالية ومتجهمة لوقف إطلاق النار أحادية الجانب لأغراض إنسانية.

ترك صيف الحسم، حملة مناهضة التمرد في ٢٠١٤، أطراف السودان المتمردة في زقاق الهدنات الإنسانية المغلق ودفع من جهة أخرى بقائد قوات الدعم السريع حميدتي إلى سدة الحكم. عندما أطاحت الاحتجاجات الحضرية بالبشير في ٢٠١٩ أصبح حميدتي نائبا للرئيس، الأصغر سنا في تاريخ السودان الحديث. لعبت قوات حميدتي دورا محوريا في انقلاب ٢٥ أكتوبر إذ لم يعد بمقدور الجيش السودان تنظيم انقلاب بدون قوات الدعم السريع.

بعاعيت المخلوع
ينعت العديد من السودانيين الرئيس السابق عمر البشير ب"المخلوع" – في إشارة ساخرة إلى بهدلة الإطاحة به بدلا عن مساهمته الطويلة في السياسة السودانية. أعاد حكم البشير الطويل الذي استمر لثلاثين عام تشكيل السودان، أطاح بتكوينات سياسية قديمة وأنماط قديمة للتراكم وأحل مكانها كارتيل سياسي-اقتصادي-أمني تقوم عنه وكالةً حركته الإسلامية. قسمت حروب البشير البلاد إلى إثنين لكن في مقابل ذلك يسرت للبلاد عقدا من الرخاء البترولي أصبح السودان بفضله لبرهة دولة متوسطة الدخل.

لم يدم الكثير من ذلك. كان للبشير لكن إنجاز واحد باق وقابل للتصدير: المليشيا الريفية. تقاتلت هذه الميليشيات من أجل السيطرة على المراعي الطينية التي تضم ثروة البلاد البترولية أو السافنا الجافة والصحارى حيث الذهب وتولت إيصال موارد السودان الجوفية هذه إلى الأسواق العالمية بكفاءة وبتكلفة زهيدة. ارتد السودان عندما انقطع البترول إلى تحصيل معظم مداخيله من العملة الأجنبية من المحاصيل والماشية. قامت أكثر المليشيات نجاحا بتنظيم دوريات لتأمين مواسم الحصاد، وفوق ذلك اشترت بنك الثروة الحيوانية وأسست في العام ٢٠١٧ بنكا خاصا بها، بنك الخليج، في شراكة مع رأس المال الإماراتي وها هي سيطرت على جهاز الدولة السوداني.

لا تقتصر عسكرة الإنتاج الريفي على المناطق التي مزقتها الحروب في أطراف السودان، لكنها صارت سمة حميمة للحياة الريفية. أصبحت القرية الكردفانية الوادعة والحلة الناعسة في الجزيرة في زمان مضى مواقع للانتشار العسكري. نشأت لهذا الغرض وحدات عسكرية خاصة تضم مليشيا الدعم السريع لتأمين مواسم الحصاد، وقتما تجوب عصابات مسلحة البلاد لهمبتة المحاصيل من الحقول ولما يتم تخزينها ونقلها بصورة آمنة. وَقْعُ عسكرة معاش الرعاة أبلغ وأشد. كان بين عوامل نشأة المليشيا الريفية التسليع المتعاظم للحياة الرعوية وضرورة حماية مسارات القطعان من مراعي كردفان ودارفور إلى أسواق التصدير في ليبيا ومصر بالسلاح الناري. ابتدر قائد قوات الدعم السريع، أنجح مليشيات السودان، سيرته المهنية كتاجر ماشية يكسب معاشه في الدروب الصحراوية الخطرة بين شمال السودان وجنوبي ليبيا.

أدى ظهور قوات الدعم السريع كمليشيا مهيمنة متفوقة عددا وعتادا، بالدرجة الأولى سيارات الدفع الرباعي المزودة بالمدافع الرشاشة، إلى قدر من الاستقرار بخاصة في جنوب دارفور وشرقها التي كانت مسارح لحروب مدمرة بين الأقوام الرعوية حول الأرض. استوعبت مليشيا الدعم السريع المليشيات والعصابات الأصغر عددا في هيكلها كما هي دون المساس بتركيبها القيادي وسلاسل الولاء فيها. تولت مليشيا الدعم السريع، بفضل تنظيمها العسكري وقدراتها اللوجستية وسيطرتها على الفائض الاقتصادي، مهام توفير الخدمات الاجتماعية. تقوم وحدات الدعم السريع بحفر الآبار وتنظيم الرعاية الصحية وحملات التطعيم وتشرف على الإرشاد الريفي وتنمية مهارات ريادة الأعمال على غرار وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين. تستوعب مليشيا الدعم السريع كصاحب عمل قوى العمل غير الماهرة على أساس دائم وموسمي وتوفر كذلك منفذا لتصدير العمالة في هيئة مقاتلين إلى ملوك وأمراء شبه الجزيرة العربية. أصبح بذلك القتال في اليمن وسيلة اليافعين من قرى كردفان ودارفور ومن مخزن العمالة غير الرسمية في حضر الخرطوم لتوفير المال وترحيل أمهاتهم من القرى إلى الأحياء الطرفية حول الخرطوم وربما شراء حافلة لنقل الركاب أو بناء منزل.

صيغة المليشيا
سبقت المليشيات الريفية البشير، وكانت وقتها عناصر مساعدة للجيش السوداني قليل التمويل أو قوات هجومية صاعقة في حروب قذرة. أوكل البشير مهام الدولة لهذه المليشيات. أصبحت صيغة المليشيا التي يمكن للبشير زعم براءة اختراعها، تكنولوجيا رئيسة للحكم الريفي واستخلاص الموارد في حزام من الفوضى النيوليبرالية يمتد من أفغانستان حتى الكونغو. نعتمد جميعنا على هذه المليشيات، فهي تمدنا بمعدن الكولتان للهواتف، البترول للنقل، المخدرات للحفلات والألماس لتلك اللحظات السعيدة الخاصة. تسنم البشير السلطة في ١٩٨٩ في غمار أزمة اقتصادية تعذر على السودان بسببها تمويل وارداته. تبنى البشير باكرا تكنولوجيا الحكم النيوليبرالية: التقشف الاقتصادي وخصخصة الموارد العامة. قمع البشير المقاومة في الحضر عن طريق أجهزة الأمن وأنشأ المليشيات في الريف عبر عسكرة القيادات الأهلية للمجموعات الإثنية.

كانت المقاومة الريفية صورة للقمع الريفي. نشأت وسط المجتمعات التي كانت على خلاف مع الدولة مليشيات ريفية اتخذت الإثنية أو القبيلة وسيلة للتجنيد. هزمت حملة حميدتي المناهضة للتمرد في ٢٠١٤ - ٢٠١٦ جميع هذه المليشيات لكن لم تخلفها نماذج بديلة أوسع ماعونا للحكم في الريف. استقرت المليشيات كممثل للأرياف المهزومة. كان قادة المليشيات في حيرة من أمرهم بإزاء ثورة ٢٠١٩. أمضوا أكثر من عام يفاوضون الحكومة الانتقالية المدنية/العسكرية ويقايسون نقاط قوى وضعف المدنيين والجنود بدلا عن اهتبال الساعة الثورية السارة. انتهى مني مناوي وجبريل إبراهيم خلال الصيف الحار الطويل إلى الرهان على الجنود.

الاستهلاك والتقشف: ميزان مدفوعات البشير
كان الصيف طويلا وحارا لأن الحكومة عجزت عن تمويل فاتورة استيرادها. مَهَّلَ البشير الطبقات الوسطى في السودان بثقافة استهلاكية عالية التكلفة تتضمن رغيف القمح المستورد. كان له في الواقع مصدر وحيد للنقد الأجنبي: الجهود الإنتاجية لسكان الريف. وفرت هذه الجهود كامل دخل السودان من الصادر، نصفه من المحاصيل النقدية والسلع الغابية والماشية ونصفه الآخر من الذهب والبترول.
لم يقو ريف السودان على إنتاج ما يكفي لتغطية فاتورة الواردات الباهظة. لذا، قنن البشير أسعار العملة وطبع النقود في محاولة لحل المشكلة. تضاعف التضخم بالنتيجة حتى أطاح بالبشير. قررت الحكومة الانتقالية أن تحاول كسر حلقة التضخم عن طريق تخفيض سعر العملة إلى الحضيض، ما نجم عنه زيادة فورية في أسعار الواردات. كان جبريل ساعتها على رأس وزارة المالية وحاول تقليل ألم زيادة الأسعار بزيادة الرواتب في القطاع العام والتحويلات النقدية المباشرة للأسر واستثمارات جديدة في الخدمات الاجتماعية. لكن، فاق التضخم قدرة الحكومة على السيطرة وبلغ في يوليو ٢٠٢١ حوالي ٤٠٠٪، ثلاثة أضعاف نسبة التضخم في لبنان وعشرة أضعاف نسبته في اليمن.
تضخمت المليشيات الريفية والجيش أيما تضخم بعلة حروب البشير الطويلة حتى صارت بحجم الدولة ذاتها. يعطي "الميزان العسكري" وهو نشرة سنوية تقدر أو قل تخمن حجم الجيوش في العالم انطباعا عن مدى التمدد العسكري خلال عهد البشير. لا تشمل هذه الأرقام الآلاف من جنود المليشيات المتمردة.
يمكن كذلك تسمية هذا الرسم البياني "التكلفة الحقيقية للتقشف". كان السودان بحاجة ماسة إلى مليشيات ريفية للحفاظ على أنظمة الاستهلاك والإنتاج هذه. يظهر انقلاب أكتوبر٢٠٢١ مدى تجذر هذا النظام. وطن هذا النظام الجيش وقوات الدعم السريع والمتمردين السابقين في الحكومة، الجهات التي استخدمت العنف لرتق الشق الواسع بين الريف والحضر في السودان. صار لقادة المليشيات مصلحة في استمرار النظام نتيجة لعسكرة السيطرة على استخلاص الثروة الريفية. عندما قرر العسكريون القيام بانقلاب سعوا إلى نيل دعم المليشيات الريفية كقوة مضادة للمدنيين من قوى الحرية والتغيير ذوي القاعدة الحضرية بالأساس.

التحديات التي واجهت الحكومة المدنية
يظهر الانقلاب كذلك عظم التحدي الذي يواجه المدنيين في الحكومة. استمد المدنيون في مجلس الوزراء الكثير من شرعيتهم من المتظاهرين الشباب والحضريين غالبا، من قادوا ثورة ٢٠١٩ التي أطاحت بالبشير وضحوا في هذا السبيل تضحيات شخصية جمة. يعمل نظام المليشيا في السودان عبر وضع مصالح سكان الريف وسكان المدن في حال تناقض. لا يساهم اقتصاد الخدمات السائد في القطاع الحضري سوى بنذر يسير من النقد الأجنبي. ويعتمد الاستهلاك الحضري لذلك على جهود منتجي السلع الأولية في الريف. أول مهام أي حاكم سوداني تنظيم الأمن الغذائي بحيث يقع عبء الجوع الأعظم على الناس في الريف ويضمن شبع الناس في الحضر لأن سكان الحضر أكبر مهدد لسلطته. كانت آخر أخطاء البشير في غروب حكمه أنه عجز عن إدارة تكاليف نظام المليشيا وتكاليف واردات القمح وانتشر لذلك الجوع في المدن.

استندت الحكومة الانتقالية لعام ٢٠١٩ على تسوية بين المتظاهرين ونظام البشير الأمني. كان من أول اهتمامات رجال الأمن حماية كشوف رواتبهم وبنوكهم وسيطرتهم على الصادرات. وقع على الحكومة الانتقالية، لذلك، عبء توفير العملة الأجنبية الضرورية لتمويل الواردات وكذلك الاستمرار في توجيه موارد البلاد الإنتاجية إلى تغطية فاتورة الدعم الباهظ المدفوع لبعاعيت المخلوع. كان على المدنيين إكمال الدائرة التي عجز بطش البشير المكار عن إكمالها. كان البديل المتاح أمام المدنيين هو استجلاب الدعم الدولي خاصة وقد فاز المتظاهرون بإعجاب واسع النطاق لإطاحتهم بالبشير، الرئيس الذي كان يسنده نظام المليشيا السوداني ذو الكفاءة المشهودة دوليا. أصر المانحون والمؤسسات المالية المتعددة الأطراف على إجراء إصلاحات في الاقتصاد الكلي. أورثت حكومة البشير الحكومة الانتقالية ديون هائلة متراكبة وفاتورة واردات تبلغ ضعف حصيلة الصادرات. لم تستطع حكومة البشير جذب ما يكفي من العملات الأجنبية إلى البلاد لتمويل الواردات وتعزيز قيمة الجنيه السوداني. قام البشير بطباعة النقود لتمويل نفقات حكمه، وتصاعد لذلك التضخم. استورد البشير المحروقات والقمح وطرحها للمستهلكين بأسعار مدعومة عبر أسعار صرف مخفضة ودفعيات مباشرة لمطاحن القمح والمخابز. تكالب التجار، المتصلين غالب الأمر بالقوى الأمنية، على الدولارات الرخيصة في سوق المحروقات والقمح. لم يكن المانحون على استعداد لتمويل نظام دعم يسوق المال إلى التجار العسكريين، حتى ولو كان دعم المحروقات والطعام والإجراءات النقدية المعقدة ذات الصلة تحد من الضغوط على دخل الأسر.

التزم المانحون لكن بالقانون الحديدي الذي يتيح فقط للدول الثرية حسنة التغذية دعم الطعام. تخلصت الحكومة الانتقالية في سنة ٢٠٢٠ من دعم الوقود وقلصت جدا من دعم القمح. قام جبريل إبراهيم في ٢٠٢١ بتعويم الجنيه السوداني. نجم عن هذا الإجراءات تضخم مرعب. بلغت نسبة التضخم في السودان بحلول صيف العام ٢٠٢١ ثلاثة أضعاف نسبته في لبنان وحوالي عشرة أضعاف نسبته في اليمن. كانت التقديرات أن حوالي ٢١ مليون من الناس سيواجهون معدلات كارثية من انعدام الأمن الغذائي. وعدت الحكومة بتعميم برنامج مؤقت للتحويلات النقدية المباشرة بقيمة ٥ دولارات أميركية للفرد في الشهر لمساعدة الأسر على التكيف. تحتاج التحويلات النقدية المباشرة على خلاف دعم الطعام إلى نظم توجيه معقدة وقدرات بيروقراطية مقدرة على مدى الأقاليم السودانية الشاسعة والواقعة في الغالب تحت سيطرة المليشيات. وصل برنامج التحويلات النقدية المباشرة حوالي مليون أسرة فقط في ١٢ ولاية، ولم تتلق أسر عديدة سوى دفعية واحدة حتى الآن.

من المتوقع أن تنقطع التدفقات المالية من الشمال الكوني بسبب الانقلاب وهي التدفقات التي كانت الإصلاحات الاقتصادية مصممة لضمان انسيابها. سيحتاج العسكريون مصادر تمويل صديقة للديكتاتوريات، المصادر التي عجز البشير عن إيجادها وقت احتاج مخرجا لإنقاذ نفسه. من جهة أخرى، سيتطلب أي تراجع عن الانقلاب مراجعة الإصلاحات الاقتصادية التي كانت بندا لتوافق ما بين مكونات الحكومات الانتقالية. أعلن جبريل إبراهيم نفسه أنها ستعزز من قدرات السودان التنافسية. قرظ عبد الفتاح البرهان، قائد الانقلاب، الإصلاحات الاقتصادية للحكومة الانتقالية في أول مؤتمر صحفي له بعد انقلاب أكتوبر ٢٠٢١. أما القيادة المدنية التي تولت مهمة التفاوض على العلاقة الجديدة مع الدائنين والمانحين والمؤسسات المالية الدولية فقد صارت مما لا غنى عنه للحكومة الانتقالية. لن يستطيع السودان بدون هذه القيادة الحصول علي العملات الأجنبية الضرورية لإدارة عملة مطروحة في السوق. ساندت القيادة المدنية هذه الإصلاحات لكن خسارتها من جراءها كبيرة. أفقرت الإصلاحات الاقتصادية الملايين من الأسر السودانية بإهمال بالغ وهددت العلاقة الحيوية بين أعضاء الوزارة المدنيين ومصدر شرعيتهم، المتظاهرين الذي قادوا ثورة ٢٠١٩. انتظم العديد من المتظاهرين في لجان المقاومة التي تعود نشأتها إلى الاحتجاجات الحضرية ضد رفع الدعم في ٢٠١٢ – ٢٠١٤ عندما فقد السودان معظم دخله من البترول وواجه بالنتيجة أزمة غذاء أخرى.

الطاقات الثورية
وكل ذلك كذلك، لم يطرف للجان المقاومة جفن عندما سجن البرهان القيادة المدنية. توجهوا مباشرة إلى الشوارع لمواجهة القناصة بالإضرابات والعصيان المدني، كلهم ثقة بالنفس اكتسبوها من دورهم الحاسم في ثورة ٢٠١٩. ما هي الدروس المستفادة إذن في هذه الساعة المرعبة؟
جادل عبد الخالق محجوب، المثقف الماركسي الفطن، بعد ثلاث سنوات من ثورة أكتوبر عام ١٩٦٤، عندما أسقط المحتجون في الحضر أول ديكتاتورية عسكرية ما بعد الاستعمار في السودان، أن الثورة لا يمكن تحقيق أهدافها سوى بمد الديمقراطية في الريف السوداني. وقتها، هزم زعماء الطوائف الثورة، وذلك في حلف مع رأس المال التجاري الذي يسلب الريف فوائضه. استغل زعماء الطوائف نفوذهم الديني لحشد الدعم الريفي والتخلص من المثقفين والقوى النقابية التي قادت الثورة. تعذر على عبد الخالق اجتراح صيغة لديمقراطية الريف وبشر في غياب هذه الصيغة بعبارة "الديمقراطية الشعبية"، مفهوم غامض جعله محل مستقبل لم يتكشف له.
لجان المقاومة اليوم في وضع مماثل. ربما تحتاج لجان المقاومة إلى مواءمة سياستها لتوالي السياسة الريفية المعتلة بفعل نظام المليشيا. ربما تعذر على لجان المقاومة رؤية المستقبل، لكن طورت مناضلات اللجان ممارسة ثورية جديدة، لجنة المقاومة في الحي السكني كوحدة للتعبئة والمناورة واللوجستيات والتثقيف السياسي في المواجهات الحضرية مع أجهزة الأمن. تقف اللجان اليوم في طليعة المعارضة لانقلاب البرهان.
حولت اللجان حتى الآن الطاقات السياسية الوثابة إلى نشاط جماهيري. انخرط الآلاف من الشابات والشباب في الصراع السياسي من خلال هذه الوحدات المنفتحة ذات التنظيم الأفقي. وفرت اللجان مساحات جديدة للتضامن بين مكونات حضرية فاصل ما بينها نظام السوق الاستبدادي: طلاب الجامعات البارعون في الجدال من الطبقات الوسطى ذات الرواتب، عمال اليومية الذين يكابدون لكسب رزق عسير من مشاغل شتى، عمال الصناعات الفقراء، الخريجون العاطلون عن العمل، عمال الطوب والبناء، العمال المهرة، صغار التجار والفريشة.
ساعدت اللجان عمال النظافة في الخرطوم، المستأجرون بعقود قصيرة المدى لدى شركة مملوكة للدولة، على تنظيم إضرابات في ديسمبر ٢٠٢٠ ويونيو ٢٠٢١ للمطالبة بعقود دائمة والإدماج في الهيكل الراتبي الحكومي. نظم فريشة الأسواق في أم درمان والخرطوم مظاهرات في يوليو وأغسطس ٢٠٢١ ضد أوامر الإخلاء الصادرة عن سلطات الولاية. كذلك، نهضت لجنة للمقاومة بين فريشة السوق العربي وسط الخرطوم. تحدث أحد قادة اللجنة إلى الإعلام في أكتوبر ٢٠٢١ شارحا أن صفوف الفريشة تضم طلابا فقراء وخريجين لم يجدوا عملا سوى التجارة الصغيرة على أرجلهم. تظهر هذه المنجزات أن لجان المقاومة صيغة يمكنها التلاؤم مع متطلبات الاقتصاد غير المنظم في الحضر.
أثبتت هذه الكتلة الثورية أنها لا تنضب، لا تقبل الرشوة ولا تهزم، رغما عن الإرهاب العاري والدامي الذي واجهته في مظاهرات سبتمبر ٢٠١٣ ثم خلال موسم المظاهرات الطويل في ٢٠١٨ – ٢٠١٩ ومرة أخرى في مجزرة اعتصام القيادة العامة في ٣ يونيو ٢٠١٩ عندما قتلت قوات الدعم السريع وظهيراتها واغتصبت العشرات وربما المئات من النساء والرجال. قبلت هذه الكتلة الثورية بالتسويات اللازمة لتشكيل حكومة ٢٠١٩ الانتقالية ووجدت الطاقة للاستمرار في مواجهة انقلاب أكتوبر ٢٠٢١ رغم الإحباط الناجم عن انقسامات قوى الحرية والتغيير والتكلفة الباهظة للإصلاحات الاقتصادية.
يتضح النجاح الباهر للجان المقاومة لمن يتأمل تكاثرها عبر مدن السودان الصغيرة وأبعد من ذلك. سجل شابات وشباب من قرى منسية في الجزيرة وكردفان أسماء مواطنهم على خريطة البلاد عبر إعلان لجان مقاومة خاصة بهم. نشأت على سبيل المثال لجنة مقاومة في أم دم حاج أحمد، في الناحية الشمالية الشرقية من بارا في كردفان. اهتبلت هذه اللجنة الساعة الثورية لإجبار شركة الاتصالات العملاقة "سوداني" على دفع إيجار تلقاء استيلاءها على أرض أقامت عليها ساريا للاتصالات وذلك لصالح نادي محلي للشباب والرياضة.
أما في الجزيرة، حزام الزراعة في وسط السودان، فقد وفرت صيغة لجنة المقاومة قدرات تنظيمية جديدة لأجيال من العمال الزراعيين الذين لا أرض لهم في معسكرات العمالة الزراعية المعروفة باسم "الكنابي" التي تحيط بقرى المنطقة. تتمثل المواطنة في السودان "الجديد" بالنسبة لسكان الكنابي في مطلب حقوق الأرض وسط ملاك زراعيين جزعين من فقدان ما اكتسبوا. نبتت لجان المقاومة وازدهرت في مواقع لا تخطر على بال، في مشاريع نهر القاش الزراعية نواحي كسلا، والتي يعود تاريخها إلى مبتدر النفاذ الرأسمالي في سبعينات القرن التاسع عشر، وكذلك في الزريبة، مركز الخلاوى والتعليم الصوفي والتقاليد الأبوية الراسخة في كردفان. بل نشأت لجنة مقاومة في نيرتتي، في مرتفع جبل مرة. نظمت مناضلات لجنة نيرتتي اعتصاما دام أسابيع في يوليو ٢٠٢٠ للمطالبة بحظر حمل السلاح وحماية المزارع والماشية من عصابات السلب والنهب.
حاول المحتجون الحضريون في القرن العشرين عدة وسائل للاتصال بنضالات ريف السودان. نشأت على سبيل المثال حركة ماوية قصيرة العمر في جنوب كردفان على يد منشقين عن الحزب الشيوعي بهدف جذب الفلاحين إلى صراع سياسي يهيمن عليه عمال المدن. كذلك، طافت وفود من الطلاب الحضريين على المدن النائية والقرى. ربما يعتمد نصر الثورة، بعبارة عبد الخالق منحولة هنا، على قدرة لجان المقاومة أن تنسج بين النضالات متعددة الأوجه في المدينة والريف وأن تصبح رأس حربة ديمقراطية في ريف السودان الذي تحكمه المليشيات.
قد لا يعرف ثوار اليوم على وجه التحقق ما الذي اخترعوا حين أنشأوا لجان المقاومة. أغلب الظن، لم يكن البشير كذلك يعرف على وجه التمام ما كان يصنع حين أنشأ مليشيا نيوليبرالية يمتد نشاطها من مسارح المعارك في دارفور عبر البحر الأحمر حتى جبال اليمن. وجب التأمل في ساعة الرعب هذه بتواضع في تضحيات اليافعات واليافعين في شوارع الخرطوم وفي نيرتتي البعيدة وهم يواجهون القوة الانتقامية لجهاز قسري صار عنصرا في معمار أمني يصل بين أبي ظبي والقاهرة وتل أبيب والرياض وواشنطن. قد لا يكون لمناضلات اللجنة الكثير الذي يخسرنه، لكننا والعالم قد نخسرهن.

أدوارد توماس ومجدي الجزولي

نشر أصل هذه الكلمة في الانجليزية على موقع African Arguments.

تعريب @Gidaam1 والكاتبين

m.elgizouli@gmail.com

 

آراء