الإعلام والصحافة والجدل بين رؤيتين

 


 

 

كانت فكرة قانون للإعلام و الصحافة، مختزنة في عقول العديد من قيادات الأحزاب ذات المرجعيات الشمولية، الذين مايزالون يحلمون بدور الإعلام المحتكر للسلطة أيام ألمانيا الهتلرية، و وزير إعلامها غوبلز، و الذي استطاع أن يدخل الإعلام كأداة في الحرب النفسية علي شعوب الدول التي تحيط بدولة ألمانيا، و أستخدم فيها غوبلز كل ما انتجه علم النفس في ذلك الوقت. و بعد غوبلز أصبح الإعلام أهم أداة للأنظمة الشمولية في الدول التي تحكم بأنظمة عسكرية، أو أنظمة الحزب الواحد رغبة في السيطرة، و تقليص مساحة الحرية، و هؤلاء الذين جاءوا بفكرة قانون للصحافة و الإعلام، و قالوا أنهم يريدون حماية حقوق آهل المهنة، و أن يساعد القانون في توسيع مواعين الحرية، لكي يؤدي الإعلام و الصحافة الدور المنوط بهما كسلطة رابعة في المجتمع، و لكن دائما يصبح القانون في نهاية الأمر أداة لقمع الصحافيين و الإعلاميين، حتى لا يتجاوزوا الخطوط الحمراء، و فكرة القانون أن تخلق رقيبا ذاتيا عند الممارسين للمهنة حتى يصبحوا أداة ناقلة فقط لرأي السلطة. أو إعلام يخدم السلطة لوحدها. لذلك النظم الشمولية تحاول خلق كوابح لانطلاقة الإعلام و الصحافة.
في تسعينات القرن الماضي عقد التجمع الوطني الديمقراطي المعارض عدد من جلسات الحوار لصياغة قانون (للإعلام و الصحافة) يتبناه التجمع عند ما يتم إسقاط نظام الإنقاذ، كانت هناك رؤيتان الأولي تؤكد أن القانون مسألة ضرورية لأنه ينظم المهنة، و بالتالي يحكم عمل الصحافيين إلي جانب يسهل أداء المهنة. الرؤية الثانية تقول أن الإعلام يجب أن يخضع للتسجيل عند مسجل الشركات، و يحكمه القانون الجنائي و المدني في الدولة لكل متضرر منه، و أن عملية نجاح و فشل الإعلام و الصحافة مرتبط بالاداء الذي يقدماه، و إقبال الجمهور عليه، و حتى في الدول الديمقراطية هناك إعلام الدولة و ليس السلطة، باعتبار أن الدولة تتخير الوزارة التي يمكن أن تقدم الدعم للإعلام، دون التدخل في سياسة المؤسسة الإعلامية. جاءت اتفاقية ( نيفاشا 2005م) و توقف الجدل و غاب التجمع الوطني الديمقراطي، و كل ما صاغه من قوانين. حيث انخرطت أحزاب التجمع في البرلمان الجديد (2005- 2011م) في جدل حول قانون جديد للإعلام و الصحافة و لم يغير الوضع شيئا بسبب استمرار النظام الشمولي. أن نظم الحكم إذا كانت عسكرية أو مدنية تتخوف من استقلالية الإعلام و الصحافة.
بعد سقوط الإنقاذ كان المتوقع أن تتغير الرؤية لكي تدعم عملية التحول الديمقراطي في البلاد، و تتغلب الرؤية الداعية لوقف كل عمليات المراقبة و المحاسبة للعمل الإعلام و الصحافة من قبل منظمات تابعة للدولة. و أن تجمد القوانين السابقة التي خلفتها الإنقاذ، لكن وزير الإعلام في حكومة حمدوك الأولى ( فيصل محمد صالح) سار في ذات الاتجاه القديم الداعم أن يكون هناك قانون للإعلام و الصحافة معدل عن السابق، و ليس إلغاء القانون، باعتبار أن؛ الرجل مؤمن أن يكون هناك قانون للإعلام و الصحافة، تعبيرا لمرجعيته الفكرية الداعمة للقبضة على هذه المؤسسات الإعلامية و إرشادها. و انتصرت الرؤية الشمولية مرة أخرى في الفترة الانتقالية، التي كان لها أن تتبنى الرؤية الديمقراطية، و أن تحل كل المؤسسات التي تم تأسيسها بحكم القانون الشمولي. و تصبح حرية التعبير و مؤسساتها تابعة من حيث التنظيم و الإشرف لقانون الشركات، و تتحصل الدولة منها رسوم تسجيلها، و تكون خاضعة لدفع الضرائب،للدولة و تخضع للقانونين الجنائي و المدني لكل متضرر أو طالب حق، الأمر الذي يوسع دائرة الحرية، و يتحرر الإعلام و الصحافة من سياط الدولة، و توقف عملية الرقيب الذاتية للصحافي، باعتبار أن العملية التي تقوم بها الدولة في الرقابة و التحكم على الأداء الإعلامي ةو الصحفي سوف يحد من إنطلاقة حرية التعبير، و يجعلها أبواق للدولة و ما تريده، ألأمر الذي يؤثر سلبا أيضا على عملية الإبداع في تلك المؤسسات، و عدم الإقدام على محاربة الفساد في مهده و تصحيح الأخطاء، و هي محاولات لخلق حصانة لمؤسسات الدولة من الرقابة. أن الإعلام و الصحافة هي القواعد التي يؤسس عليها العمل الديمقراطي، لذلك يطلق عليها السلطة الرابعة.
أن أغلبية الدول الديمقراطية ليس لها قوانين خاصة للإعلام و الصحافة، بل تخضع للقوانين العامة للدولة، رغم أن هناك إذاعات و قنوات تلفزيونية تقدم لها الدولة الدعم المالي. و إذا ضربنا أمثالا لذلك؛ نجد أن الحكومة البريطانية تدعم ماليا مؤسسة ( BBC) بكل فروعها من خلال وزارة الداخلية، لكن المؤسسة لها اللوائح التي تحكم عملها و لا تخضعها للسلطة التنفيذية، و دلالة على ذلك؛ المثل المعروف أن مؤسسة (BBC) وقفت ضد حرب بريطانيا مع الارجنتين على جزر الفوكلند. و قالت المؤسسة هذه حرب مارغريت تاتشر رئيسة الوزراء و ليست حرب بريطانيا. و أيضا إذاعة " Voice of America" بفروعها المختلفة تجد الدعم من قبل الدولة و لكنها غير خاضعة للإدارة الأمريكية، و لها استقلاليتها الخاصة، و كانت داعمة لوقف الحرب في فيتنام. في استراليا مؤسسة ( SBS ) كانت الحكومة قد أنشأتها لكي تخدم مشروع التنوع الثقافي لدمج المهاجرين في استراليا، و اعتبرت الحكومة المؤسسة قد انجزت المشروع بنجاح، بل أصبحت المؤسسة من المؤسسات الإعلامية العريقة ذات المشاهدة العالية و أعلنت الحكومة أنها سوف تخفض دعمها تدريجيا و بدأت ذلك من سنين، و الأن 75% من دعم المؤسسة يأتي من المواطنين، و لم تكون المؤسسة يوما بوقا للحكومة، بل من أفضل المؤسسات الإعلامية.
أن المؤسسة الإعلامية في السودان منذ خرج المستعمر ظلت حبيسة للفكر الشمولي الذي يخضعها خضوعا كاملا للسلطة التنفيذية الحاكمة، حيث ظلت ست سنوات في قبضة المجلس العسكري للرئيس أبراهيم عبود. ثم 16 تحت سيطرة السلطة و مراقبة مباشرة من رئيس الجمهورية جعفر نميري، و خضعت للرقابة المباشرة من قبل الرئيس البشير و جهاز الأمن و المخابرات 30 عاما، فالثقافة الإعلامية تتحكم فيها الثقافة الشمولية و ظل العديد من الإعلاميين يقعون تحت وطأة اللوائح و الإجراءات التي كانت مستمر فترة 52 عاما. يجب أن يدرك هؤلاء أن النظام قد تغير، و يجب أن يتحرر الإعلام و الصحافة من القيود التي كبلتها أكثر من نصف قرن، حتى يستطيعا لعب الدور المنوط أن يلعباه في عملية التحول الديمقراطي، و تقديم المبادرات و أخذ المعلومات من مصادرها و توصيلها للناس، لكي يكون الكل مراقبا لمصالح الوطن و المواطنيين. و الديمقراطية تجعل هناك جسما واحدا هو الرقيب و المحاسب لكل مؤسسات الدولة التنفيذية هو البرلمان. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
///////////////////////////

 

آراء