قضية الغرب في الخطاب الاقتصادي السوداني
معتصم أقرع
17 February, 2022
17 February, 2022
elagraa@gmail.com
?من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا في الخطاب العام الاعتقاد بأن الخلافات في الساحة السياسية السودانية تدور بين معسكر معاد للغرب، ويمثله اليسار، ومعسكر آخر صديق له يمثله النيوليبراليون الذين يفضلون إزالة جميع أشكال الحماية الاجتماعية بما في ذلك دعم السلع.
?هذا التصور معقول إذا كان مصطلح غرب يعني هيمنة حكومات دول الغرب. لكن الصورة تتغير إذا كان مصطلح الغرب يعني الحضارة الغربية وليس الإمبريالية الغربية. نوع السياسات التي يدعو إليها المعسكر الرافض للنيولبرالية تتطابق تمامًا مع أفضل تقاليد الحضارة الغربية، وعلى رأسها الديمقراطية الاجتماعية التي تضمن الحد الأدنى من الظروف المعيشية اللائقة للجميع بغض النظر عن الدخل أو العمر أو الوضع الوظيفي.
?يدعو أحد أطراف الخلاف السوداني إلى التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية للجميع، لكن هذه الخدمات الاجتماعية مجانية بالفعل في جميع الدول الغربية تقريبًا وتوفر بسخاء نسبي في النموذج الاجتماعي الاسكندنافي. وبالمثل، فإن ذاك المعسكر يدعو إلى جعل ضروريات الحياة - مثل الخبز والمواصلات وما شابه ذلك - في متناول الجميع. لكن الخبز ايضا متوفر في الغرب ورخيص الثمن وهو مدعوم بطرق متعددة ومعقدة كما يتم أيضًا دعم النقل والمواصلات بشكل كبير كما يتضح في المقالة أدناه.
?إضافة إلى التعليم المجاني والرعاية الصحية وسهولة الوصول الي السلع والخدمات الأساسية بأسعار معقولة تتناسب مع الدخل، يحمي الغرب الفقراء من خلال تأمين السكن المجاني أو المدعوم والتحويلات الاجتماعية السخية التي تمكن الأسر ذات الدخل المحدود من الحفاظ على مستوى معيشي معقول ومن ثم توفير فرص لأطفالها للنمو الصحي والحصول على تعليم لائق.
?كما يتم توفير الحماية لكبار السن أيضًا بطرق مماثلة مثل رواتب المعاشات التقاعدية وإسكان المسنين والرعاية الطبية المجانية.
?ورغم ذلك، عندما كان سفراء الحكومات الغربية يوجهون وزراء وقادة السوداني بإلغاء الدعم، لم يخطر ببال أحد من السياسيين السودانيين أن يذكرهم بأن الغرب يغمر مواطنيه بشبكة دعم لا يمكن للسودان أن يحلم بمثلها.
?وهذا يعني أن النظام الاقتصادي المفروض على السودان لا يجوز تسميته بالنموذج الاقتصادي الغربي، لأنه ابعد ما يكون، فالنموذج الغربي كما أشرت سابقًا يوفر حقوقًا اقتصادية جيدة وحماية اجتماعية ويدعم مواطنيه بطرق متعددة.
? ما تم تطبيقه في السودان يسمى نموذج رأسمالية العالم الثالث وهو نموذج شرس يفتت المجتمع ويفاقم من انعدام المساواة. كما يوحي الاسم، يتم تطبيق هذا النموذج فقط على البلدان الفقيرة ذات القوة التفاوضية المحدودة في غابة الجيوبوليتيك المعولم ولكن الدول الغربية لا توافق أبدًا على تطبيق نفس مبادئ هذا النموذج على مجتمعاتها المدعومة حتى النخاع.
?بالعودة إلى السودان، فإن الخلاف حول السياسة الاقتصادية لا يدور في الحقيقة بين معسكر مؤيد للغرب ومعسكر مناهض له، لأن الذين يدافعون عن حماية الفقراء بالدعم وغيره يتطابقون مع أفضل جوانب الحضارة الغربية.
?على الجانب الآخر، فإن الداعين الي إعادة هيكلة الاقتصاد على حساب أفقر شرائح المجتمع هم على الجانب الآخر من الحضارة الغربية المعاصرة، حتى لو كانوا متسقين مع نسخها القديمة منذ عصر العبودية والاستعمار وحقب ما قبل الديمقراطية الاجتماعية التي تلته.
?في الواقع بتبشيرهم بنموذج العالم الثالث النيوليبراليون أقرب الي نسخة مجتمعية شديدة القسوة من منظور الاستعمار الغربي وليس الحضارة الغربية رغم التظاهر بأنهم صوت تلك الحضارة في سوح السياسة السودانية - باللبس ولغة الجسد والاستعراض - حتى يستلفوا عن غير وجه حق برستيجها وبريقها ومنجزها. وشتان ما بين التراث التنويري للحضارة الغربية ووجهها الاستعماري.
أدناه مقال كتبته قبل عام بالضبط قبل التوغل في التعجل في رفع الدعم. والمقال يتناول جوانب من القضية أعلاه.
رفع الدعم ومجانية المواصلات حول العالم:
?في العصر البشيري عانينا مع الشيخ الرئيس ابن سينا من أننا " بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم." أما في عصر ما بعد البشير فقد بلينا بقوم يظنون ان الفكر الرأسمالي لم يهد سواهم ولم يعيه غيرهم.
?كثيرا ما يصور الخطاب الرسمي ومناصروه الدعوة للتريث في رفع الدعم عن المحروقات على انها صادرة من موقف اشتراكي عتيق عفا عليه الزمن ومن أيديولوجيات ماتت.
?وهذا التصور غير صحيح وجاهل بالرأسمالية التي يرفع شعاراتها فوق جهله بالاشتراكية وأيديولوجيات فلول اليسار.
?في كبريات الدول الرأسمالية المعاصرة المواصلات العامة تتمتع بدعم قوي وأحيانا تكون مجانية تماما.
?ويتم الدعم أو التوفير المجاني بحجة توفير العدالة لمصلحة الطبقات الدنيا (عكس نظرية صاحب البرادو) وللحد من تلوث البيئة وتفادي ازدحام الطرق الذي يضعف الإنتاج والإنتاجية بإهداره لساعات طويلة في الاختناقات المرورية يمكن استخدامها في العمل أو رعاية الأسرة أو الترفيه استعدادا لجولة اخري من الإنتاج.
?وأيضا يتم الترويج لمجانية/دعم المواصلات بأنها خدمة أساسية من الواجب تقديمها بلا مقابل تماما كخدمات الشرطة والمطافئ وما شابه بما انها ضرورة قصوى للوصول للعمل والتعليم وقضاء حاجات إنسانية لا تستقيم الحياة بدونها.
?على سبيل توفر دولة لوكسمبورغ وسائل النقل العام مجانًا تماما بما في ذلك الترام والقطارات والحافلات. وقد ظلت تالين عاصمة إستونيا توفر وسائل النقل العام المجانية منذ عام 2013.
?كما أكثر من مئة مدينة في العالم تقدم مواصلات عامة مجانية، الغالبية العظمى منها في أوروبا، وخاصة فرنسا وبولندا، وليتوانيا وبعضها في امريكا. ويتزايد الحماس لتقديم مواصلات عامة مجانية حول العالم.
?كما ان معظم مدن العالم في الدول الرأسمالية الكبرى التي لا تتوفر فيها المجانية تدعم حكوماتها المواصلات العامة بصورة كبيرة.
? فمثلا في مدينة جنيف تتحمل الحكومة أكثر من نصف تكلفة المواصلات العامة ذات السبع أنجم والواي فاي. كما ان مرتب ثلاث ساعات عمل بالحد الأدنى للأجور (اكرر الحد الأدنى) يكفي لشراء بطاقة مواصلات عامة صالحة لمدة شهر بلا قيود على درجة وكم الاستعمال. ومن لا يجد عملا توفر له الحكومة السكن والعلاج المجاني ودخل أكثر من كافي.
? وفي ماضي غير بعيد اجري كانتون جنيف استفتاء لبدء مجانية المواصلات العامة رغم انها رخيصة ومدعومة بأكثر من نصف تكلفتها ورغم ان الدخول مرتفعة ومن لا يعمل تتولي امره الحكومة بكرم. رفض شعب جنيف المبادرة لخوفه من ان تجذب مجانية المواصلات النشالين من الدول المجاورة المتخصصين في ترويع السياح الغافلين.
?من اهم الحجج للتريث في قضية دعم المحروقات في السودان ان ارتفاع أسعارها يزيد من أسعار كل السلع الخاضعة للنقل وغير الخاضعة له وهكذا يفاقم من مشكلة الفقر والحرمان الاجتماعي.
?أضف الِي ذلك ان رفع الدعم أحيانا يرفع تكلفة المواصلات لدرجة يصبح فيها مرتب العامل/الموظف لا يكفي لتغطية تكلفة ترحيله إضافة الِي سعر وجبة بائسة وما يرتديه من ملابس بسيطة للعمل.
?وهذا يعني ببساطة ان رفع الدعم يهدد تواصل الإنتاج في القطاع العام وفي كل القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية وبذلك قد يكلف الخزينة العامة- بإضعاف العائد الضريبي وانتاجية العمل في القطاع العام- اضعاف ما يوفر وهذه حماقة.
? وستتفاقم السلبيات الناجمة عن رفع يد الدولة عن قطاع المواصلات لان رفع الدعم وتحرير الأسعار يعني ارتفاع لا يتوقف لتكلفة المواصلات التي سوف يتم تعديلها مع كل انخفاض في سعر صرف الجنيه المتهالك ومع الارتفاع المتوقع في أسعار المحروقات في السوق العالمي بعد تعافي الطلب وانجلاء البيات الشتوي الذي تسبب فيه فيروس الكورونا.
?ذكرنا كثيرا ان مشكلة توزيع فوائد الدعم بين الطبقات يمكن ضبطها بفرض ضرائب سنوية إضافية على أصحاب السيارات الخاصة، لتتصاعد هذه الضرائب مع درجة فخامة السيارة حتى يصرخ صاحب البرادو. لذلك فان حجة استفادة الأغنياء مبرر فاسد لرفع الدعم وبائس من نواحي معرفية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية.
?الِي ان تقوم الحكومة ببناء شبكة مواصلات عامة مدعومة وقوية ونظيفة وتتناسب مع الكرامة الإنسانية يظل خيار المحافظة على درجة من دعم الوقود مصحوبا بضرائب تصاعدية على السيارات الخاصة هو الخيار الأفضل ليس فقط اجتماعيا، بل اقتصاديا أيضا آخذين في الاعتبار تأثير ارتفاع أسعار المحروقات على الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي إضافة الِي ان صعوبة التنبؤ بأسعار الطاقة يثبط من الاستثمار لان صاحب الاعمال لن يستطيع التخطيط والاطمئنان النسبي في مناخ لا يدري كم ستبلغ تكاليف انتاجه ولا مبيعاته المتوقعة.
? اخيرا فان الارتفاع اليومي المتوقع في أسعار المواصلات - في حالة استمرار تحرير اسعار المحروقات - الذي لا مفر منه مع الهبوط العمودي اليومي لسعر العملة الوطنية - سيثير قلاقل سياسية الحكومة والوطن المثخن بالجراح في غني عنها.
/////////////////////////////
?من أكثر المفاهيم الخاطئة شيوعًا في الخطاب العام الاعتقاد بأن الخلافات في الساحة السياسية السودانية تدور بين معسكر معاد للغرب، ويمثله اليسار، ومعسكر آخر صديق له يمثله النيوليبراليون الذين يفضلون إزالة جميع أشكال الحماية الاجتماعية بما في ذلك دعم السلع.
?هذا التصور معقول إذا كان مصطلح غرب يعني هيمنة حكومات دول الغرب. لكن الصورة تتغير إذا كان مصطلح الغرب يعني الحضارة الغربية وليس الإمبريالية الغربية. نوع السياسات التي يدعو إليها المعسكر الرافض للنيولبرالية تتطابق تمامًا مع أفضل تقاليد الحضارة الغربية، وعلى رأسها الديمقراطية الاجتماعية التي تضمن الحد الأدنى من الظروف المعيشية اللائقة للجميع بغض النظر عن الدخل أو العمر أو الوضع الوظيفي.
?يدعو أحد أطراف الخلاف السوداني إلى التعليم المجاني والرعاية الصحية المجانية للجميع، لكن هذه الخدمات الاجتماعية مجانية بالفعل في جميع الدول الغربية تقريبًا وتوفر بسخاء نسبي في النموذج الاجتماعي الاسكندنافي. وبالمثل، فإن ذاك المعسكر يدعو إلى جعل ضروريات الحياة - مثل الخبز والمواصلات وما شابه ذلك - في متناول الجميع. لكن الخبز ايضا متوفر في الغرب ورخيص الثمن وهو مدعوم بطرق متعددة ومعقدة كما يتم أيضًا دعم النقل والمواصلات بشكل كبير كما يتضح في المقالة أدناه.
?إضافة إلى التعليم المجاني والرعاية الصحية وسهولة الوصول الي السلع والخدمات الأساسية بأسعار معقولة تتناسب مع الدخل، يحمي الغرب الفقراء من خلال تأمين السكن المجاني أو المدعوم والتحويلات الاجتماعية السخية التي تمكن الأسر ذات الدخل المحدود من الحفاظ على مستوى معيشي معقول ومن ثم توفير فرص لأطفالها للنمو الصحي والحصول على تعليم لائق.
?كما يتم توفير الحماية لكبار السن أيضًا بطرق مماثلة مثل رواتب المعاشات التقاعدية وإسكان المسنين والرعاية الطبية المجانية.
?ورغم ذلك، عندما كان سفراء الحكومات الغربية يوجهون وزراء وقادة السوداني بإلغاء الدعم، لم يخطر ببال أحد من السياسيين السودانيين أن يذكرهم بأن الغرب يغمر مواطنيه بشبكة دعم لا يمكن للسودان أن يحلم بمثلها.
?وهذا يعني أن النظام الاقتصادي المفروض على السودان لا يجوز تسميته بالنموذج الاقتصادي الغربي، لأنه ابعد ما يكون، فالنموذج الغربي كما أشرت سابقًا يوفر حقوقًا اقتصادية جيدة وحماية اجتماعية ويدعم مواطنيه بطرق متعددة.
? ما تم تطبيقه في السودان يسمى نموذج رأسمالية العالم الثالث وهو نموذج شرس يفتت المجتمع ويفاقم من انعدام المساواة. كما يوحي الاسم، يتم تطبيق هذا النموذج فقط على البلدان الفقيرة ذات القوة التفاوضية المحدودة في غابة الجيوبوليتيك المعولم ولكن الدول الغربية لا توافق أبدًا على تطبيق نفس مبادئ هذا النموذج على مجتمعاتها المدعومة حتى النخاع.
?بالعودة إلى السودان، فإن الخلاف حول السياسة الاقتصادية لا يدور في الحقيقة بين معسكر مؤيد للغرب ومعسكر مناهض له، لأن الذين يدافعون عن حماية الفقراء بالدعم وغيره يتطابقون مع أفضل جوانب الحضارة الغربية.
?على الجانب الآخر، فإن الداعين الي إعادة هيكلة الاقتصاد على حساب أفقر شرائح المجتمع هم على الجانب الآخر من الحضارة الغربية المعاصرة، حتى لو كانوا متسقين مع نسخها القديمة منذ عصر العبودية والاستعمار وحقب ما قبل الديمقراطية الاجتماعية التي تلته.
?في الواقع بتبشيرهم بنموذج العالم الثالث النيوليبراليون أقرب الي نسخة مجتمعية شديدة القسوة من منظور الاستعمار الغربي وليس الحضارة الغربية رغم التظاهر بأنهم صوت تلك الحضارة في سوح السياسة السودانية - باللبس ولغة الجسد والاستعراض - حتى يستلفوا عن غير وجه حق برستيجها وبريقها ومنجزها. وشتان ما بين التراث التنويري للحضارة الغربية ووجهها الاستعماري.
أدناه مقال كتبته قبل عام بالضبط قبل التوغل في التعجل في رفع الدعم. والمقال يتناول جوانب من القضية أعلاه.
رفع الدعم ومجانية المواصلات حول العالم:
?في العصر البشيري عانينا مع الشيخ الرئيس ابن سينا من أننا " بُلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم." أما في عصر ما بعد البشير فقد بلينا بقوم يظنون ان الفكر الرأسمالي لم يهد سواهم ولم يعيه غيرهم.
?كثيرا ما يصور الخطاب الرسمي ومناصروه الدعوة للتريث في رفع الدعم عن المحروقات على انها صادرة من موقف اشتراكي عتيق عفا عليه الزمن ومن أيديولوجيات ماتت.
?وهذا التصور غير صحيح وجاهل بالرأسمالية التي يرفع شعاراتها فوق جهله بالاشتراكية وأيديولوجيات فلول اليسار.
?في كبريات الدول الرأسمالية المعاصرة المواصلات العامة تتمتع بدعم قوي وأحيانا تكون مجانية تماما.
?ويتم الدعم أو التوفير المجاني بحجة توفير العدالة لمصلحة الطبقات الدنيا (عكس نظرية صاحب البرادو) وللحد من تلوث البيئة وتفادي ازدحام الطرق الذي يضعف الإنتاج والإنتاجية بإهداره لساعات طويلة في الاختناقات المرورية يمكن استخدامها في العمل أو رعاية الأسرة أو الترفيه استعدادا لجولة اخري من الإنتاج.
?وأيضا يتم الترويج لمجانية/دعم المواصلات بأنها خدمة أساسية من الواجب تقديمها بلا مقابل تماما كخدمات الشرطة والمطافئ وما شابه بما انها ضرورة قصوى للوصول للعمل والتعليم وقضاء حاجات إنسانية لا تستقيم الحياة بدونها.
?على سبيل توفر دولة لوكسمبورغ وسائل النقل العام مجانًا تماما بما في ذلك الترام والقطارات والحافلات. وقد ظلت تالين عاصمة إستونيا توفر وسائل النقل العام المجانية منذ عام 2013.
?كما أكثر من مئة مدينة في العالم تقدم مواصلات عامة مجانية، الغالبية العظمى منها في أوروبا، وخاصة فرنسا وبولندا، وليتوانيا وبعضها في امريكا. ويتزايد الحماس لتقديم مواصلات عامة مجانية حول العالم.
?كما ان معظم مدن العالم في الدول الرأسمالية الكبرى التي لا تتوفر فيها المجانية تدعم حكوماتها المواصلات العامة بصورة كبيرة.
? فمثلا في مدينة جنيف تتحمل الحكومة أكثر من نصف تكلفة المواصلات العامة ذات السبع أنجم والواي فاي. كما ان مرتب ثلاث ساعات عمل بالحد الأدنى للأجور (اكرر الحد الأدنى) يكفي لشراء بطاقة مواصلات عامة صالحة لمدة شهر بلا قيود على درجة وكم الاستعمال. ومن لا يجد عملا توفر له الحكومة السكن والعلاج المجاني ودخل أكثر من كافي.
? وفي ماضي غير بعيد اجري كانتون جنيف استفتاء لبدء مجانية المواصلات العامة رغم انها رخيصة ومدعومة بأكثر من نصف تكلفتها ورغم ان الدخول مرتفعة ومن لا يعمل تتولي امره الحكومة بكرم. رفض شعب جنيف المبادرة لخوفه من ان تجذب مجانية المواصلات النشالين من الدول المجاورة المتخصصين في ترويع السياح الغافلين.
?من اهم الحجج للتريث في قضية دعم المحروقات في السودان ان ارتفاع أسعارها يزيد من أسعار كل السلع الخاضعة للنقل وغير الخاضعة له وهكذا يفاقم من مشكلة الفقر والحرمان الاجتماعي.
?أضف الِي ذلك ان رفع الدعم أحيانا يرفع تكلفة المواصلات لدرجة يصبح فيها مرتب العامل/الموظف لا يكفي لتغطية تكلفة ترحيله إضافة الِي سعر وجبة بائسة وما يرتديه من ملابس بسيطة للعمل.
?وهذا يعني ببساطة ان رفع الدعم يهدد تواصل الإنتاج في القطاع العام وفي كل القطاعات الصناعية والزراعية والخدمية وبذلك قد يكلف الخزينة العامة- بإضعاف العائد الضريبي وانتاجية العمل في القطاع العام- اضعاف ما يوفر وهذه حماقة.
? وستتفاقم السلبيات الناجمة عن رفع يد الدولة عن قطاع المواصلات لان رفع الدعم وتحرير الأسعار يعني ارتفاع لا يتوقف لتكلفة المواصلات التي سوف يتم تعديلها مع كل انخفاض في سعر صرف الجنيه المتهالك ومع الارتفاع المتوقع في أسعار المحروقات في السوق العالمي بعد تعافي الطلب وانجلاء البيات الشتوي الذي تسبب فيه فيروس الكورونا.
?ذكرنا كثيرا ان مشكلة توزيع فوائد الدعم بين الطبقات يمكن ضبطها بفرض ضرائب سنوية إضافية على أصحاب السيارات الخاصة، لتتصاعد هذه الضرائب مع درجة فخامة السيارة حتى يصرخ صاحب البرادو. لذلك فان حجة استفادة الأغنياء مبرر فاسد لرفع الدعم وبائس من نواحي معرفية، واقتصادية، واجتماعية، وسياسية.
?الِي ان تقوم الحكومة ببناء شبكة مواصلات عامة مدعومة وقوية ونظيفة وتتناسب مع الكرامة الإنسانية يظل خيار المحافظة على درجة من دعم الوقود مصحوبا بضرائب تصاعدية على السيارات الخاصة هو الخيار الأفضل ليس فقط اجتماعيا، بل اقتصاديا أيضا آخذين في الاعتبار تأثير ارتفاع أسعار المحروقات على الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي إضافة الِي ان صعوبة التنبؤ بأسعار الطاقة يثبط من الاستثمار لان صاحب الاعمال لن يستطيع التخطيط والاطمئنان النسبي في مناخ لا يدري كم ستبلغ تكاليف انتاجه ولا مبيعاته المتوقعة.
? اخيرا فان الارتفاع اليومي المتوقع في أسعار المواصلات - في حالة استمرار تحرير اسعار المحروقات - الذي لا مفر منه مع الهبوط العمودي اليومي لسعر العملة الوطنية - سيثير قلاقل سياسية الحكومة والوطن المثخن بالجراح في غني عنها.
/////////////////////////////