“تقوم الحضارات على التراص، فلماذا نهدم نحن؟” : الأستاذة عفراء فتح الرحمن
أ.د. أحمد إبراهيم أبوشوك
19 February, 2022
19 February, 2022
(1)
دشَّنت الأديبة الإعلامية الأستاذة عفراء فتح الرحمن الجزء الأول من سلسلة الحوارات التي أجرتها مع بعض رموز المجتمع السوداني (سيدات وسادة) من سياسيين وأدباء وفنانين، بعنوان "حواراتي معهم"، وحضر التدشين ألوان طيف متعددة من المجتمع السوداني بفندق "إيواء" بالخرطوم في يوم السبت الموافق 12 فبراير 2022. لم أكن متابعاً لهذا الحدث، الذي يستحق الإشادة والتقدير، ولكن الذي شد انتباهي هو فكرة نشر الحوارات في كتاب، وذلك لسببين: أولهما، إنَّ مبادرة جمع الحوارات التلفزيونية في كتاب ونشرها هي مبادرة تدل على وعي إعلامي متقدم؛ لأن المُحَاورة بذلك أعطت مساحة أوسع لانتشار مادة الحوارات في أوساط القارئين، الذين لم يشاهدونها حيَّة عبر القنوات الفضائية. وثانيهما، إنَّ نشر الحوارات في كتاب فيه توثيق لمادة الحوارات نفسها، لتكون متاحة لأجيال الباحثين الجدد المعاصرين واللاحقين منهم؛ ليقفوا علىٍ طرفٍ من إرث إسلافهم، ويعتبروا به إيجاباً وسلباً.
(2)
لكن الشيء الذي استوقفني حقاً هو الحوار الذي أجرته الإعلامية نجود حبيب مع الأستاذة عفراء فتح الرحمن عن قصة "حواراتي معهم" عبر فضائية النيل الأزرق في مساء يوم الجمعة الموافق 18 فبرير 2022، وحاورتها بكفاءة عالية عن الفكرة الكامنة وراء نشر "حواراتي معهم"، والمغزى من ذلك، والمحتوي الذي يكتنزه الكتاب المنشور بين دفتيه. وكانت إجابات المؤلفة في غاية الروعة والذكاء، فالتقطتُ منها عبارات جديرة بالتأمل والتدبر: "تقوم الحضارات على التراص، فلماذا نهدم نحن؟ نخرب سُوبا لنؤسس لسنار"، ويتسق هذا الافتراض الذي طرحته المؤلفة، والسؤال المؤسس عليه، والنتيجة المؤكدة له، مع قول المؤرخ محمد إبراهيم أبوسليم في كتابه "تاريخ الخرطوم": "إن انشاء مدينة حديثة بجوار مدينة قديمة لابد أن يسرع بخراب المدينة القديمة سواء كان مادياً بأخذ طوبها واحجارها وأخشابها كما وقع لمدينة سوبا عند انشاء الخرطوم، وللخرطوم عند انشاء أمدرمان." بالرغم من واجهة هذا المبرر الذي طرحه البروفسير أبوسليم؛ إلا أنني أجد نفسي أكثر ميلاً إلى افتراض الأستاذة عفراء وتساؤلها: "تقوم الحضارات على التراص، لماذا نهدم نحن؟". ويستند ميلي إلى أن قيمة البناء التراكمي للحضارات تدل على رقي الوعي الإنساني؛ لذلك نلحظ أن الحضارات الغربية تحافظ على إرثها القديم، وتنبي عليه. ومن هناء جاء استهجان ابن خلدون لمحاولة الخليفة هارون الرشيد هدم إيوان كسرى، بحجة أنه يرمز إلى إرث دولة أعجمية كافرة. ويُشبه موقف الرشيد هذا رأي أطلقه أحد أساتذة التاريخ والحضارة بجامعة أمدرمان الإسلامية: "بأن آثار السودان السابقة لدخول الإسلام عبارة عن موروثات ضلال نصراني وعبدة طين وأوثان لا يجوز الاحتفاء بها." يبدو أن هذا التصور السطحي قد دفع بعض المتطرفين إلى تحطيم تمثال الشيخ بابكر بدري بجامعة الأحفاد، والشهيد القرشي بجامعة الخرطوم، والمجاهد عثمان دقنة أمام بلدية بورتسودان، والنصب التذكارية لأمراء المهدية بساحة جامع الخليفة بأمدرمان. وهنا يظهر الفرق بين العقلية التعميرية والعقلية التخريبية، فالتعميريون يقدرون الأثر المادي؛ لأنه يمثل ملمحاً من ملامح حضاراتهم السابقة، ويشجع أجيالهم اللاحقة لتطوير مسارات الأبداع والعطاء الإنساني؛ لأن العقل الذي يستطيع أن يقيِّم موروثات الماضي بطريقة موضوعية، يستطيع أن يستثمرها بصورة إيجابية لبناء حاضر أفضل. وبناءً على هذه القيم التعميرية المتعارف عليها عالمياً يمكن القول بأن التمثال التذكاري للشيخ بابكر بدري ليس فيه شية من الوثنية؛ لأن أهل السودان لا يعبدون رائد تعليم المرأة، بل يرون في شخصه العصامي تجسيداً لبدايات الوعي التنويري في مجتمع كانت تعلو فيه النبرة الذكورية، وتتصاعد الانتقادات القادحة في أهمية التعليم المدني للبنين قبل أن يكون مسموحاً به للبنات. وعند هذا المنعطف تكمن فضيلة تقدير المبدعين من أفراد الشعب السوداني، وتتصاعد قيمة المعرفة التراكمية التي تدفع الإنسان الواعي بمقاصدها إلى الأمام. لكن مشكلتنا الأساسية أننا نثمن الأشياء من منطلقات أيديولوجية سطحية ليست لها أبعاد مقاصدية؛ بل في معظم الأحيان ذاهلة عن مقاصد الموضوعات المنتقدة نفسها. ولذلك نلحظ أنَّ التعميريين في كثير من شؤونهم الحياتية يهتمون بجواهر الأشياء، وكيفية توظيفها لخدمة المصلحة الإنسانية، بينما يتعلق التخريبيون بالقشور؛ دون إدراك لكُنه السؤال المُلح، والمستفز في آن واحد: لماذا تقدم هم، وتخلفنا نحن؟
(3)
اعتقد أن نشر "حواراتي معهم" يعكس نمطاً من أنماط التعمير التنويري، فالتهنئة الصادقة للأستاذة عفراء فتح الرحمن، بتحويل هذه الحوارات المنطوقة إلى نص مكتوب، لأن الاستدامة للنص المكتوب في بلد لا تقدر قيمة إرثها الحضاري.
ahmedabushouk62@hotmail.com
دشَّنت الأديبة الإعلامية الأستاذة عفراء فتح الرحمن الجزء الأول من سلسلة الحوارات التي أجرتها مع بعض رموز المجتمع السوداني (سيدات وسادة) من سياسيين وأدباء وفنانين، بعنوان "حواراتي معهم"، وحضر التدشين ألوان طيف متعددة من المجتمع السوداني بفندق "إيواء" بالخرطوم في يوم السبت الموافق 12 فبراير 2022. لم أكن متابعاً لهذا الحدث، الذي يستحق الإشادة والتقدير، ولكن الذي شد انتباهي هو فكرة نشر الحوارات في كتاب، وذلك لسببين: أولهما، إنَّ مبادرة جمع الحوارات التلفزيونية في كتاب ونشرها هي مبادرة تدل على وعي إعلامي متقدم؛ لأن المُحَاورة بذلك أعطت مساحة أوسع لانتشار مادة الحوارات في أوساط القارئين، الذين لم يشاهدونها حيَّة عبر القنوات الفضائية. وثانيهما، إنَّ نشر الحوارات في كتاب فيه توثيق لمادة الحوارات نفسها، لتكون متاحة لأجيال الباحثين الجدد المعاصرين واللاحقين منهم؛ ليقفوا علىٍ طرفٍ من إرث إسلافهم، ويعتبروا به إيجاباً وسلباً.
(2)
لكن الشيء الذي استوقفني حقاً هو الحوار الذي أجرته الإعلامية نجود حبيب مع الأستاذة عفراء فتح الرحمن عن قصة "حواراتي معهم" عبر فضائية النيل الأزرق في مساء يوم الجمعة الموافق 18 فبرير 2022، وحاورتها بكفاءة عالية عن الفكرة الكامنة وراء نشر "حواراتي معهم"، والمغزى من ذلك، والمحتوي الذي يكتنزه الكتاب المنشور بين دفتيه. وكانت إجابات المؤلفة في غاية الروعة والذكاء، فالتقطتُ منها عبارات جديرة بالتأمل والتدبر: "تقوم الحضارات على التراص، فلماذا نهدم نحن؟ نخرب سُوبا لنؤسس لسنار"، ويتسق هذا الافتراض الذي طرحته المؤلفة، والسؤال المؤسس عليه، والنتيجة المؤكدة له، مع قول المؤرخ محمد إبراهيم أبوسليم في كتابه "تاريخ الخرطوم": "إن انشاء مدينة حديثة بجوار مدينة قديمة لابد أن يسرع بخراب المدينة القديمة سواء كان مادياً بأخذ طوبها واحجارها وأخشابها كما وقع لمدينة سوبا عند انشاء الخرطوم، وللخرطوم عند انشاء أمدرمان." بالرغم من واجهة هذا المبرر الذي طرحه البروفسير أبوسليم؛ إلا أنني أجد نفسي أكثر ميلاً إلى افتراض الأستاذة عفراء وتساؤلها: "تقوم الحضارات على التراص، لماذا نهدم نحن؟". ويستند ميلي إلى أن قيمة البناء التراكمي للحضارات تدل على رقي الوعي الإنساني؛ لذلك نلحظ أن الحضارات الغربية تحافظ على إرثها القديم، وتنبي عليه. ومن هناء جاء استهجان ابن خلدون لمحاولة الخليفة هارون الرشيد هدم إيوان كسرى، بحجة أنه يرمز إلى إرث دولة أعجمية كافرة. ويُشبه موقف الرشيد هذا رأي أطلقه أحد أساتذة التاريخ والحضارة بجامعة أمدرمان الإسلامية: "بأن آثار السودان السابقة لدخول الإسلام عبارة عن موروثات ضلال نصراني وعبدة طين وأوثان لا يجوز الاحتفاء بها." يبدو أن هذا التصور السطحي قد دفع بعض المتطرفين إلى تحطيم تمثال الشيخ بابكر بدري بجامعة الأحفاد، والشهيد القرشي بجامعة الخرطوم، والمجاهد عثمان دقنة أمام بلدية بورتسودان، والنصب التذكارية لأمراء المهدية بساحة جامع الخليفة بأمدرمان. وهنا يظهر الفرق بين العقلية التعميرية والعقلية التخريبية، فالتعميريون يقدرون الأثر المادي؛ لأنه يمثل ملمحاً من ملامح حضاراتهم السابقة، ويشجع أجيالهم اللاحقة لتطوير مسارات الأبداع والعطاء الإنساني؛ لأن العقل الذي يستطيع أن يقيِّم موروثات الماضي بطريقة موضوعية، يستطيع أن يستثمرها بصورة إيجابية لبناء حاضر أفضل. وبناءً على هذه القيم التعميرية المتعارف عليها عالمياً يمكن القول بأن التمثال التذكاري للشيخ بابكر بدري ليس فيه شية من الوثنية؛ لأن أهل السودان لا يعبدون رائد تعليم المرأة، بل يرون في شخصه العصامي تجسيداً لبدايات الوعي التنويري في مجتمع كانت تعلو فيه النبرة الذكورية، وتتصاعد الانتقادات القادحة في أهمية التعليم المدني للبنين قبل أن يكون مسموحاً به للبنات. وعند هذا المنعطف تكمن فضيلة تقدير المبدعين من أفراد الشعب السوداني، وتتصاعد قيمة المعرفة التراكمية التي تدفع الإنسان الواعي بمقاصدها إلى الأمام. لكن مشكلتنا الأساسية أننا نثمن الأشياء من منطلقات أيديولوجية سطحية ليست لها أبعاد مقاصدية؛ بل في معظم الأحيان ذاهلة عن مقاصد الموضوعات المنتقدة نفسها. ولذلك نلحظ أنَّ التعميريين في كثير من شؤونهم الحياتية يهتمون بجواهر الأشياء، وكيفية توظيفها لخدمة المصلحة الإنسانية، بينما يتعلق التخريبيون بالقشور؛ دون إدراك لكُنه السؤال المُلح، والمستفز في آن واحد: لماذا تقدم هم، وتخلفنا نحن؟
(3)
اعتقد أن نشر "حواراتي معهم" يعكس نمطاً من أنماط التعمير التنويري، فالتهنئة الصادقة للأستاذة عفراء فتح الرحمن، بتحويل هذه الحوارات المنطوقة إلى نص مكتوب، لأن الاستدامة للنص المكتوب في بلد لا تقدر قيمة إرثها الحضاري.
ahmedabushouk62@hotmail.com