السودان الذي لا يخيف عدوًا ولا يسر حبيبًا 

 


 

 

ما بين الارتماء في أحضان مصر والامارات تارة، ومن بعدهما اسرائيل تارة أخرى، ثم الارتداد إلى الحضن الروسي أخيرا، بعثر البرهان ولاءاته هنا وهناك، أيضًا، مقدّمًا نفسه باعتباره قائد حرس سواحل القرن الأفريقي، الذي يتفانى في حماية الأوروبيين من المهاجرين، الأوغاد، الذين يلوثون نقاء أوروبا بأفكارهم الإرهابية.

في المحصلة، ذهب نائبه حميدتي  إلى روسيا حاملًا الملف الاقتصادي ، وحاملًا أيضًا حزمة من التناقضات في إدارة علاقاته الدولية، جعلته يبدّل ولاءاته وانحيازاته على نحو يبتعد عن البراجماتية السياسية، ويسقط في قاع الانتهازية والكيدية الدبلوماسية التي تدفعه إلى تبديل هذه الولاءات بخفّة، جعلته يعود من روسيا بخفي حنين، أو بالأحرى حافيًا.

وبدلًا من مراجعة الذات والنظر في المرآة، يأتي الحل الأسهل، كالعادة، في تفسير ما جرى بأن العالم كله يتآمر على البرهان، والبشرية كلها تحسد السودان على جنرالها  العبقري وتحقد عليه!!

هذه الحالة من الإنكار، أو الانفصام التام، تحيط نفسها بغشاء من الابتزاز يجعلها ترى في كل انتقاد للإدارة الانقلابية لملف العلاقات الخارجية، قبل روسيا وبعدها، شماتة في الوطن وخيانة له، وتآمرًا عليه .. يفعل ذلك تهرّبًا من مواجهة واقع مأساوي يقول إن المؤامرة الحقيقية في الداخل، وليست في الخارج، وهو الأمر الذي يجعل العالم لا يأخذ هذا النظام الانقلابي على محمل الجد، ولا يعتد بما يصدر عنه باستمرار من هلوسة استخدام القوة والعنف.

الحقيقة المفزعة التي يتعامى عنها جميع المسبحين بحمد الجنرال أن ما بين البرهان و محمد الفكي ووجدي صالح وخالد سلك خلاف يرقى إلى مستوى الخصومة الشخصية ويمتد ليصل إلى عائلاتهم  وعائلات غيرهم ( توباك نموذجاً)من آلاف المعتقلين والمسجونين والمخفيين قسرًا، ممن يكافح البرهان وزمرته من أجل حرمانهم من آبائهم وحرمان آبائهم منهم.

سيحسب الآخرون للسودان حسابًا عندما تكون خصومة السلطة فيها مع شعبها أقل من خصومتها من أعدائها الخارجيين، وعندما يدرك المسئول فيها، وزيرًا كان أم ضابطًا، أنه ليس الوطن، وليس مالكه الوحيد، وحين يعرف قطيع المصفقين للفشل الملتحف بالاستبداد والطغيان أنهم ليسوا معيار الوطنية، وأنهم ليسوا السودان، بل هم، مع الأسف، ليسوا سوى ملامح القبح التي تسللت إلى وجه السودان.

العدل أساس الملك…هل حقا هو كذلك؟

يُحكى أن الإسكندر قال لحكماء الهند: لِمَ صارت سُنن (قوانين وشرائع) بلادكم قليلة؟ قالوا: لإعطائنا الحق من أنفسنا، ولعدل ملوكنا فينا، فقال لهم: أيهما أفضل، العدل أم الشجاعة؟ قالوا: إذا استُعمل العدل أغنى عن الشجاعة.

ما إن يُذكر العدل حتى تترجم ملامحه في الأذهان على أنه قيمة من القيم العليا، التي هي مركز الإنسان، كما يقول علماء النفس، أو هو حقٌّ أصيل للجماهير، مكفولٌ لها المطالبة به، أو هو شعار ثوريّ ينزعج منه الحكام المستبدون، ويعتبرونه خطرا يدق أبوابهم.

إن قيمة العدل أوسع وأشمل من ذلك، هو سبيل المجتمعات إلى الاستقرار والنهوض وجمع الكلمة، والطريق إلى قيام الدول وتثبيت أركانها، والقاعدة الذهبية التي اتفق عليها البشر جميعا: «العدل أساس المُلك». ومن أجل أهمية العدل للمجتمعات والدول، أدرجه الإمام الماوردي في كتابه «أدب الدنيا والدين»، ضمن القواعد اللازمة لصلاح الدنيا واستقرار المجتمعات ونهوضها، فقال: «القاعدة الثالثة: «عَدْلٌ شَامِلٌ يَدْعُو إلَى الْأُلْفَةِ، وَيَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَتَتَعَمَّرُ بِهِ الْبِلَادُ، وَتَنْمُو بِهِ الْأَمْوَالُ، وَيَكْثُرُ مَعَهُ النَّسْلُ، وَيَأْمَنُ بِهِ السُّلْطَانُ». فمتى وجد العدل سادت الألفة بين الناس وبينهم وبين حكامهم، ومن ثم انصرفت الهمم للبناء والإعمار والإنتاج، إذ إن العمل مبناه على الأمن، والأمن مبعثه العدل، وقد نقل ابن عبد ربه في كتاب «العقد الفريد» عن عمرو بن العاص قوله: «لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل». إقامة العدل القانوني والسياسي والإداري والاجتماعي، بما يستلزمه من توزيع عادل للثروات والفرص والامتيازات، والتعامل على مبدأ تقديم الكفاءات، من شأنه أن يوفر مناخا صحيا للتطوير والعمل والإنتاج، حين يشعر المرء أنه لن يُظلم ولن يُبخس حقه، ويكون دافعا للمواطن لأن يُبقي ضميره حياً، وينطلق في عمله لصالح بلاده بدافع ذاتي، بخلاف من يعيش تحت وطأة الظلم، تعكس تعاملاته وسلوكياته آفات الازدواجية والأنانية وقلة الضمير، ولذا يؤكد الماوردي على أنه ليس أسرع في خراب الأرض ولا أفسد لضمائر الخلق من الجور.

ومن شأن إقامة العدل تعزيز الانتماء للوطن، ويترجم ذلك إلى سلوكيات عملية ينتهجها الأفراد، كالحفاظ على المنشآت والمرافق والمصالح العامة، بخلاف الذين يعيشون تحت مظلة الجور، تجدهم غالبا يسلكون مسالك عدوانية تجاه تلك المرافق والمنشآت، لشعورهم بأن الدولة تظلمهم وتنتقص من حقوقهم.

العدل فريضة إلهية، وفريضة إنسانية، وتخلف العدل يهدم أركان التعاقد القائم بين الحاكم والمحكوم، ويلغي شرعية السلام المفترض بين الطبقات الاجتماعية، لأن هذا السلام رهن بتكافل هذه الطبقات في تحقيق الضرورات الواجبة لسائر أعضاء الجسد الاجتماعي، كما يؤكد المفكر الراحل محمد عمارة، وفي المقابل يعزز إقامة العدل من انتماء الرعية إلى راعيها وحاكمها، ودعمه ونصرته، ومن هنا ندرك أن العدل أفضل ما تُساس به المجتمعات، وهو الضامن لاستقرار الحكم والحكام لا القمع والترهيب والعسف. الظلم يورث الذل، الذي هو أشد ما يفسد فطرة الإنسان ويحطم فضائله ويغرس فيه صفات العبيد، وهي كما عبر أحد الأدباء: «استخذاء تحت سوط الجلاد، وتمرد حين يرفع عنها السوط»، فهؤلاء الذين يعانون الازدواجية ولا تثبت لهم قدم على مبدأ، أنى لهم أن يكونوا أدوات بناء في مجتمعاتهم؟ من شأن الجور أن يحجب عن الفرد – الذي يقع عليه الظلم ـ رؤية أي شيء إيجابي في حياته، لأن وقْع الظلم يجعله لا يرى غيره، ولا يهتم لسواه، ولا ينصرف تفكيره إلا إليه، وقد حُكي أن رجلا قال في حضرة أعرابي: ما أشد وجع الضرس، فقال الأعرابي: «كل داء أشد داء»، فصاحب الداء لا يرى شيئا أشد منه، فلا يرى أنه في عافية ممن هو أشد منه مرضا، وهكذا من وقع عليه الظلم، ينسيه ما حوله من مواطن الخير، ومن ثم يفقد الثقة في مجتمعه وحاكمه، فيفقد حينها انتماءه لهما، ويصير سعيه مبنيا على تحقيق منفعته الشخصية لا غير، فكيف يتوقع من مثله أن يهتم بالمصالح العامة، أو أن يكون عنصرا فعالا في بناء مجتمعه؟

وقد كانت ثورات الربيع العربي التي أطاحت بأنظمة استبدادية، مردها إلى شعور الجماهير العربية بفقدان العدالة الاجتماعية، وكانت المطالبة بها على رأس أوليات الشعوب الغاضبة، التي عانت طويلا من الاستبداد والظلم، ولذلك لا مناص من القول إن استقرار أي نظام سياسي منوط بإقامة العدل.

ليس من العدل حرمان الجماهير العريضة من ثروات بلادها، وتمكين ثلة متنفعة منها، وليس من العدل منح حرية الكلمة والمنابر الإعلامية للموالين للأنظمة وحرمان المعارضين منها، وليس من العدل تأخير أهل الكفاءات وتقديم ذوي المحسوبيات والوسائط، وليس من العدل تطبيق القوانين بحذافيرها على البسطاء والفقراء والضعفاء والمقهورين والمتعبين، بينما يكون أهل القوة والثراء الفاحش بمعزل عنها، على طريقة قانون مدينة ساكسونيا الألمانية، عندما كان يطبق القانون على الفقير بجلد ظهره، بينما يطبق على النبيل بجلد ظله. وليس من العدل الاستئثار الأبدي بالسلطة ومنع تداولها، وحرمان الأمة من حقها في تعيين الحاكم ومراقبته ومحاسبته وتقويمه.

لقد أكدت صفحات التاريخ ما استقرت عليه أفهام العقلاء، من ارتباط قيام الدول بالعدل، ولن يستقر عرش حاكم إلا إذا أقام العدل في رعيته .إن فى بلدى الآن نارًا تحت الرماد، وهناك تارات وخصومة، وتوترات لن يطفئها إلا سيف العدالة الذى يقيم المعوج ويرد المظالم لأصحابها، ويفشى السلام بين الناس، ولو لم نفعل لازداد الحال سوءًا ولطلبنا الأمن فلا نجده؛ ذلك أن هذه الأفكار العنصرية لا تجدها فى أى مكوِّن إنسانىٍّ سوىٍّ، فالإسلام يدعو إلى السلام، وينهى عن التنازع والخلاف، وحتى «المواطنة العصرية» فإنها تدعو إلى: الحرية والمساواة والمشاركة.. لكنهم لا يقتنعون إلا بمصالحهم وإن أرغمتهم تلك المصالح على القتل والتنكيل.




mido34067@gmail.com

 

آراء