النهاية: (2/3): سريالية المشهد السياسي واحتمالاته 

 


 

 

المعادلة دائماً بهذه البساطة: إما أن تبقى البلاد وأهلها، ويذهب الحاكم ونظامه. وإما أن يبقى الحاكم ونظامه، وتفنى البلاد وأهلها.

ودائماً ينتهي الأمر بذهاب الحاكم ونظامه، وبقاء البلاد بأهلها ولأهلها.

الأمر بهذه البساطة ولكن الطغاة لا يرعوون.


(2)

لم يعد ثمة شك في نهاية انقلاب25 أكتوبر 2021م ، فقد وصل قادته ومشايعيهم إلى نهاية الطريق وارتطموا بحائط الواقع والمصير المحتوم، وهم الآن، وبقلق، يسارعون الخطى هرولة مجنونة بين عواصم العالم بحثاً عن حل للورطة التي أدخلوا أنفسهم فيها.

- وإلا ما الذي تستطيع أن تقدمه لهم زيارات دول، مثل الجارة تشاد، والتي كانت سادس محطة خارجية للبرهان عقب زياراته لمصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، إضافة إلى جنوب السودان وأوغندا. والتي كما جاء في الأخبار أنها تطرقت إلى الأوضاع السياسية والاضطرابات الحادة التي يعيشها السودان ؟. فالسعودية والإمارات عضوان في مجموعة أصدقاء السودان الدولية، وملتزمتان بقراراتها، أما الأربعة الباقون. وبينهم مصر – التي تزامنت زيارته لها مع زيارة مبعوث الأمم المتحدة للسودان فولكر بيرتيس إلى القاهرة – فأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقية، وعضوية السودان معلقة فيها، ولا يُتوقع من أي دولة من أعضائها أن تتخذ منفردة قراراً بشأن علاقاتها مع السودان يخالف قرارها الإقليمي والمدعوم أمميَّاً.

- وما الذي يتوقعه قادة الإنقلاب ومن خاض معهم وحله من زيارات الفريق أول حميدتي لكل من روسيا ومصر وجنوب السودان وقبلهم زيارته لأثيوبيا؟. وما النتائج التي يتوقعها من زيارات عضو مجلس السيادة الفريق إبراهيم جابر لكل من دولتي رواندا وزمبابوي ؟.

- وأخيراً ما الذي يمكن أن تقدمه دولة الكيان الصهيوني التي كثرت في الآونة الأخيرة زيارات (أم هو حج ؟!) الوفود العسكرية وقيادات مليشيا الدعم السريع لها ؟. وهذه التفاهمات والاتفاقيات الاستخبارية السرية التي لا نعلم عنها شيئاً بين الجانبين، ما الذي يمكن أن تفيد الانقلابيين في مواجهة شعبهم؟!.

النتيجة الطبيعية لكل هذه الهرولات (صفر). لأنها أخطأت العنوان. ولكنها تعكس ما يعيشونه من أزمة وخوف ورعب أخرجهم من وقارهم وكأنهم أطفال صغار، رغم بريق الرُتب العسكرية بصقورها وسيوفها ونجومها التي تعلو متلألئة على أكتافهم و"بريهاتهم"، والنياشين التي تزيِّن صدورهم.


(3)

ورغم أن أصحاب الشأن أنفسهم عبَّروا بلسان حالهم، قبل أن يؤكده لسان مقالهم، عن شعورهم بالقلق البالغ من الحصار الداخلي والخارجي الذي يهدد بقرب زوال سلطتهم ونهاية مغامرتهم، يأتيك من يسمي نفسه "محلل سياسي"، أو تطلق عليه أجهزة الإعلام هذه الصفة تكرماً (من عندها)، ليؤكد بثقة تدعو مبرراتها الساذجة السطحية للدهشة: "نجاح زيارات الفريق البرهان في تحقيق الانفراج الاقتصادي،  وأن أثر ذلك واضح في تحسن سعر صرف الجنيه السوداني وأن الأثر السياسي سيتضح قريباً في ضوء كثرة الحديث عن تسوية سياسية قادمة، يجري طبخها بهدوء خارج وداخل السودان"(1).

مع علمه، أو جهله، بأن أمر هذه الطبخة السرية معلوم لأصغر ثائر تعتقله الآن السلطات الانقلابية، وقد ملأت الصحف ومنصات التواصل الإلكترونية تفاصيلها والأطراف المشاركة في إعدادها. وهي – إن كان لا يعلم – طبختان إحداهما في المطبخ المصري والأخرى بالإمارات، ولكل طبخة منها مكوناتها ورئيس طهاتها ومدعووها للأكل.

لم يعد هناك من اسرار غامضة، ولم تكن كذلك في يوم من الأيام. فالجميع الآن يدركون بأن المتآمرين يعرضون السودان في سوق النخاسة للبيع، يرهنونه مقابل أن يبقوا في السلطة، بعضهم يتشبث بها طمعاً في الحكم المطلق، وبعضهم طمعاً في شيء من نثار فتات كعكتها. ولكنهم جميعاً يتشبثون بها خوفا من العقاب على جرائمهم المروعة. فحالهم حال من يمتطي ظهر نمر ثائر، يخشى إن نزل منه أن يفتك به النمر، وبالتالي ليس أمامه من خيار  سوى أن يبقى متشبثاً بسجنه على ظهر النمر الهائج. ولكن إلى متى، وهناك من ماتوا على ظهره مثل القذافي ؟!.


(4)

الأمر ببساطة ووضوح أن قوى ممانعة تفكيك النظام القديم وبناء الدولة السودانية الحديثة، والذي تقوده الآن لجنة البشير الأمنية، ويضم فلول الكيزان وثلة من قادة الحركات المسلحة، التي باعت قضيتها ودم من تدعي تمثيلهم، وتحالفت مع قتلتهم واغتصاب حرائرهم، وتهجيرهم قسراً من مواطنهم، وحرق مساكنهم، ووضعت يدها بيدي "رب الفور" ومليشيا لصوص الجنجويد. وهؤلاء جميعاً يدركون تماماً بأن تفكيك النظام القديم يعني نهايتهم كأفراد وكيانات، كما ويعني نهاية مسلسل توارث الدولة خلفاً عن سلف. ما يعني إعادة الدولة المختطفة لأهلها.

وواهم وغافل وغبي من يظن أن هذه القوى ستستسلم ببساطة وبـ"أخوي وأخوك" وتتنازل بسهولة وبمحض إرادتها عن السلطة التي صارت مطمعاً دنيوياً ومنجاة لوجودها ذاته.

 فهم لم يكفوا، ولن يكفوا يوماً عن حبك المؤامرات والدسائس، والخداع والكذب، واستخدام أقصى ما توفره الدولة من ألآت القتل والقمع والبطش بقوة. ولن يهمهم في شيء أن تدخل الدولة وشعبها في دائرة الحصار الدولي، وسوف يبررون ذلك بدعاوى متهافتة تتحدث عن الكرامة والحمية الوطنية زوراً وبهتاناً، وعن الدفاع عن استقلالية القرار الوطني ، وما إلى ذلك من هراء، مثلما كان أسلافهم القتلة اللصوص الفاسدين يبررون حصار العالم لنا بدعوى حماية الإسلام وعزته !.


(5)

لقد جربوا استخدام كل ما في مخازن الدولة من أدوات القتل وكل أساليب القتل التي لا توجد في مخازن الدولة من سواطير وسكاكين، وفرغوا كل التشكيلات العسكرية القتالية في الجيش والأمن والشرطة، واستعانوا بالمليشيات والمرتزقة واللصوص المجرمين وكتائب الظل في حربهم ضد الشعب الأعزل، وفشلوا في إسكات صوته.

وها هم الآن يجربون بغباء استخدام ورقتهم الأخيرة، التي كانوا يحتفظون بها – منذ انقلابهم الأول في فض الاعتصام – ليوم كريهة، يعيدون بها عقارب الساعة لما قبل الثورة: فلول الكيزان والمؤتمر الوطني.

وهذا لعمرك حلف، لا يستطيع الشيطان ذاته بكل ما حبي به من كيد ودهاء أن يؤلف بين أطرافه، ويمكنك أن تتصور مآلات تحالف يضم البرهان ومن خلفه لجنة البشير الأمنية، وحميدتي وميليشيا الدعم السريع، وحركات سلام جوبا، بكل تواريخ القتال الدموية بينهم، واختلاف الرؤى والأهداف والمطامع بين قياداتها !.

أضف إلى ذلك ما هو أهم منهم: تناقض وتضارب مصالح داعمي كل طرف منهم من الدول والقوى الإقليمية والدولية، في عالم استعرت فيه نار الخلافات السياسية والمصالح الاقتصادية حروباً لا تُبقي حجراً على حجر.


(6)

هل تبدو لك الصورة قاتمة ؟.

لو تأملت المشهد جيداً وأعملت الفكر عميقاً ستجد أن كل ما يحدث الآن إنما هو مؤشرات على قرب نهاية الدولة السودانية التي تأسست منذ البدء على خطأ. وأن قوى ممانعة التغيير تسير متوغلة في رمال متحركة مع كل قرار وخطوة تقودها إلى أسفل.

فقد تمايزت الخطوط والألوان والمواقف لمختلف القوى التي تشارك في مهرجان الفوضى هذا، وأن البيض الفاسد وضع الآن في سلة واحدة. ونزع كل مشارك في الحفل التنكري  قناعه، واستبان الخيط بين الحابل والنابل.

فلن يستطيع البرهان بعد الآن الحديث عن "ثورة ديسمبر المجيدة" ومشاركة كل القوى السياسية عدا المؤتمر الوطني، بعد أن أعلن غندور مباركته للإنقلاب.

وسيكف حميدتي عن الشكوى لطوب الأرض من الفساد والتهريب وتخريب الاقتصاد الوطني، وإعلانه الحرب على المهربين.

ولن تتجاوز تصريحات أبو هاجة حلقه عن الترتيبات السياسية التي يعكف على طبخها العسكر وستوقف الفوضى والانفلات الأمني. فالعسكر من يحكمون منفردين وحبل الانفلات الأمني على غاربه.

أما انتهازيو جوبا فأمامهم مهلة قصيرة ليلملموا شتات ووحدتهم التي مزقتها الأطماع الرخيصة. وهيهات.

أما ملف التحالفات الخارجية فرهن بما يقرره الشباب، إما أجازوا أجندته، بتمزق وحدتهم المستهدفة من الجميع ، وإما منعوه، بمواصلة الزحف الثوري والضغط المتواصل.


(7)

ويبقى السؤال الذي لم يطرح له أحد، فيما نعلم، إجابة:

ماذا لو واصل تحالف الثورة المضادة وممانعة التغيير مسلسل قتل الشباب بهذه الصورة المنهجية، في ظل تشاكس القوى السياسية المدنية وتضارب مبادراتها؟.

ألا يخشى هؤلاء، أو أن يخشى قبلهم تحالف قوى ممانعة التغيير المسلحة سأم وكفر الشباب بسلمية حراكهم السياسي، ليقابلوا العنف بعنف مضاد ؟.

هل حسبوا نتائج هذا التحول؟.

يفرض الآن هذا السؤال نفسه في ظل متغيرين ينبغي التوقف عندهما.

أولهما: تنامي حركة "غاضبون بلا حدود" بين شباب لجان المقاومة.

والثاني: تصدي المدنيين للدفاع عن أنفسهم في مواجهة عصابات النقرز التي تحوم التساؤلات عن علاقتها بأجهزة الدولة، أو جهات فيها، بها. وما حدث في حيي الملازمين وود نوباوي، يؤشر إلى أن المدنيين فيما بعد لن يسلموا من يقبض عليهم من هذه العصابات للشرطة وإنما سيطبقون القانون عليهم بأنفسهم.

مما يوقع مؤسسات الدولة في "حيص بيص" هل تحاكم المجرمين؟. أم ستحاكم المدافعون عن أنفسهم وأرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم ؟.

هل ستساوي بين المعتدي وضحيته؟.


(8)

لقد أشرع البرهان وحميدتي باب العنف الأعمى، وأغلقوا كل أفق لتسوية سلمية تجنب البلاد خطر الانزلاق لهاوية التفكيك. والقانون الإلهي – يدعمه التاريخي السياسي ويؤكده – بأن: المكر السييء يحيق بأهله.

فما هي السيناريوهات الممكنة والمتوقعة في مثل هذه الظروف؟.

إنه مشهد سريالي غرائبي يثر الجنون.

- شعب أعزل، دفع من أرواح بنيه ثمناً غاليا للتغييرً، واستطاع أن يطيح بنظام فاشي باطش ومستهتر وفاسد قاد البلاد إلى حافة الانهيار في كل جوانبها.

- تعلن قيادة الجيش انحيازها للشعب وتشارك بناء على انحياز هذا في السلطة لإدارة المرحلة الانتقالية.

- يبتدر قائد الجيش "انحيازه" بمذبحة لفض اعتصام الثوار السلميين غدراً منتهكاً حرمة الشهر الحرام.

- ثم يتواصل مسلسل التآمر الخبيث لفض الشراكة والاستئثار بالسلطة، والذي انتهى بانقلاب عسكري.

- ويزداد مسرح العبث غرابة بتقليد قائد ميليشيا "أمي" رتبة عسكرية عليا في الجيش الوطني في انتهاك لكل الأعراف والقوانين والتقاليد العسكرية في العالم. باعتلاء قائد ميلشيا السلطة

- ويعتلي القائد المليشياوي سدة الحكم الفعلية مستعيناً بما ينهبه من موارد الدولة حتى صار القيادة الفعلية في البلاد يعقد الاتفاقيات الأمنية لصالح ميليشياته مع الدول الأجنبية.

- يثور الشعب مطالباً بالحكم المدني، فيدير قائدا الجيش (الرسمي والميليشياوي) ماكينة القتل والبطش في مواجهة الاحتجاجات السلمية.

- يقوم الشباب بتتريس الشوارع دفاعاً عن مسيراتهم السلمية. فيقوم الجيش أيضاً بالتتريس وإغلاق الشوارع والكباري بالكونتينرات والصبات الإسمنتية وعربات القطارات في مواجهة الهتافات !!.

ويستمر القتل اليومي بمختلف الأسلحة.

فما هي الاحتمالات التي يتوقع أن ينتهي إليها هذا المشهد السريالي؟.


هوامش

(1) (1) الطاهر على الريح، الاعتذار للشعب يمثل 50% من حل الأزمة الراهنة،5موقع صحيفة سودانايل، بتاريخ 5 أبريل، 2022



izzeddin9@gmail.com

 

آراء