ومضات عن الأغنية الكردفانية (2)

 


 

 

خلصت الحلقة السابقة إلى أن هنالك أغنية كردفانية لها إيقاعاتها وخصائصها المتميزة. وتلك الأغنية فرضت وجودها على المستوى القومي وكسرت الأطر التقليدية للجغرافيا وتجاوزت العناوين المحلية. وهذا ما يؤكده الدكتور عبد القادر سالم بقوله: هنالك أغنية كردفانية وهذا لا ينفي كونها أغنية سودانية أصيلة ولكنها تحمل ملامح لا توجد في أغنية الوسط، التي صارت هي أغنية السودان التي اشتهر بها. وكما هو معلوم فإن الأغنية السودانية هي في واقع الأمر امتداد فني طبيعي لأغنية الحقيبة التي تجاهلت ما كان موجوداً وقائماً في الأقاليم والريف ما عدا شيء واحد هو إيقاع "التمتم" كالذي نجده في أغنية: يا مداعب الغصن الرطيب في بنانك ازدهت الزهور زادت جمال ونضار وطيب يا المنظرك للعين يطيب وهو أيضاً إيقاع أغنية "الدنيا ما دوامة" للمبدع الراحل إبراهيم موسى أبا، التي يقول فيها: طيري يا بلومة ودي السلام في يوما للخيزران مريوما بركب الكركابة بدلى في أم روابة النهيد الطاعن دابا دي الجنن العزابا بمعنى أن التمتم واحد من إيقاعات كردفان الأصيلة ولكن لم ترد إشارة إلى ذلك في كل ما كتب عن الأغنية السودانية. ويسمى هذا الإيقاع في بعض الأحيان بالطنبور وهو رائج جداً في غناء البنات. واستخدم إبراهيم موسى أيضاً إيقاع الجراري في أغنيته "عيني عليك باردة" للشاعر عبد الله الكاظم ويقول فيها: عيني عليك باردة يا السمحة يا الواردة يا فقرا رودي رويحة الهناك شاردة في مشيتا الخايلة ورادا كيف مايلة الميها يشتت دميعات حرير سايلة قشيشة الخريف خدرا شايلالا نوارا بيك الفريق نور يا ست بنوت بارا وهذا الإيقاع الطروب والراقص أضفى رونقاً وألقاً على هذه الكلمات البسيطة التي ترتبط بتراث وبيئة كردفان وتعطي لوحة فنية متكاملة عن بعض مشاهد الحسن والجمال والإبداع في كردفان. وإيقاع التمتم يشي بتنوع الإيقاعات والألحان في الأغنية الكردفانية ذات الجملة الموسيقية والشعرية البسيطة، لكنها في واقع الأمر موحية جداً وتستسيغها أذن المستمع ليس في كردفان والسودان فحسب بل في كثير من دول الجوار الإفريقي؛ خاصة في مناطق مثل تشاد وإفريقيا الوسطى التي تشترك معنا في كثير من الإيقاعات. ونضرب مثلاً على تنوع الإيقاعات الكردفانية أيضاً بإيقاع الهسيس مثلما نجد في أغنية: الجميل واحد ساعي لأم خلبة ناس العمدة جو ساقوا للطلبة وهذا أيضاً إيقاع راقص ومشهور جداً في كثير من مناطق "الأبالة" في شمال وغرب كردفان. ولعلنا نذكر هنا أيقاع التوية كالذي نجد في أغنية المطربة فهيمة عبد الله التي تقول: بكيرة الميقني أم روبا معليش البيعة مقلوبة بسم الله مفتاح سفينة نوح مجريها في بحور الصوح وكل هذه الإيقاعات تقوم على حركة البعير وهي لذلك مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإيقاع الجراري وبالجزء الشمالي والغربي من كردفان. وإذا توجهنا صوب ديار قبائل البقارة مثل الحوازمة والمسيرية نجد أن الأغنية الكردفانية تتمتع ببعد صوتي متميز من حيث السلم الخماسي وهي في مجملها تمثل إيقاع المردوم مثلما في أغنية الجنزير التقيل: الجنزير التقيل البقلو ياتو البوقد نارا يدفاها هو يا ولد أم درجات المأصل الماك نفو يوم الحارة الزول بلقا أخو وقد تغنى بهذه الأغنية كثير من المبدعين منهم الدكتور عبد القادر سالم والمطربة صباح عبد الله وشادن محمد حسين. وكذلك تجمع الأغنية الكردفانية بين التراث والحداثة لأنها في الأصل نبعت من الموروث الشعبي لكردفان وشقت طريقها وسط الغناء السوداني حتى احتلت مكانة مرموقة في ساحة الغناء السوداني، وكل ذلك يعود الفضل فيه لجمال وثراء البيئة الكردفانية وتنوع سبل كسب العيش فيها وتلاقحها مع تيارات الغناء المختلفة في السودان. ومن الأغاني الكردفانية ذات الطابع الحديث أغنية "جدي الريل أبو كزيمة" من كلمات الشاعر محمد عمر الأحدب وغناء بلوم الغرب عبد الرحمن عبد الله: جدي الريل أبو كزيمة تعال نتمشى في الغيمة ما غيمة ريد تكب في رهيد شواطيهو الخدر ديمة نصارحك لا نخاف إنسان ننسى الماضي والأحزان نلاقى القمري لابس الطوق يغني، يغني للوجدان يفر جنحيهو زى توبا يصفق للزهور نشوان هذه النماذج أيضاً تدل على تطور الأغنية الكردفانية التي شارك فيها نفر كثير من الشعراء والمغنيين والموسيقيين. ونشير هنا إلى ذلك التحول الكبير الذي طرأ على الأغنية الكردفانية في عهد الرئيس عبود، عندما كان اللواء الزين حسن حاكماً عسكرياً لكردفان وأنشأت فرقة فنون كردفان وجاء الراحل إدريس محمد عبد الله البنا ليكون مديراً لمصلحة الثقافة في كردفان ولاحظ أن فناني كردفان يقلدون أغنية الوسط واقترح عليهم الشروع في أداء الأغاني ذات الطابع الكردفاني وترك التقليد. وتعتبر هذه هي البداية الحقيقية والفعلية للأغنية الكردفانية المموسقة حيث طفق كثير من المبدعين يبحثون عن شعراء كردفان وينقبون في التراث حتى أخرجوا لنا هذا الضرب الراقي من الأغاني وأخرجوا للناس تلك الإيقاعات المتفردة النابعة من صميم بيئة كردفان وتراثها مثل الجراري والمردوم والتمتم. مقالي لهذا اليوم الجمعة ٢٢ أبريل ٢٠٢٢ بصحيفة السوداني
تم الإرسال من هاتف Huawei الخاص بي
gush1981@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء