نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة (2): لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل
عبدالله الفكي البشير
19 July, 2022
19 July, 2022
نحو قراءة جديدة لثورة ديسمبر المجيدة:
لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل
(البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(2- 7)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياس ية السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأن الطود الأشم والعيلم المسجور".
قدمنا في الحلقة الماضية لمحة عن الواقع الجديد والتعاطي بالأساليب البالية، إلى جانب محاولة لفكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من التفسير القاصر وتصورات الإرث السياسي. وأوضحنا بأنه على الرغم من أن ثورة ديسمبر المجيدة هي نتاج لتراكم أعمال ثورية عديدة ومتنوعة، وخلاصة لتضحيات كبيرة قدمها طلائع الشرفاء من السودانيين، من الشباب والشيوخ والكهول. ولكن الحقيقة التي يجب علينا إدراكها هي أن لجان المقاومة تمثل نموذجاً جديداً في معاني الوطنية وفي الفعل الثوري والسياسي، لنقف جميعاً أمام فاعل سياسي جديد كلية على السودان، بل وعلى العالم أجمع. إن ما تقوم به لجان المقاومة لهو فوق طاقة الأحزاب السودانية، ولا يسعفنا الإرث السياسي السوداني في تفسيره، ولابد من نظر جديد.
إن النظر الجديد يتطلب منا العمل على عقلنة الثورة ومسارها، وفكرنة سردية لجان المقاومة، بإخراجها عبر العقل وقراءة التاريخ، من العاطفة السياسية والتحليل الساذج للراهن، حتى نلج المستقبل بالعلم وأداته، وهي العقل. يقول أرسطو إن الماضي لا يمكن أن يغيره أحد، لكنالمستقبل حق لنا أن نبنيه، ويمكن أن يتحقق هذا بأن نقيم اختياراتنا على أساس العقل. ويقول الأستاذ محمود محمد طه: "العقل هو القوة الدراكة فينا". وكتب في كتابه: تعلموا كيف تصلون، (1972)، قائلاً: "العلمُأداتُه العقلُ، والعملُ أداتُه الجسدُ"، ويقول كذلك: "كل مشوار لا يكمله العقل يتمه الجسد تعباً". وحتى يكتمل فهمنا للجان المقاومة وتفسيرها كفاعل سياسي جديد، لابد من إزالة حجاب الجهل عن التاريخ، وقراءة تاريخ السودان حتى نفهم ويكتمل نضج نظرنا الجديد. يقول سيسروMarcus Tullius Cicero (106 – 43 ق.م)، الخطيب الروماني المفوّه والفيلسوف، كما أورد حسني عايش: “أن تبقى جاهلاً بما حدث قبل ولادتك (أي بالتاريخ) يعني أن تبقى طفلاً في باقي الأيام بعدها". وقراءة التاريخ لا تعني التعاطي مع التاريخ باعتباره دراسة الماضي، وإنما باعتباره أداة من أدوات التغيير.
وإذا ما استصحبنا كل ذلك في نظرنا الجديد، فإننا ندرك بأن لجان المقاومة، ليست هي لافتة أو جسم ليتدافع الناس على التفاوض معه واسترضائه، وإنما هي تجسيد لحلم كل ثائر أعدم أو سجن أو تأذى في سبيل التحرير والتغيير، وهي تعبير جماعي عن التوق للحرية والديمقراطية، وهي أمل التحرر من الإرث الاستعماري، وهي انعتاق عن الماضي والقديم. وهي خلاصة الدعوات لإحداث التغيير الشامل والجذري. ولهذا فإن الوعي بلجان المقاومة هو وعي بتاريخ السودان ومساره السياسي ووعي بمتطلبات سودان مستقبل.
لقد استدعت لجان المقاومة الذاكرة الثورية السودانية، وهي تبعث السودان بطاقته الحقيقية. ولهذا فإن لجان المقاومة لا تجد تأصيل نسبها الفكري والسياسي في الأحزاب السودانية ومسار الدولة السودانية منذ الاستقلال، وإنما في الذاتية السودانية التي تم تَكْييفُها وَاخْتِطافُها وَتَغْييبُها منذ قبل الاستقلال، في وجهة مناقضة لإرث السودان الحضاري ومصادمة لتكوينه الثقافي، ومناطحة لوجدانه وشعوره وسيرته التاريخية. إن لجان المقاومة ليست نضالاً من أجل استرداد السلطة وإنما حالة وعي شامل، وشراكة نضالية، تداعت لها شعوب السودان بمختلف ثقافاتها، وأديانها، وأعراقها، وألوانها، من أجل استعادة السودان.
1. استعادة السودان وليس استرداد السلطة: نحو إعادة تكييف الوطن عبر بعث الذاتية السودانية
إن المراقب والمتابع لأداء لجان المقاومة في نضالها الثوري، يدرك، خلافاً لما خلصت إليه الأحزاب السودانية والوسطاء والمثقفين، بأن هذا النضال ليس من أجل استرداد السلطة، وإنما من أجل استعادة السودان. إن نضال لجان المقاومة يجب أن يُفهم ويُفسر بأنه نضال من أجل استعادة السودان المُغيب والمُختطف. وبهذا التفسير والفهم نستطيع التعاطي مع لجان المقاومة باعتبارها وعياً بالذاتية السودانية، كما عمل من أجل ذلك، وعبر عن ذلك الكثير من المفكرين السودانيين، لاسيما عبد الخالق محجوب (1927- 1971) الذي قال حينما سأله جعفر النميري (1930- 2009)، رئيس السودان الأسبق (1969- 1985)، والذي أعدمه بعد ذلك، سأل النميري عبد الخالق، قائلاً: "ماذا فعلت للسودان؟"، رد عبد الخالق، قائلاً: "قليلاً من الوعي". إن لجان المقاومة هي تجليات ذلك الوعي الذي قدمه عبد الخالق والكثير من المفكرين والمثقفين السودانيين. وعلينا كذلك أن ننظر إلى لجان المقاومة باعتبارها تجسيداً للذاتية السودانية، حيث أصايل الطبائع التي تحدث عنها الأستاذ محمود محمد طه في الكثير من كتاباته ومحاضراته. تجلت أصايل الطبايع لدى لجان المقاومة في ميادين الاعتصام وفي كل عملهم الثوري، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، عندما طرحوا فكرة جمع الأموال، كان الشعار والمبدأ: "عندك خت/ ضع، ما عندك شيل/ خذ"، وهكذا. كتب الأستاذ محمود محمد طه في أكتوبر عام1958، قائلاً: "الشعب السوداني شعب أصيل، وأريد بذلك أن الشعب السوداني سليم المعدن، فإذا أحسن صِقالَهُ ظَهَرَتْ نَفَاسته". وكان محمود محمد طه قبل ذلك، وأثناءفترة اعتكافه بمدينة رفاعة (سبتمبر 1948- أكتوبر 1951)، بوسط السودان، قد كتب في صحيفة الشعب، في 27 يناير 1951، قائلاً: "أنا زعيمٌ بأنّ الإسلامَ هو قِبلةُ العالمِ منذُ اليوم وأنَّ القُرآنَ هو قانُونُه وأنَّ السُّودان إذ يُقدّم ذلك القانون في صورتِهِ العمليّة المُحقِّقَة للتّوفيقِ بينَ حاجةِ الجّماعةِ إلى الأمنِ وحاجةِ الفردِ إلى الحرّيّة الفرديّة المُطلقة هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يَهُولَنَّ أحداً هذا القول لكونِ السّودانِ جاهلاً خاملاً صغيراً فإنّ عنايةَ الله قد حفظِتْ على أهلِهِ من أصايِلِ الطّبائعِ ما سيجعلُهُم نقطةَ إلتقاءِ أسبابِ الأرضِ بأسبابِ السّماء".
وتجلت الذاتية السودانية في بعث الكنداكة. لقد ظلتالمرأة عنواناً لثورة ديسمبر المجيدة، بل يمكننا، من دون مبالغة، أن نطلق على هذه الثورة "ثورة المرأة"، باعتبار ما قدمته من عطاء وتضحية وحضور مستمر. فقد قدمت المرأة السودانية، في شراكة وطنية رائعة ضمن لجان المقاومة،أعظم نموذج إرشادي للثورة من أجل التغيير. تقدمت صفوف الحراك الثوري، وظلت مقيمة في الميادين العامة من أجل استمرار الثورة، وهي تستنهض الشباب والرجال. نتيجة لهذا الحضور القوي استطاعت المرأة السودانية، ليس استدعاء الإرث الثوري في أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وطاقة التعدد الثقافي الذي ينعم به السودان، فحسب؛ وإنما استدعت إرثاً حضارياً يعود إلى آلاف السنين، حيث بعثت اسم الكنداكة وجسدته في أفق جديد. أخرجت المرأة السودانية بقوة عزيمتها واصرارها على الانتصار مفردة الكنداكة من جوف تاريخ السودان. إذ لم يكن هناك ما يضاهي ما قدمته المرأة السودانية من بذل وتضحية في الثورة، سوى دور الكنداكة ودلالاتها في معنى الصمود والاستعداد للمواجهة، وتحقيق الانتصار، في حقبة كوش Kush (750ق.م.- 350م). فالكنداكة هو لقب ملوكي يشير إلى "المرأة القوية" أو "الملكة العظيمة"، وأطلق على عدد من الملكات اثنتان منهن كانتا من أعظم ملكات كوش اللائي تميزن بالقوة والحنكة والصلابة والانتصار، وهما الملكة أماني ريناس (40 ق. م- 10 ق. م)، والملكة والحاكمة أماني شاخيتي (شاخيتو) (10 ق.م – 1م).
أستطاعت المرأة السودانية من خلال دورها في الثورة أن تحقق بعثاً حضارياً وثقافياً حرمت منه شعوب السودان وظلت منبتة عنه حتى اندلاع الثورة، فاستدعت فيما استدعت الكنداكة. وبهذا يمكن القول بأن المرأة السودانية نجحت في سودنة ثورة ديسمبر المجيدة، وتجذيرها في أعماق التاريخ السوداني. شاعت مفردة الكنداكة، بعد الثورة، في العالم، فاحتفى بها العالم أيما احتفاء، وهو احتفاء لا ينفصل عن الاحتفاء بثورة ديسمبر، الأمر الذي أعاد للمواطن السوداني بعضاً من كرامته في الشارع العالمي.
ولهذا علينا التواضع سياسياً أمام لجان المقاومة، وعلينا التعاطي معها ليس بإطلاق الأحكام، والتقييم الظالم، وإنما باعتبارها منجماً للإلهام، ومنبعاً للوعي بالذاتية السودانية، وتجسيداً لأصايل الطبايع السودانية، وهي الميدان لصياغة رؤية سودان المستقبل، حيث استكمال الاستقلال، والتحرر من الإرث الاستعماري، ومن الإرث السياسي للدولة السودانية، الذي هو نتيجة للمعرفة الاستعمارية.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk
نلتقي مع الحلقة الثالثة.
3
لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل
(البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(2- 7)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياس ية السودانية. وتزعم الورقة بأن هذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأن الطود الأشم والعيلم المسجور".
قدمنا في الحلقة الماضية لمحة عن الواقع الجديد والتعاطي بالأساليب البالية، إلى جانب محاولة لفكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من التفسير القاصر وتصورات الإرث السياسي. وأوضحنا بأنه على الرغم من أن ثورة ديسمبر المجيدة هي نتاج لتراكم أعمال ثورية عديدة ومتنوعة، وخلاصة لتضحيات كبيرة قدمها طلائع الشرفاء من السودانيين، من الشباب والشيوخ والكهول. ولكن الحقيقة التي يجب علينا إدراكها هي أن لجان المقاومة تمثل نموذجاً جديداً في معاني الوطنية وفي الفعل الثوري والسياسي، لنقف جميعاً أمام فاعل سياسي جديد كلية على السودان، بل وعلى العالم أجمع. إن ما تقوم به لجان المقاومة لهو فوق طاقة الأحزاب السودانية، ولا يسعفنا الإرث السياسي السوداني في تفسيره، ولابد من نظر جديد.
إن النظر الجديد يتطلب منا العمل على عقلنة الثورة ومسارها، وفكرنة سردية لجان المقاومة، بإخراجها عبر العقل وقراءة التاريخ، من العاطفة السياسية والتحليل الساذج للراهن، حتى نلج المستقبل بالعلم وأداته، وهي العقل. يقول أرسطو إن الماضي لا يمكن أن يغيره أحد، لكنالمستقبل حق لنا أن نبنيه، ويمكن أن يتحقق هذا بأن نقيم اختياراتنا على أساس العقل. ويقول الأستاذ محمود محمد طه: "العقل هو القوة الدراكة فينا". وكتب في كتابه: تعلموا كيف تصلون، (1972)، قائلاً: "العلمُأداتُه العقلُ، والعملُ أداتُه الجسدُ"، ويقول كذلك: "كل مشوار لا يكمله العقل يتمه الجسد تعباً". وحتى يكتمل فهمنا للجان المقاومة وتفسيرها كفاعل سياسي جديد، لابد من إزالة حجاب الجهل عن التاريخ، وقراءة تاريخ السودان حتى نفهم ويكتمل نضج نظرنا الجديد. يقول سيسروMarcus Tullius Cicero (106 – 43 ق.م)، الخطيب الروماني المفوّه والفيلسوف، كما أورد حسني عايش: “أن تبقى جاهلاً بما حدث قبل ولادتك (أي بالتاريخ) يعني أن تبقى طفلاً في باقي الأيام بعدها". وقراءة التاريخ لا تعني التعاطي مع التاريخ باعتباره دراسة الماضي، وإنما باعتباره أداة من أدوات التغيير.
وإذا ما استصحبنا كل ذلك في نظرنا الجديد، فإننا ندرك بأن لجان المقاومة، ليست هي لافتة أو جسم ليتدافع الناس على التفاوض معه واسترضائه، وإنما هي تجسيد لحلم كل ثائر أعدم أو سجن أو تأذى في سبيل التحرير والتغيير، وهي تعبير جماعي عن التوق للحرية والديمقراطية، وهي أمل التحرر من الإرث الاستعماري، وهي انعتاق عن الماضي والقديم. وهي خلاصة الدعوات لإحداث التغيير الشامل والجذري. ولهذا فإن الوعي بلجان المقاومة هو وعي بتاريخ السودان ومساره السياسي ووعي بمتطلبات سودان مستقبل.
لقد استدعت لجان المقاومة الذاكرة الثورية السودانية، وهي تبعث السودان بطاقته الحقيقية. ولهذا فإن لجان المقاومة لا تجد تأصيل نسبها الفكري والسياسي في الأحزاب السودانية ومسار الدولة السودانية منذ الاستقلال، وإنما في الذاتية السودانية التي تم تَكْييفُها وَاخْتِطافُها وَتَغْييبُها منذ قبل الاستقلال، في وجهة مناقضة لإرث السودان الحضاري ومصادمة لتكوينه الثقافي، ومناطحة لوجدانه وشعوره وسيرته التاريخية. إن لجان المقاومة ليست نضالاً من أجل استرداد السلطة وإنما حالة وعي شامل، وشراكة نضالية، تداعت لها شعوب السودان بمختلف ثقافاتها، وأديانها، وأعراقها، وألوانها، من أجل استعادة السودان.
1. استعادة السودان وليس استرداد السلطة: نحو إعادة تكييف الوطن عبر بعث الذاتية السودانية
إن المراقب والمتابع لأداء لجان المقاومة في نضالها الثوري، يدرك، خلافاً لما خلصت إليه الأحزاب السودانية والوسطاء والمثقفين، بأن هذا النضال ليس من أجل استرداد السلطة، وإنما من أجل استعادة السودان. إن نضال لجان المقاومة يجب أن يُفهم ويُفسر بأنه نضال من أجل استعادة السودان المُغيب والمُختطف. وبهذا التفسير والفهم نستطيع التعاطي مع لجان المقاومة باعتبارها وعياً بالذاتية السودانية، كما عمل من أجل ذلك، وعبر عن ذلك الكثير من المفكرين السودانيين، لاسيما عبد الخالق محجوب (1927- 1971) الذي قال حينما سأله جعفر النميري (1930- 2009)، رئيس السودان الأسبق (1969- 1985)، والذي أعدمه بعد ذلك، سأل النميري عبد الخالق، قائلاً: "ماذا فعلت للسودان؟"، رد عبد الخالق، قائلاً: "قليلاً من الوعي". إن لجان المقاومة هي تجليات ذلك الوعي الذي قدمه عبد الخالق والكثير من المفكرين والمثقفين السودانيين. وعلينا كذلك أن ننظر إلى لجان المقاومة باعتبارها تجسيداً للذاتية السودانية، حيث أصايل الطبائع التي تحدث عنها الأستاذ محمود محمد طه في الكثير من كتاباته ومحاضراته. تجلت أصايل الطبايع لدى لجان المقاومة في ميادين الاعتصام وفي كل عملهم الثوري، فعلى سبيل المثال، لا الحصر، عندما طرحوا فكرة جمع الأموال، كان الشعار والمبدأ: "عندك خت/ ضع، ما عندك شيل/ خذ"، وهكذا. كتب الأستاذ محمود محمد طه في أكتوبر عام1958، قائلاً: "الشعب السوداني شعب أصيل، وأريد بذلك أن الشعب السوداني سليم المعدن، فإذا أحسن صِقالَهُ ظَهَرَتْ نَفَاسته". وكان محمود محمد طه قبل ذلك، وأثناءفترة اعتكافه بمدينة رفاعة (سبتمبر 1948- أكتوبر 1951)، بوسط السودان، قد كتب في صحيفة الشعب، في 27 يناير 1951، قائلاً: "أنا زعيمٌ بأنّ الإسلامَ هو قِبلةُ العالمِ منذُ اليوم وأنَّ القُرآنَ هو قانُونُه وأنَّ السُّودان إذ يُقدّم ذلك القانون في صورتِهِ العمليّة المُحقِّقَة للتّوفيقِ بينَ حاجةِ الجّماعةِ إلى الأمنِ وحاجةِ الفردِ إلى الحرّيّة الفرديّة المُطلقة هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب.. ولا يَهُولَنَّ أحداً هذا القول لكونِ السّودانِ جاهلاً خاملاً صغيراً فإنّ عنايةَ الله قد حفظِتْ على أهلِهِ من أصايِلِ الطّبائعِ ما سيجعلُهُم نقطةَ إلتقاءِ أسبابِ الأرضِ بأسبابِ السّماء".
وتجلت الذاتية السودانية في بعث الكنداكة. لقد ظلتالمرأة عنواناً لثورة ديسمبر المجيدة، بل يمكننا، من دون مبالغة، أن نطلق على هذه الثورة "ثورة المرأة"، باعتبار ما قدمته من عطاء وتضحية وحضور مستمر. فقد قدمت المرأة السودانية، في شراكة وطنية رائعة ضمن لجان المقاومة،أعظم نموذج إرشادي للثورة من أجل التغيير. تقدمت صفوف الحراك الثوري، وظلت مقيمة في الميادين العامة من أجل استمرار الثورة، وهي تستنهض الشباب والرجال. نتيجة لهذا الحضور القوي استطاعت المرأة السودانية، ليس استدعاء الإرث الثوري في أكتوبر 1964، وانتفاضة أبريل 1985، وطاقة التعدد الثقافي الذي ينعم به السودان، فحسب؛ وإنما استدعت إرثاً حضارياً يعود إلى آلاف السنين، حيث بعثت اسم الكنداكة وجسدته في أفق جديد. أخرجت المرأة السودانية بقوة عزيمتها واصرارها على الانتصار مفردة الكنداكة من جوف تاريخ السودان. إذ لم يكن هناك ما يضاهي ما قدمته المرأة السودانية من بذل وتضحية في الثورة، سوى دور الكنداكة ودلالاتها في معنى الصمود والاستعداد للمواجهة، وتحقيق الانتصار، في حقبة كوش Kush (750ق.م.- 350م). فالكنداكة هو لقب ملوكي يشير إلى "المرأة القوية" أو "الملكة العظيمة"، وأطلق على عدد من الملكات اثنتان منهن كانتا من أعظم ملكات كوش اللائي تميزن بالقوة والحنكة والصلابة والانتصار، وهما الملكة أماني ريناس (40 ق. م- 10 ق. م)، والملكة والحاكمة أماني شاخيتي (شاخيتو) (10 ق.م – 1م).
أستطاعت المرأة السودانية من خلال دورها في الثورة أن تحقق بعثاً حضارياً وثقافياً حرمت منه شعوب السودان وظلت منبتة عنه حتى اندلاع الثورة، فاستدعت فيما استدعت الكنداكة. وبهذا يمكن القول بأن المرأة السودانية نجحت في سودنة ثورة ديسمبر المجيدة، وتجذيرها في أعماق التاريخ السوداني. شاعت مفردة الكنداكة، بعد الثورة، في العالم، فاحتفى بها العالم أيما احتفاء، وهو احتفاء لا ينفصل عن الاحتفاء بثورة ديسمبر، الأمر الذي أعاد للمواطن السوداني بعضاً من كرامته في الشارع العالمي.
ولهذا علينا التواضع سياسياً أمام لجان المقاومة، وعلينا التعاطي معها ليس بإطلاق الأحكام، والتقييم الظالم، وإنما باعتبارها منجماً للإلهام، ومنبعاً للوعي بالذاتية السودانية، وتجسيداً لأصايل الطبايع السودانية، وهي الميدان لصياغة رؤية سودان المستقبل، حيث استكمال الاستقلال، والتحرر من الإرث الاستعماري، ومن الإرث السياسي للدولة السودانية، الذي هو نتيجة للمعرفة الاستعمارية.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk
نلتقي مع الحلقة الثالثة.
3