بارا…… واحرّ قلباه!

 


 

 

بدعوة كريمة من الصديق العزيز والزميل الكريم سليل أرومة الشرف الأخ عثمان إسماعيل مكي الركابي سعدت بزيارة مدينة بارا لحضور مراسم عقد قران كريمته، ونسأل الله أن يجعلها زيجة مباركة ويرزق الزوجين الذرية الصالحة والسعادة والرزق الواسع الحلال. وأنا إذ اشكر الأخ عثمان على تلك الدعوة الكريمة أشعر بالامتنان؛ نظراً لما أتاحته لي تلك الزيارة من لقاء بإخوة أعزاء من مختلف المشارب ودروب الحياة العامة والثقافية والتجارية؛ فأهلنا الركابية هم قادة النشاط التجاري في دار الريح عموماً، كما لهم دور فاعل في الحياة الاجتماعية ولهم علاقات واسعة وضاربة في القدم مع مختلف مكونات النسيج الاجتماعي في منطقتنا الحبيبة. وأثناء إقامتي في بارا، لبضع أيام بغرض زيارة الأهل والأقارب، طفت بجميع أنحاء المدينة وضواحيها. وكثيراً ما توصف بارا بأنها مدينة الجمال والخضرة، وجنة سواقي الريد ومرتع الغزلان، ووادي النخيل والصيد؛ ذلك لأن إنسانها سمح وهواؤها نقي طلق، وماؤها نمير وخيرها وفير، وأرضها معطاءه ومجتمعها مستقر، وأهلها كانوا يتعارفون فيما بينهم. إن بارا التي عرفتها منذ نعومة أظفاري كانت مقراً للمقدوم مسلم، الذي دافع عنها بكل بسالة وجسارة في عام 1821 حتى سقط شهيداً، وهي مقر الناظر محمد تمساح سيماوي وحاضرة مجلس ريفي دار حامد، وقد كان يمثلها في البرلمان الشيخ الشاذلي السنهوري أو عمنا جعفر قريش أو السيد محمد عبد الله يس أو أحمد العشاري في الفترات الأخيرة، ويأمها الشيخ الخضر ود وقيع الله. وبارا هي مسقط رأس لكثير من المبدعين والشعراء، الذين منهم على سبيل المثال لا الحصر، عثمان خالد، ومحمد عبد الله مريخة وبلوم الغرب عبد الرحمن عبد الله، والموسيقار حافظ عبد الرحمن ومن أهلها العلماء والوزراء والمشاهير الذين لا يتسع المجال لذكرهم، وهي دار السجادة التجانية والختمية والإسماعلية والسمانية، وهي مدينة نسيج وحدها بين مدن السودان كافة، ولذلك توصف بأنها سودان مصغر يضم كل قبائل السودان من الوسط والغرب والشمال وقليلا من أهل الشرق وغيرهم. كانت بارا، حتى وقت قريب، مدينة جميلة ونظيفة ومخضرة بسواقيها النضرة وأشجارها الباسقة وظلالها الوارفة، وإنسانها اللطيف وطبعها وسمتها الخاص، تلقاك في جميع الأحوال بقدر من الروعة والألق الذي لا تخطئه العين. ولكن من يرى بارا الآن يشعر بقدر من الألم والحسرة على ما فرط أهلها في تلك الروعة وذلك الجمال الذي جعل الشعراء يتغنون بها ولها بكل صدق وإحساس دافق. هذه المدينة الجميلة صارت كعجوز شمطاء، تنكر لها أبناؤها وتركوها تواجه نوائب الدهر وصروفه التي لا ترحم، بعد أن كانت ذات جمال ونضارة. فهنالك بيوت معروفة في بارا تركها أهلها نهباً لأشجار المسكيت حتى غطت الشوارع بدلاً من أشجار الجهنميات ذات الزهور الحمراء اليانعة التي كانت تعلو حيشان المنازل في سالف الزمان، وتكسب المدينة رونقاً وحلاوة تنم عن ذوق رفيع وحب للجمال والرقي، إلا أن كل ذلك تراجع أو كاد يختفي فضاقت شوارع المدينة بأكوام القمامة ومخلفات البلاستيك وروث البهائم؛ حتى غدت بارا تشبه مدينة لامو الواقعة في الساحل الشرقي لإفريقيا فقد كانت يضرب بها المثل في الوسخ فيقال عنها: as dirty as Lamo. ومن يمر على سوق بارا الكبير يشعر بالأسى على هذا الموقع الذي كان ذات يوم مضرب المثل في النظام والنظافة والترتيب ولكنه الآن عبارة عن مكب للأوساخ حيث تختلط مخلفات العربات بالأوراق والكراتين وغيرها من الزبالة المقززة، فأين سلطات البلدية والصحة وأين شباب المدينة ولجانها من هذا السلوك والمنظر المزري الذي يشوه مدينتهم التي تشهد توسعاً غير مسبوق من حيث عدد المباني في بعض أطرافها وازدياداً في عدد السكان، بدون وجود خدمات في مجال صحة البيئة وتنظيم المحلات. من جانب آخر، كان مجتمع بارا يعرف بعضه بعضاً ولكن الآن كل المحلات والسواقي والمناطق الزراعية يسيطر عليها أغراب لا أدري من أين جاءوا وكيف استطاعوا شراء كثير من المواقع المتميزة حتى أنك لا تكاد ترى أحداً من الوجوه المألوفة في بارا! ولعل ذلك يعود إلى أن بارا قد صارت ممراً ومعبراً للمواصلات وحركة النقل بعد افتتاح طريق بارا _جبرة _ أم درمان فتدفق نحوها أناس من شتى بقاع السودان لما يعلمون عنها من ميزات تجارية وزراعية وربما صناعية في المستقبل القريب بعد البدء في استخراج السيليكون من رمالها البيضاء. ما جعلني أقول واحرّ قلباه على بارا أنني قد عهدتها مدينة جميلة ورائعة وفتية واعدة، ولكن زيارتي الأخيرة لها تركت في نفسي أساً وتخوفا على مستقبل هذه المدينة التي هي حاضرة منقطة واسعة تمتد حتى تخوم النيل الأبيض وتربط بين مختلف أنحاء السودان؛ فهي لذلك جديرة بالاهتمام والرعاية فالآن بارا أصبحت كقرية كبيرة غير منظمة بينما يمكن لها أن تكون منتجعاً سياحيا جاذبا بقليل من الجهد والخدمات الأساسية والتنظيم والنظافة، ومن هذا المنطلق أدعو لتكوين هيئة شعبية تعنى بتطوير بارا.
gush1981@hotmail.com

 

آراء