قراءة جديدة في ثورة ديسمبر المجيدة: لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل (7)
عبدالله الفكي البشير
10 August, 2022
10 August, 2022
قراءة جديدة في ثورة ديسمبر المجيدة: لجان المقاومة: تجليات استكمال الاستقلال وميلاد المواطن الجديد الأصيل (البحث عن النسب الفكري والسياسي)
(7- ب)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن ه ذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
تناولنا في الحلقة الماضية، وهي (7- أ) من هذه السلسلة، مرجعيات ومغذيات المناخ الثوري: استدعاء المبادرات الخلاقة والنماذج الإرشادية في النضال والسلمية واللاعنف، وقلنا بأن السلمية مثلت هُوية الثورة وشعارها منذ اندلاعها في ديسمبر 2019 وحتى اليوم، وقد استدعتها الجماهير من سجل شعوب السودان. وأن شعوب السودان استطاعت بسلاح السلمية أن تهزم العنف في أعنف صوره وأعتى حالاته، سواء في ثورة أكتوبر 1964، أو في ثورة ديسمبر 2019، واليوم نستكمل.
ثورتا ديسمبر 2019 وأكتوبر 1964 السودانيتين وإلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي
من أكبر وأبلغ رسائل ودروس ثورة ديسمبر المجيدة، بقيادة لجان المقاومة، "إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي". وهذا الدرس، درس إلغاء العنف في إحداث التغيير، قد بدأه الشعب السوداني في ثورة أكتوبر 1964، واليوم نشهد استمراره وتأكيده بقوة. كان الأستاذ محمود محمد طه، قد تحدث عن أكبر قيمة لثورة أكتوبر 1964، في كتابه: لا إله إلا الله (1969)، وفي كتاب الثورة الثقافية (1972)، وفي عدد من بياناته ومقالاته، قائلاً: إن أكبر قيمة لثورة أكتوبر هي أن الشعب السوداني استطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس (1818- 1883)، في فلسفته، فيما عرف (بالمادية التاريخية) .. وتلك العبارة هي قوله: "العنف، والقوة هما الوسيلتان، الوحيدتان، لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع"، فما برهنت عليه ثورة أكتوبر، واليوم تؤكده ثورة ديسمبر، هو أن القوة ضرورية للتغيير، ولكن العنف ليس ضرورياً.. ويقول الأستاذ محمود محمد طه: "بل أن القوة المستحصدة، التامة، تلغي العنف تماما.. فصاحبها في غنى عن استخدام العنف، وخصمها مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه، وحين تنفصل القوة عن العنف يفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديدا من معاني القوة، وتلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر، ووحدة الشعور، بين الناس، بعد أن لبثت البشرية في طوال الحقب لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد، وقوة البأس". وهو يرى بأن مفهوم القوة، بهذا المعنى الأخير، "هو الذي ضلل كارل ماركس، فاعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لامتداد ماضيها، وغاب عنه أن العنف سيفارق القوة، بالضرورة، في مستقبل تطور الإنسان، حين يصبح الحق هو القوة". وأضاف الأستاذ محمود محمد طه، قائلاً: "ومهما يكن من الأمر، فان شعب السودان، في ثورة أكتوبر، قد كان قويا بوحدته العاطفية الرائعة، قوة أغنته هو عن استخدام العنف، وشلت يد خصومه عن استخدام العنف.. وتم بذلك إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي.. إذ قد تم التغيير بالقوة بغير عنف.. وهذا، في حد ذاته، عمل عظيم وجليل". واليوم فإن الشعب السوداني في ثورة ديسمبر بقيادة لجان المقاومة كان قوياً بصورة مدهشة، وهو يؤكد "إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي"، وكأنه يقدم معادلة جديدة وبديلة، تقول: إن السلمية والقوة/ الوحدة، وليس العنف، هما الوسيلتان، الوحيدتان، لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع.
الهمس بتأثير بعض الأحزاب في لجان المقاومة والخطر على لجان المقاومة
ظل الكثير من الناس يردد بأن لجان المقاومة التي تقود ثورة ديسمبر، يسيطر عليها الشيوعيون، أو لهم تأثير عليها، وهذا قول فج، ورأي خديج، ويكشف عن جهل بتاريخ الأحزاب، خاصة تاريخ الحزب الشيوعي، كما سيرد الحديث لاحقاً، كما أنه تحليل ضعيف، وحيلة بالية، مثلما أنه قول ساذج لا يجوز إلا على "صغار الأحلام". والحق أن مثل هذه الحيل والأساليب البالية تم تشييعها وممارستها في محطات عديدة في تاريخ السودان. فعندما اندلعت ثورة أكتوبر 1964، وتشكلت الجبهة الوطنية للهيئات (33 هيئة)، بدأت الأحزاب السودانية تشيع بأن الجبهة خاضعة لسيطرة الشيوعيين، الأمر الذي يكشف عن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد، فأصدر الأستاذ محمود محمد طه عدة بيانات منها بيان جاء بعنوان: "الحزب الجمهوري يقول رأيه في الموقف الحالي: لا أهداف لقادة الأحزاب إلا كراسي الحكم"، (22 فبراير 1965)، قال فيه: "لم تبدأ الازمة بالموقف الذي اختار رئيس الوزراء ان يقفه حين تقدم بتلك الاستقالة المفاجئة وانما بدأت حين اخذت الهيئات المختلفة تنسحب من الجبهة الوطنية للهيئات بحجة ان الجبهة اصبحت خاضعة لسيطرة الشيوعيين عليها ومن رأينا ان انسحاب الهيئات التي انسحبت خطأ شنيع لانه قوض الجبهة ووضع مفتاح الموقف السياسي في يد الاحزاب وفتح الطريق امام هذا الصراع على الكراسي الذي لا تراعي فيه". وأضاف: "لقد نجحت الأحزاب في تجسيم الخطر الشيوعي على هذه البلاد في أذهان الناس"..
وأوضح الأستاذ محمود محمد طه في بيان أصدره في 2 مارس 1965، قائلاً: ما هو عذر الأحزاب المتآمرة في كل ذلك؟ إن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد- إن هذا قول لا يجوز إلا على صغار الأحلام... والطائفية تشعر بأن الشيوعية تشكل خطراً ماثلاً ولكنه عليها هي وليس على هذه البلاد". وأضاف وهو يتحدث عن ثورة أكتوبر بحديث يخاطب الراهن، وكأنه يتحدث عن ثورة ديسمبر، فقد كتب، قائلاً: "إن ثورة اكتوبر لم تلد زعيما حتى الآن ولا يزال الشعب العملاق يتقدمه الاقزام ونحن لا نظن ان هذه الثورة العظيمة عقيم بل نظن ان قلق الشعب الحاضر وفورة عناصره بمثابة اتعاب الولادة للنظام الجديد والزعيم الجديد وعلى المثقفين في جميع الصفوف حتى في جماهير الاحزاب ان يقوموا بدور القابلة في جعل هذه الولادة سريعة ومأمونة العواقب بدل ان يقفوا وراء زعماء جهلاء أو أن ينعزلوا عن مشاكل الشعب.. طلبة الجامعات واساتذة الجامعات في مقدمة من نعني". (أنتهى). وهنا نجدد الدعوة للالتفاف حول لجان المقاومة، ودعمها وتمهيد السُبل لها لتولي قيادة السودان. وليكن الشعار لجان المقاومة لقيادة المرحلة الانتقالية، والأحزاب لإعداد رؤاها وبرامجها العلمية وتهيئة بيوتها الداخلية استعداداً للانتخابات.
الأمر الآخر الذي يجب توضيحه وهو يتصل بتاريخ الأحزاب السودانية، لا سيما أكبر حزبين، ظل كل منهما منذ أربعينات القرن الماضي، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني، وفي مواجهة ورفض للعمل الفوقي الذي ظلت تنتهجه الأحزاب، هما الحزب الجمهوري والحزب الشيوعي السوداني الذي ظل حزباً جماهيرياً وبامتياز. لقد ظل الحزب الجمهوري منذ تأسيسه في أكتوبر 1945 يدعو إلى إشراك الجماهير في النضال ضد الاستعمار، ويدعو إلى الخروج إلى الشوارع. وقد تناولت تفاصيل ذلك في العديد من كتاباتي، منها، على سبيل المثال، لا الحصر: (عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ 2013؛ محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021). ويمكن في هذه السانحة الضيقة أن أقدم برهانين على الحرص على إشراك الجماهير في العمل الوطني. كان الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في العام 1952، مقالاً بعنوان: "الحركة الوطنية كما أريدها"، قال فيه: "ثلاث فئات من المواطنين يجب أن تشترك في الحركة الوطنية اشتراك العمل المنتج. النساء وسكان القرى (الأقاليم) والأغنياء. ولإشراك هؤلاء اشتراك العمل المنتج يجب أن تكون الحركة الوطنية نفسها حركة عمل منتج لا حركة تهريج وهتاف بسقوط الاستعمار ليس إلا".
كذلك كان الحزب الشيوعي السوداني منذ اربعينات القرن الماضي ومنذ أيام الحلقات الماركسية نواة الجبهة المعادية للاستعمار، والتي أصبحت الحزب الشيوعي السوداني، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل الوطني وفي النضال ضد الاستعمار، وكان رافضاً للعمل الفوقي الذي انتهجته الأحزاب السودانية. هذه حقائق لا مغالطة فيها، ولهذا فإذا كان الحزب الشيوعي حاضراً وداعماً لعمل لجان المقاومة، فهذا نشاط يتسق مع رؤيته، ويجسد أحلامه، وهو يعبر من تاريخية. كان البروفيسور أحمد خوجلي، عضو الحلقات الماركسية، وأستاذ الفيزياء الذي أصبح نائباً لمدير جامعة الخرطوم، فيما بعد، قد شهد، قائلاً: "وقد كنا من الجهة الأخرى على اتصال بالحزب الجمهوري وكان حزباً ثورياً. والجمهوريون هم أول من أصطنع المطبعة السرية لطبع المنشورات ويوزعونها في المقاهي وغيرها. واذكر لما تظاهرنا في الوادي في 1946م، جاؤونا بمنشورات وزعناها وسط الطلاب. فأزعجت المنشورات مفتش مركز أم درمان وتحروا في كيفية وصولها للوادي من أم درمان. ولم ينتهوا إلى شيء". ولهذا، فإن حضور الحزب الشيوعي في النشاط الجماهيري، والعمل الميداني في سبيل الوطن، ليس غريباً، إلا على الأحزاب التي ليس لها رؤية أو تاريخ في الدعوة لإشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني.
لجان المقاومة وسودان المستقبل: من القاعدة إلى القمة (مهدوا لهم السُبل لتولي قيادة السودان)
أنني من الداعين لأن تؤول قيادة السودان إلى شباب وشابات لجان المقاومة على جميع مستويات الحكم الانتقالي في الدولة السودانية. واقترح أن تكون النسبة الأكبر للمرأة، إن لم تكن مناصفة على أقل تقدير. الذي يدعونا ويحضنا على ذلك، أمران: الأمر الأول هو إن التضحية والبطولات التي ظللنا نشهدها مع كل صباح كل يوم جديد، وعلى مدى أربع سنوات، تضع القادة والأحزاب والسياسيين في موضع غير لائق وظالم، إن تآمروا على لجان المقاومة، وحالوا بينها وبين قيادة سودان المستقبل. إن شباب لجان المقاومة، هم أصحاب الحق والمصلحة في الراهن والمستقبل، والمرحلة الانتقالية ستحدد ملامح سودان المستقبل وستسفلت مساره، وفي تقديري ليس هناك من هو مؤهل أكثر من لجان المقاومة. والحق أنهم وبما قدموه من تضحية ومعاني جديدة في التعاطي مع شأن الوطن، كما ورد ذكرها آنفاً، أكسبوا متطلبات قيادة الوطن، شروطاً جديدة، وليس هناك من يستوفي تلك الشروط سوى شباب وشابات لجان المقاومة. والأمر الثاني يتصل بالعلل الموروثة في الممارسة السياسية، وهي علل مزمنة ومتمكنة في البيئة السياسية السودانية، ظلت معها الأمور، كما صورها الروائي الطيب صالح (1929- 2009)، قائلاً: "وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدو الفكاك من ربقتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح". وقد تناولنا تصوير الطيب صالح لهذا الواقع، وأرودنا نصه هذا، في صدر سلسلة مقالات لنا نُشرت في العام 2010 بعنوان: "النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصراع العقيم (1-11)"، صحيفة الأحداث، 19 أغسطس 2010.
والحق إننا اليوم وأمام شابات السودان وشبابه نشهد قفزات هائلة في الخيال، وثورات هائلة في الروح. قولاً واحداً إن قيادة الوطن، في ظل الوباء السياسي الذي لازم أداء الأحزاب والممارسة السياسية منذ قبل الاستقلال، يجب أن تؤول إلى الشباب، وقد صدحنا بهذا الرأي منذ العام 2011، بناءً على دراسات، وفحص علمي، وتقصي دقيق في مسار السودان السياسي.
نلتقي مع الحلقة القادمة (7- ج)، وهي الأخيرة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk
/////////////////////////
(7- ب)
بقلم الدكتور عبد الله الفكي البشير
خبير سياسي وباحث أكاديمي
abdallaelbashir@gmail.com
تسعى هذه الورقة عبر سلسلة مقالات، وهي طرف من كتاب قادم، تقديم رؤية جديدة للتعاطي مع لجان المقاومة، شوكة الثورة وقادتها، وحملة مشعل التحرير والتغيير، وقادة سودان المستقبل. وتأتي الورقة وفاءً لشهيدات وشهداء ثورة ديسمبر السودانية المجيدة، ومؤازرة لكل اللائي تأذين، والذين تأذوا في سبيل الحرية وكرامة الإنسان، من أعداء التغيير؛ من أصحاب الامتيازات والمستبدين والمقيمين في الماضي. وتصب كذلك في الواجب الثقافي والوطني والأخلاقي الذي يستدعي أرواح الشهداء، ويستحضر قيم الثورة. وتسعى إلى الإسهام في الوعي بالراهن، عبر العمل على عقلنة الثورة، من خلال البحث عن النسب الفكري والسياسي للجان المقاومة، ما هي لجان المقاومة؟ وماذا تمثل؟ كما تسعى إلى فكرنة سردية لجان المقاومة وتحريرها من تصورات الإرث السياسي وتأصيل نسبها في الذاتية السودانية، فضلاً عن موضعتها في الخارطة الفكرية والسياسية، باعتبارها فاعلاً جديداً في السياسة السودانية. وتزعم الورقة بأن ه ذا الفاعل الجديد "المارد العنيد"، أنتج واقعاً فاق تصورات الأحزاب السودانية، وتجاوز السقف المعرفي للسياسيين السودانيين، وظل مُهمِلاً للمبادرات القادمة من الإرث السياسي البالي، وعصياً على الاحتواء المحلي والإقليمي، ورافضاً للمساومات والتعاطي بالأساليب القديمة. ومع هذا أصبحت حيرة الجميع، من أصحاب المصلحة والمصالح، محلياً وإقليمياً، تتسع وتتفاقم مع صباح كل يوم جديد، أمام مارد صعب المراس، قوي الشَّكيمة، "كأنه الطود الأشم والعيلم المسجور".
تناولنا في الحلقة الماضية، وهي (7- أ) من هذه السلسلة، مرجعيات ومغذيات المناخ الثوري: استدعاء المبادرات الخلاقة والنماذج الإرشادية في النضال والسلمية واللاعنف، وقلنا بأن السلمية مثلت هُوية الثورة وشعارها منذ اندلاعها في ديسمبر 2019 وحتى اليوم، وقد استدعتها الجماهير من سجل شعوب السودان. وأن شعوب السودان استطاعت بسلاح السلمية أن تهزم العنف في أعنف صوره وأعتى حالاته، سواء في ثورة أكتوبر 1964، أو في ثورة ديسمبر 2019، واليوم نستكمل.
ثورتا ديسمبر 2019 وأكتوبر 1964 السودانيتين وإلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي
من أكبر وأبلغ رسائل ودروس ثورة ديسمبر المجيدة، بقيادة لجان المقاومة، "إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي". وهذا الدرس، درس إلغاء العنف في إحداث التغيير، قد بدأه الشعب السوداني في ثورة أكتوبر 1964، واليوم نشهد استمراره وتأكيده بقوة. كان الأستاذ محمود محمد طه، قد تحدث عن أكبر قيمة لثورة أكتوبر 1964، في كتابه: لا إله إلا الله (1969)، وفي كتاب الثورة الثقافية (1972)، وفي عدد من بياناته ومقالاته، قائلاً: إن أكبر قيمة لثورة أكتوبر هي أن الشعب السوداني استطاع بها أن يدلل على خطأ أساسي في التفكير الماركسي، مما ورد في عبارة من أهم عبارات كارل ماركس (1818- 1883)، في فلسفته، فيما عرف (بالمادية التاريخية) .. وتلك العبارة هي قوله: "العنف، والقوة هما الوسيلتان، الوحيدتان، لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع"، فما برهنت عليه ثورة أكتوبر، واليوم تؤكده ثورة ديسمبر، هو أن القوة ضرورية للتغيير، ولكن العنف ليس ضرورياً.. ويقول الأستاذ محمود محمد طه: "بل أن القوة المستحصدة، التامة، تلغي العنف تماما.. فصاحبها في غنى عن استخدام العنف، وخصمها مصروف عن استخدام العنف بما يظهر له من عدم جدواه، وحين تنفصل القوة عن العنف يفتح الباب للبشرية لتفهم معنى جديدا من معاني القوة، وتلك هي القوة التي تقوم على وحدة الفكر، ووحدة الشعور، بين الناس، بعد أن لبثت البشرية في طوال الحقب لا تعرف من القوة إلا ما يقوم على قوة الساعد، وقوة البأس". وهو يرى بأن مفهوم القوة، بهذا المعنى الأخير، "هو الذي ضلل كارل ماركس، فاعتقد أن مستقبل البشرية سيكون صورة لامتداد ماضيها، وغاب عنه أن العنف سيفارق القوة، بالضرورة، في مستقبل تطور الإنسان، حين يصبح الحق هو القوة". وأضاف الأستاذ محمود محمد طه، قائلاً: "ومهما يكن من الأمر، فان شعب السودان، في ثورة أكتوبر، قد كان قويا بوحدته العاطفية الرائعة، قوة أغنته هو عن استخدام العنف، وشلت يد خصومه عن استخدام العنف.. وتم بذلك إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي.. إذ قد تم التغيير بالقوة بغير عنف.. وهذا، في حد ذاته، عمل عظيم وجليل". واليوم فإن الشعب السوداني في ثورة ديسمبر بقيادة لجان المقاومة كان قوياً بصورة مدهشة، وهو يؤكد "إلغاء العنف من معادلة التغيير الماركسي"، وكأنه يقدم معادلة جديدة وبديلة، تقول: إن السلمية والقوة/ الوحدة، وليس العنف، هما الوسيلتان، الوحيدتان، لتحقيق أي تغيير أساسي في المجتمع.
الهمس بتأثير بعض الأحزاب في لجان المقاومة والخطر على لجان المقاومة
ظل الكثير من الناس يردد بأن لجان المقاومة التي تقود ثورة ديسمبر، يسيطر عليها الشيوعيون، أو لهم تأثير عليها، وهذا قول فج، ورأي خديج، ويكشف عن جهل بتاريخ الأحزاب، خاصة تاريخ الحزب الشيوعي، كما سيرد الحديث لاحقاً، كما أنه تحليل ضعيف، وحيلة بالية، مثلما أنه قول ساذج لا يجوز إلا على "صغار الأحلام". والحق أن مثل هذه الحيل والأساليب البالية تم تشييعها وممارستها في محطات عديدة في تاريخ السودان. فعندما اندلعت ثورة أكتوبر 1964، وتشكلت الجبهة الوطنية للهيئات (33 هيئة)، بدأت الأحزاب السودانية تشيع بأن الجبهة خاضعة لسيطرة الشيوعيين، الأمر الذي يكشف عن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد، فأصدر الأستاذ محمود محمد طه عدة بيانات منها بيان جاء بعنوان: "الحزب الجمهوري يقول رأيه في الموقف الحالي: لا أهداف لقادة الأحزاب إلا كراسي الحكم"، (22 فبراير 1965)، قال فيه: "لم تبدأ الازمة بالموقف الذي اختار رئيس الوزراء ان يقفه حين تقدم بتلك الاستقالة المفاجئة وانما بدأت حين اخذت الهيئات المختلفة تنسحب من الجبهة الوطنية للهيئات بحجة ان الجبهة اصبحت خاضعة لسيطرة الشيوعيين عليها ومن رأينا ان انسحاب الهيئات التي انسحبت خطأ شنيع لانه قوض الجبهة ووضع مفتاح الموقف السياسي في يد الاحزاب وفتح الطريق امام هذا الصراع على الكراسي الذي لا تراعي فيه". وأضاف: "لقد نجحت الأحزاب في تجسيم الخطر الشيوعي على هذه البلاد في أذهان الناس"..
وأوضح الأستاذ محمود محمد طه في بيان أصدره في 2 مارس 1965، قائلاً: ما هو عذر الأحزاب المتآمرة في كل ذلك؟ إن خطر النفوذ الشيوعي على البلاد- إن هذا قول لا يجوز إلا على صغار الأحلام... والطائفية تشعر بأن الشيوعية تشكل خطراً ماثلاً ولكنه عليها هي وليس على هذه البلاد". وأضاف وهو يتحدث عن ثورة أكتوبر بحديث يخاطب الراهن، وكأنه يتحدث عن ثورة ديسمبر، فقد كتب، قائلاً: "إن ثورة اكتوبر لم تلد زعيما حتى الآن ولا يزال الشعب العملاق يتقدمه الاقزام ونحن لا نظن ان هذه الثورة العظيمة عقيم بل نظن ان قلق الشعب الحاضر وفورة عناصره بمثابة اتعاب الولادة للنظام الجديد والزعيم الجديد وعلى المثقفين في جميع الصفوف حتى في جماهير الاحزاب ان يقوموا بدور القابلة في جعل هذه الولادة سريعة ومأمونة العواقب بدل ان يقفوا وراء زعماء جهلاء أو أن ينعزلوا عن مشاكل الشعب.. طلبة الجامعات واساتذة الجامعات في مقدمة من نعني". (أنتهى). وهنا نجدد الدعوة للالتفاف حول لجان المقاومة، ودعمها وتمهيد السُبل لها لتولي قيادة السودان. وليكن الشعار لجان المقاومة لقيادة المرحلة الانتقالية، والأحزاب لإعداد رؤاها وبرامجها العلمية وتهيئة بيوتها الداخلية استعداداً للانتخابات.
الأمر الآخر الذي يجب توضيحه وهو يتصل بتاريخ الأحزاب السودانية، لا سيما أكبر حزبين، ظل كل منهما منذ أربعينات القرن الماضي، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني، وفي مواجهة ورفض للعمل الفوقي الذي ظلت تنتهجه الأحزاب، هما الحزب الجمهوري والحزب الشيوعي السوداني الذي ظل حزباً جماهيرياً وبامتياز. لقد ظل الحزب الجمهوري منذ تأسيسه في أكتوبر 1945 يدعو إلى إشراك الجماهير في النضال ضد الاستعمار، ويدعو إلى الخروج إلى الشوارع. وقد تناولت تفاصيل ذلك في العديد من كتاباتي، منها، على سبيل المثال، لا الحصر: (عبد الله الفكي البشير، صاحب الفهم الجديد للإسلام محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ 2013؛ محمود محمد طه وقضايا التهميش في السودان، 2021). ويمكن في هذه السانحة الضيقة أن أقدم برهانين على الحرص على إشراك الجماهير في العمل الوطني. كان الأستاذ محمود محمد طه قد كتب في العام 1952، مقالاً بعنوان: "الحركة الوطنية كما أريدها"، قال فيه: "ثلاث فئات من المواطنين يجب أن تشترك في الحركة الوطنية اشتراك العمل المنتج. النساء وسكان القرى (الأقاليم) والأغنياء. ولإشراك هؤلاء اشتراك العمل المنتج يجب أن تكون الحركة الوطنية نفسها حركة عمل منتج لا حركة تهريج وهتاف بسقوط الاستعمار ليس إلا".
كذلك كان الحزب الشيوعي السوداني منذ اربعينات القرن الماضي ومنذ أيام الحلقات الماركسية نواة الجبهة المعادية للاستعمار، والتي أصبحت الحزب الشيوعي السوداني، يدعو إلى إشراك الجماهير في العمل الوطني وفي النضال ضد الاستعمار، وكان رافضاً للعمل الفوقي الذي انتهجته الأحزاب السودانية. هذه حقائق لا مغالطة فيها، ولهذا فإذا كان الحزب الشيوعي حاضراً وداعماً لعمل لجان المقاومة، فهذا نشاط يتسق مع رؤيته، ويجسد أحلامه، وهو يعبر من تاريخية. كان البروفيسور أحمد خوجلي، عضو الحلقات الماركسية، وأستاذ الفيزياء الذي أصبح نائباً لمدير جامعة الخرطوم، فيما بعد، قد شهد، قائلاً: "وقد كنا من الجهة الأخرى على اتصال بالحزب الجمهوري وكان حزباً ثورياً. والجمهوريون هم أول من أصطنع المطبعة السرية لطبع المنشورات ويوزعونها في المقاهي وغيرها. واذكر لما تظاهرنا في الوادي في 1946م، جاؤونا بمنشورات وزعناها وسط الطلاب. فأزعجت المنشورات مفتش مركز أم درمان وتحروا في كيفية وصولها للوادي من أم درمان. ولم ينتهوا إلى شيء". ولهذا، فإن حضور الحزب الشيوعي في النشاط الجماهيري، والعمل الميداني في سبيل الوطن، ليس غريباً، إلا على الأحزاب التي ليس لها رؤية أو تاريخ في الدعوة لإشراك الجماهير في العمل النضالي والوطني.
لجان المقاومة وسودان المستقبل: من القاعدة إلى القمة (مهدوا لهم السُبل لتولي قيادة السودان)
أنني من الداعين لأن تؤول قيادة السودان إلى شباب وشابات لجان المقاومة على جميع مستويات الحكم الانتقالي في الدولة السودانية. واقترح أن تكون النسبة الأكبر للمرأة، إن لم تكن مناصفة على أقل تقدير. الذي يدعونا ويحضنا على ذلك، أمران: الأمر الأول هو إن التضحية والبطولات التي ظللنا نشهدها مع كل صباح كل يوم جديد، وعلى مدى أربع سنوات، تضع القادة والأحزاب والسياسيين في موضع غير لائق وظالم، إن تآمروا على لجان المقاومة، وحالوا بينها وبين قيادة سودان المستقبل. إن شباب لجان المقاومة، هم أصحاب الحق والمصلحة في الراهن والمستقبل، والمرحلة الانتقالية ستحدد ملامح سودان المستقبل وستسفلت مساره، وفي تقديري ليس هناك من هو مؤهل أكثر من لجان المقاومة. والحق أنهم وبما قدموه من تضحية ومعاني جديدة في التعاطي مع شأن الوطن، كما ورد ذكرها آنفاً، أكسبوا متطلبات قيادة الوطن، شروطاً جديدة، وليس هناك من يستوفي تلك الشروط سوى شباب وشابات لجان المقاومة. والأمر الثاني يتصل بالعلل الموروثة في الممارسة السياسية، وهي علل مزمنة ومتمكنة في البيئة السياسية السودانية، ظلت معها الأمور، كما صورها الروائي الطيب صالح (1929- 2009)، قائلاً: "وتمضي الأمور من جهالة إلى جهالة، حتى يغدو الفكاك من ربقتها مستحيلاً، إلا بقفزات هائلة في الخيال، أو بثورات هائلة في الروح". وقد تناولنا تصوير الطيب صالح لهذا الواقع، وأرودنا نصه هذا، في صدر سلسلة مقالات لنا نُشرت في العام 2010 بعنوان: "النخبة السودانية: المزاج الصفوي والصراع العقيم (1-11)"، صحيفة الأحداث، 19 أغسطس 2010.
والحق إننا اليوم وأمام شابات السودان وشبابه نشهد قفزات هائلة في الخيال، وثورات هائلة في الروح. قولاً واحداً إن قيادة الوطن، في ظل الوباء السياسي الذي لازم أداء الأحزاب والممارسة السياسية منذ قبل الاستقلال، يجب أن تؤول إلى الشباب، وقد صدحنا بهذا الرأي منذ العام 2011، بناءً على دراسات، وفحص علمي، وتقصي دقيق في مسار السودان السياسي.
نلتقي مع الحلقة القادمة (7- ج)، وهي الأخيرة.
ملاحظة: كانت نواة هذه المقالات محاضرة قدمتها بنفس العنوان مرتين وهي متوفر فيديو على هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=CgmifWpwVLk
/////////////////////////