السودان: السلطة الانقلابية في مواجهة الدولة!!
عبدالله مكاوي
5 September, 2022
5 September, 2022
abdullahaliabdullah1424@gmail.com
بسم الله الرحمن الرحيم
(قول لابن آدم في بلد/طالت معانتو وتعب/سكانو دايشين بالشرق/وحكامو باشين بالغرب/احنا اللي فاقدين اي شئ/في الدنيا مالكين كل شئ/بالفينا بالحيل /ودا الدرب /والتابع الصاح ما ضهب) حميد
ظلت الدولة رهن السلطة منذ الاستقلال، وهذا ما جعلها عرضة لتجريب مشاريع عدة، اقل ما توصف به، انها مفارقة لاستقرار الدولة واحوال المجتمع. ومع وصول الاسلامويين للسلطة عبر وسيلة انقلابية، وصلت السلطة لاقصي ازماتها، خاصة بعد تحولها لاداة استحلاب للدولة او نزع الدسم عنها، لتردها الي مسخ مشوه يصعب تبيان ملامحه، ناهيك عن وصفه او تعريفه.
والحال كذلك، آخر ما تحتمله بلاد تسعي باستماتة للخلاص من تبعات ثلاثة عقود من الاستبداد وسوء الادارة والفساد، او بتعبير اصح اعلان الدمار علي الدولة وارتكاب الانتهاكات في حق المجتمع. هو حدوث انقلاب من جديد يعيد البلاد الي شفا الهاوية التي تجهد للخروج منها. وكأن قيادات جاهلة وموتورة من عينة البرهان حميدتي، لا يكفيها مشاركتها الانقاذ فظائعها، لتصر علي اجهاض امل الخلاص من كوارثها! بل الانكي والامر الاصرار علي ممارسة نهج الاستهبال والاستعباط، لاعادة انتاج نسخة اردأ من ذات النظام السابق، ولكن بادعاء الانحياز للثورة وتصحيح المسار! وذلك عبر الاستعانة بقادة حركات مسلحة ومسارات وهمية وطرق صوفية وادارات اهلية منتهية الصلاحية، تعرض نفسها للبيع في سوق النخاسة السياسية.
واذا كانت حالة الفوضي وانعدام المعايير هي ما سمحت بصعود هكذا قيادات تفتقر للمؤهلات والقيم والمبادئ. فان دوام هذه الاوضاع هو السبيل الوحيد لبقاء هذه القيادات علي سدة السلطة. وهو ما يعني بدوره ان الخروج من هذا المأزق رهين بخروج هذه القيادات من المشهد. وبما ان اخراج هكذا قيادات تستند علي المؤسسة العسكرية ومليشيا الجنجويد والحركات المسلحة، هو من الصعوبة بمكان، فهذا ما حكم علي المشهد بالضبابية وانبهام سبل الخروج من الازمة الراهنة، التي تهدد بقاء البلاد وامن العباد.
وفي ظل هذه الازمة السياسية المستحكمة التي تمسك بخناق الدولة، وتردي الاحوال الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ...الخ، نجد ان ما يشغل بال هذه القيادات العدمية، هو كيفية السيطرة علي السلطة بكل الوسائل واستغلال كافة الظروف؟!
ولذلك نجد ان هموم واهتمامات البرهان وسط كل هذه المعاناة المجتمعية والمخاطر المهددة لوجود الدولة، وبعد القاء عب مسؤولية انقاذ وتعويض ضحايا السيول والفيضانات علي كاهل الجمعيات الخيرية والدول الخارجية، ونذر المجاعة القادمة علي منظمات الامم المتحدة! تنصب علي ترتيب اوضاع المؤسسة العسكرية والمخابرات الوطنية، والتمكين في مؤسسات الدولة، والخضوع للحكومة المصرية، وذلك لتامين استفراده بالسلطة. والغرض الاساس من تلك الترتيبات مواجهة خطرين، اولهما حميدتي بوصفه المهدد الاساس للمنصب بسبب تطلعه اليه، ولذلك يعتمد البرهان مع حميدتي سياسة الاستكانة والتذلل والتظاهر بدعم الدعم السريع، لحين مؤاتاة الفرصة للتخلص من حميدتي كحل جذري، او تحجيم طموحه كحل واقعي. وثانيهما اجهاض الثورة من خلال مواجهة قوي الثورة الحية، وتحديدا لجان المقاومة والحرية والتغيير والحزب الشيوعي والحركات المسلحة غير الموقعة علي اتفاقية السلام، وهنا يوظف البرهان الحركات المسلحة الموقعة علي مؤامرة اتفاق جوبا والشخصيات الطفيلية (مبارك الفاضل التوم هجو ترك)، وكذلك الاستثمار في ضرب العلاقة بين قوي الثورة الحية، مستفيدا من القوة الاعلامية والمالية للثورة المضادة.
وفي ذات اتجاه السيطرة علي السلطة، تبرز ترتيبات ومخططات حميدتي، سواء بالاستعانة بحاضنته العرقية والجهوية، او للمفارقة باستغلال ذات حركات اتفاقية جوبا المسلحة والادارات الاهلية (كلاهما يلعب علي كل الحبال) او علاقاته الخارجية او استثمارته الاقتصادية عبر سيطرته علي معظم موارد الدولة! وعموما ما يفضح حميدتي هو سذاجته الشديدة في اعلان طموحاته، سواء بتقيدم الجزرة (دعاية الاعمال الخيرة) او بالتهديد المباشر.
اما الحركات المسلحة فقد حسمت امرها بكل سهولة وبما يتفق وهشاشتها المبدئية ومتجارتها بقضايا الهامش، وذلك بالاعتماد علي المكون العسكري وما يتيحه لها من امتيازات سلطوية مجانية تتناسب وحدود دورها المرسوم! والحال هذه، اتفاقية جوبا ما هي الا قميص عثمان الذي يرفع لمناواة قوي الثورة او تبرير الامتيازات غير المستحقة.
وعموما اذا جسدت طموحات وترتيبات البرهان لاعتلاء السلطة مقدمة لحالة افتراس الدولة، فان طموحات وترتيبات حميدتي في ذات الاتجاه تمثل مقدمة لحالة الاستهتار والاذلال والانتقاص لكيان وقيمة الدولة، اما قادة الحركات المسلحة وباختيارهم دور الاداة القذرة في صراع السلطة، فهم يكرسون لحالة الخيانة والغدر بالدولة.
اما بقية المشهد المعارض فتتقاسمه، قوي الحرية والتغيير التي ما زالت تقع تحت ضغط تجربتها في السلطة، وتراهن علي انها الاجدر لقيادة مرحلة الانتقال، مع اجراء بعض التغييرات والمراجعات الشكلية وتوسيع دائرة المشاركة. ولكن مشكلة هذا الرهان انه يعتمد علي ذات الوجوه والقيادات التي كانت جزء من فشل الشراكة وتعريض الثورة لخطر الاجهاض.
وحبيبنا الحزب الشيوعي الذي لطالما تعاطفنا معه وقدرنا تضحياته الجسام وجهوده الوطنية في عملية النضال والتنوير، إلا ان اداءه خلال مراحل الثورة ومنعرجاتها اوضح انه يعاني من عطب خطير، ألا وان غاية الحزب ودوافعه، هي اثبات صحة مواقفه وقراءاته وخطأ الآخرين، اكثر من اي شئ آخر! والحال كذلك، السلطة نفسها اذا اتته من غير الاعتراف باستاذيته وقيادته وخطأ الآخرين، لا اعتقد انه في وارد القبول بها! اي هاجس الاستاذية والقيادة يطغي حتي علي المردود من الاستاذية والجدوي من القيادة! وغالبا هذا يرجع لعقدة متأصلة في الحزب الشيوعي تتمثل في قناعاته انه رائد الثورة والتنوير والتغيير والتضحيات الذي لا يكذب انصاره! ولذلك ليس مصادفة ان معارضته للقوي السياسية المختلفة معه، لا تقل ان لم تفُق معارضته للانظمة الانقلابية! وهو ما افرز ادبيات التخوين والتشكيك ومرتبة (من ترتيب) القوي السياسية بناء علي مرجعيته الثورية التنويرية التغييرية النضالية الخاصة!
وكذلك لجان المقاومة التي يستحيل تجاوزها او التشكيك في دورها وتحملها عبء وكلفة النضال الاعظم، والاهم افشالها لمخططات الانقلاب في قيام حكم عسكري استبدادي دموي (نموذج السيسي المصري). ويصح ان احباطها من اداء قوي الحرية والتغيير المخيب للآمال منذ التفاوض مرورا بالشراكة وانتهاءً بالانقلاب. هو ما دفعها لتخطي هذه القوي والتصدي لاعباء النضال والقيام بالدور السياسي! ولكن العقبة الاساسية التي تحد من تاثير ونفوذ لجان المقاومة رغم جهودها المضنية في كل الجبهات، انها اقل تقدير لطبيعة التعقيدات التي تحكم المشهد السياسي في هذه المرحلة الحرجة، بل وتسم حالة الدولة منذ ابتلاء الاستقلال. اي هي تعقيدات ذات طبيعة بنيوية وهيكلية وتاريخية، تحتاج بدورها لما يكافئها من تعقيدات الوعي ومراعات حساسية المرحلة وما يكتنفها من مخاطر.
فمثلا، ظلت الدولة السودانية تعاني طوال تاريخها الحديث من عبء وطأة المؤسسة العسكرية، التي اعاقت بناء الدولة العصرية وترسيخ الحياة المدنية والثقافة الديمقراطية. ومواجهة هذه الإشكالية لوحدها استهلكت عمر النخب وطاقة الاحزاب السياسية. فما بالك واليوم الثورة تواجه ليس المؤسسة العسكرية السابقة ولكن النسخة المؤدلجة والاكثر ردأة منها! وهذا ناهيك عن اضافة مليشيات حقيقية تفتقر للانطباط والعقيدة العسكرية، للمشهد المأزوم! والاسوأ سيطرتها علي قدرات اقتصادية مهولة وعلاقات خارجية ذات طبيعة زبائنية!
وكذلك حركات مسلحة ليس لها قضية حقيقية، ولكن قضيتها الاساسية كما سلف عرض نفسها في سوق النخاسة السياسية. اي هي دائما وابدا في صف الكاسبين طالما عروضهم الاكثر منفعة! وعموما اذا قدمت الثورة خدمات لا تحصي للدولة والمجتمع والتاريخ، فان كشفها لحقيقة خداع وخواء وافلاس قادة الحركات المسلحة واتباعهم، لهي اثمن وبما لا يقاس. حيث اوضحت انحيازات قادة الحركات المسلحة للانقلابيين (الذين لم يتورعوا عن سفك دماء اهلهم) والتآمر علي الثورة (الحرية) وخيانتهم للثوار (الاحرار)، كم الزيف الذي يتلبس وعيهم، رغم العبارات الفخيمة واوهام التفلسف التي تسم بعضهم؟ وكم ان شعارات النضال والهامش ما هي إلا منصات لمطامع شخصية وتصفية حسابات نفسية مع المركز واهله. والحال كذلك، ليس مصادفة ان جميع قادة الحركات وانصارهم يتكدسون في العاصمة (مركز المركز الذي يدعون كرهه) من اجل منصب يصيبونه او مال ينهبونه او امراة ينكحونها او مركزي يذلونه او يجورون علي حقه، مع استنكاف تام عن زيارة اهلهم او البقاء معهم او الاخذ بيدهم، إلا لمجرد الاستعراض وتبرير الامتيازات! وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان صراع المركز والهمش مصطنع، او يعبر ان إشكالات نخب فوقية، ولا يعبر بالضرورة عن مشاكل الدولة السودانية التي تعاني متلازمة الاستبداد من الفساد وسوء الادارة وعسر تكوين دولة حديثة تقوم بواجباتها ومجتمع حديث يلبي تطلعاته بحرية.
والمقصود ان الثورة لا تواجه سياسيين يمكن التلاقي معهم عند منتصف الطريق، ولكنها مواجهة بطامعين لا تملأ عينهم إلا التراب وحاقدين لا يشفي غليلهم إلا الانتقام! عكس عبدالواحد والحلو واللذان غض النظر عن الاتفاق او الاختلاف معهم، إلا ان لهم رؤية واضحة ضد الانقلاب والانقلابيين، ولا تحركهم غبائن اجتماعية او مطامح شخصية، وإلا لسهل شراءهم من قبل الانقلابيين. وهو ما منحهم الاحترام ليس من قبل الثوار ولكن قبل ذلك من الانقلابيين انفسهم، الذين يسعون بكل السبل لشراء ودهم ولا يستطيعون.
المهم يجب التاكيد علي ان قادة اتفاق جوبا الانتهازيين لا يمثلون دارفور او اهلها، حتي لا يعمم الحكم السلبي علي الجميع دون ذنب، ولكنهم يمثلون انفسهم ككل ابناء عاقين لاهلهم. وهو ما ينسحب علي قوش وعلي عثمان اللذان لا يمثلان الشوايقة ولا نافع وكرتي يمثلان الجعليين ولا عبدالرحيم حسين وبكري صالح يمثلان الدناقلة والمحس، فهؤلاء جميعا يمثلون شخوصهم والسلطات الانقلابية الاجرامية التي دمرت الوطن وبما فيها اهلهم ومناطقهم. وعليه، لا مجال لبناء دولة مدنية من دون تحرير مناصبها ومؤسساتها من الجهوية والقبلية وتحرير مواطنيها من العنصرية والعرقية وتحرير مجالها العام من الاستبداد والفساد. اما مشاكل التفاوت في التنمية وغيرها تعالج بمنطقها وترتيب الاولويات بموضوعية.
وبالرجوع لمهددات الثورة، فهي مواجهة ايضا بقوي اقليمة ذات تاثير ونفوذ تتربص بها، وقوي خارجية قد تقف بقلبها مع الثورة، إلا ان عقلها ومصالحها يعارضان (يحجمان) الثورة طلما هددت التوازنات الاقليمية الماثلة التي تخدم مصالحها.
وكل ما سلف يؤكد ان التحديات والمهددات التي تواجه الثورة جدية، وان تصدي الثورة لها وانتصارها عليها ليس بالامر السهل او المضمون، حتي يتمكن فصيل من انجازه لوحده او بوسيلة واحدة! بمعني يجب الوعي بان المعركة طويلة وصعبة وتحتاج للتعاون بين الرافضين للانقلاب جميعا، وذلك بالتوازي مع الاعتراف بقوة الخصوم وما يملكونه من ادوات فاعلة لاجهاض الثورة! وهذا ناهيك عن الظروف الراهنة بوصفها ذات حدين كالجحيم الاقتصادي، والعوامل المستجدة ككارثة السيول والفيضانات، وما يمكن ان يستجد من عوامل قد تؤثر سلبا علي الثورة. وكل ذلك يقودنا لقول محدد، لا يمكن احداث تغيير من دون قيادات وكيانات وجبهات لها قابلية التغيير، ومفارقة الطرح الواحد والحل الشامل المتكامل والموقف الثابت، غض النظر عن المتغيرات! بمعني نجاح الثورة يعتمد علي التجاوب مع حالات المد والجزر واستخدام كافة الاساليب السلمية بما فيها الحوار والسياسة والتسوية وغيرها. اي اختيار الوسيلة تحددها الظروف وموازين القوي والمرونة في مواجهة التحديات، اي طلما الهدف الاستراتيجي واضح لا باس من تعدد التكتيكات. اما الوقوف عند محطة واحدة وقول واحد وموقف واحد وعدم التزحزح عنه كعقيدة مقدسة، فهذا لا يعبر عن موقف مبدئ للثورة الطامحة للتغيير كما يظن اصحابه، بقدر ما يعني عدم قابلية للتغيير، وهو ما يعد بحكم الاستبداد (وان لم يصرح بذلك)، اكثر منه وعد بحكم ديمقراطي طبيعته التغير وقبول التعدد والاختلاف.
ومعلوم الطريقة التي تدير بها الثورة علاقاتها وصراعها قبل الحصول علي السلطة، هي ما ستحكم بها الدولة، اذا ما قيض لها النجاح بالطبع. ولذا يجب ان تقدم الثورة نموذج بديل للسلطة الانقلابية، اي نموذج ناضج يحتكم للعقلانية ومراعاة المصالح والبعد عن العواطف والصغائر، قبل ان يعد بالتغيير والدولة المدنية والحياة الديمقراطية والرعاية الاجتماعية. اما طريق النجاح فغير الجهد علي الارض، فهو يحتاج لدراسة معمقة للثورات المتعددة والمتباينة في التاريخ الحديث علي الاقل، والاحاطة بظروفها ومعرفة اسباب نجاحها واخفاقها، للاستفادة منها، مع مراعاة الخصوصية السودانية. وعلي ضوءها يتم مراجعة السياسات والشعارات والانشطة النضالية والاهداف المرحلية، لمقاربة الواقع والتحديات بطريقة عملية، تملك فرصة اكبر للنجاح (وهو نفسه حمال اوجه ودرجات). اي باختصار العاطفة (الحماسة) محلها الميدان، والعقلانية (الواقعية) محلها السياسة.
واخيرا
ما نحلم به دولة يراسها من لا ملامح له او يحمل ملامح كل البلاد، هو ما ينعكس علي رئاسة الميناء لمؤهل من دارفور وحامية القضارف ضابط محترف من العاصمة ومدرسة دنقلا الثانوية استاذ بجاوي، ومستشفي الضعين طبيب من الدمازين. اي لا هوية للمناصب ولا معني للمناطق وانما الحاكمية لقوانين الخدمة المدنية الحيادية. وبهذه المناسبة تجدر الاشارة لتجربة خاصة تؤكد ان مشاكل العنصرية والقبلية سببها النخب المأزومة، في صراعها لحيازة الامتيازات المادية والمعنوية! فقد شاءت الظروف ان اسكن داخلية مجمع شمبات طوال فترة الدراسة، وللمصادفة معظم هذه السنوات كان زملاء السكن من كردفان ودارفور، وكنا اكثر من اسرة. وللمفارقة كنت غير ميال للاهل في الشمالية من غير الزملاء، وبما في ذلك عدم انتمائي للروابط المناطقية، رغم ما فيها من جوانب اجتماعية وخدمية. والغرض من ايراد هذه التجربة انها تكاد تكون حالة عامة منتصف التسعينات، وقبل ان تضرب فتنة حريق الانقاذ دارفور الجريحة. وكل ما نتمناه ان لا يسبب اتفاق جوبا وطريقة تعامل قيادته الانتهازية مع الثورة، حاجز نفسي بين الزملاء في الجامعات، فهؤلاء آخر ما تبقي لنا من امل في المستقبل. ودمتم في رعاية الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قول لابن آدم في بلد/طالت معانتو وتعب/سكانو دايشين بالشرق/وحكامو باشين بالغرب/احنا اللي فاقدين اي شئ/في الدنيا مالكين كل شئ/بالفينا بالحيل /ودا الدرب /والتابع الصاح ما ضهب) حميد
ظلت الدولة رهن السلطة منذ الاستقلال، وهذا ما جعلها عرضة لتجريب مشاريع عدة، اقل ما توصف به، انها مفارقة لاستقرار الدولة واحوال المجتمع. ومع وصول الاسلامويين للسلطة عبر وسيلة انقلابية، وصلت السلطة لاقصي ازماتها، خاصة بعد تحولها لاداة استحلاب للدولة او نزع الدسم عنها، لتردها الي مسخ مشوه يصعب تبيان ملامحه، ناهيك عن وصفه او تعريفه.
والحال كذلك، آخر ما تحتمله بلاد تسعي باستماتة للخلاص من تبعات ثلاثة عقود من الاستبداد وسوء الادارة والفساد، او بتعبير اصح اعلان الدمار علي الدولة وارتكاب الانتهاكات في حق المجتمع. هو حدوث انقلاب من جديد يعيد البلاد الي شفا الهاوية التي تجهد للخروج منها. وكأن قيادات جاهلة وموتورة من عينة البرهان حميدتي، لا يكفيها مشاركتها الانقاذ فظائعها، لتصر علي اجهاض امل الخلاص من كوارثها! بل الانكي والامر الاصرار علي ممارسة نهج الاستهبال والاستعباط، لاعادة انتاج نسخة اردأ من ذات النظام السابق، ولكن بادعاء الانحياز للثورة وتصحيح المسار! وذلك عبر الاستعانة بقادة حركات مسلحة ومسارات وهمية وطرق صوفية وادارات اهلية منتهية الصلاحية، تعرض نفسها للبيع في سوق النخاسة السياسية.
واذا كانت حالة الفوضي وانعدام المعايير هي ما سمحت بصعود هكذا قيادات تفتقر للمؤهلات والقيم والمبادئ. فان دوام هذه الاوضاع هو السبيل الوحيد لبقاء هذه القيادات علي سدة السلطة. وهو ما يعني بدوره ان الخروج من هذا المأزق رهين بخروج هذه القيادات من المشهد. وبما ان اخراج هكذا قيادات تستند علي المؤسسة العسكرية ومليشيا الجنجويد والحركات المسلحة، هو من الصعوبة بمكان، فهذا ما حكم علي المشهد بالضبابية وانبهام سبل الخروج من الازمة الراهنة، التي تهدد بقاء البلاد وامن العباد.
وفي ظل هذه الازمة السياسية المستحكمة التي تمسك بخناق الدولة، وتردي الاحوال الاقتصادية والاجتماعية والبيئية ...الخ، نجد ان ما يشغل بال هذه القيادات العدمية، هو كيفية السيطرة علي السلطة بكل الوسائل واستغلال كافة الظروف؟!
ولذلك نجد ان هموم واهتمامات البرهان وسط كل هذه المعاناة المجتمعية والمخاطر المهددة لوجود الدولة، وبعد القاء عب مسؤولية انقاذ وتعويض ضحايا السيول والفيضانات علي كاهل الجمعيات الخيرية والدول الخارجية، ونذر المجاعة القادمة علي منظمات الامم المتحدة! تنصب علي ترتيب اوضاع المؤسسة العسكرية والمخابرات الوطنية، والتمكين في مؤسسات الدولة، والخضوع للحكومة المصرية، وذلك لتامين استفراده بالسلطة. والغرض الاساس من تلك الترتيبات مواجهة خطرين، اولهما حميدتي بوصفه المهدد الاساس للمنصب بسبب تطلعه اليه، ولذلك يعتمد البرهان مع حميدتي سياسة الاستكانة والتذلل والتظاهر بدعم الدعم السريع، لحين مؤاتاة الفرصة للتخلص من حميدتي كحل جذري، او تحجيم طموحه كحل واقعي. وثانيهما اجهاض الثورة من خلال مواجهة قوي الثورة الحية، وتحديدا لجان المقاومة والحرية والتغيير والحزب الشيوعي والحركات المسلحة غير الموقعة علي اتفاقية السلام، وهنا يوظف البرهان الحركات المسلحة الموقعة علي مؤامرة اتفاق جوبا والشخصيات الطفيلية (مبارك الفاضل التوم هجو ترك)، وكذلك الاستثمار في ضرب العلاقة بين قوي الثورة الحية، مستفيدا من القوة الاعلامية والمالية للثورة المضادة.
وفي ذات اتجاه السيطرة علي السلطة، تبرز ترتيبات ومخططات حميدتي، سواء بالاستعانة بحاضنته العرقية والجهوية، او للمفارقة باستغلال ذات حركات اتفاقية جوبا المسلحة والادارات الاهلية (كلاهما يلعب علي كل الحبال) او علاقاته الخارجية او استثمارته الاقتصادية عبر سيطرته علي معظم موارد الدولة! وعموما ما يفضح حميدتي هو سذاجته الشديدة في اعلان طموحاته، سواء بتقيدم الجزرة (دعاية الاعمال الخيرة) او بالتهديد المباشر.
اما الحركات المسلحة فقد حسمت امرها بكل سهولة وبما يتفق وهشاشتها المبدئية ومتجارتها بقضايا الهامش، وذلك بالاعتماد علي المكون العسكري وما يتيحه لها من امتيازات سلطوية مجانية تتناسب وحدود دورها المرسوم! والحال هذه، اتفاقية جوبا ما هي الا قميص عثمان الذي يرفع لمناواة قوي الثورة او تبرير الامتيازات غير المستحقة.
وعموما اذا جسدت طموحات وترتيبات البرهان لاعتلاء السلطة مقدمة لحالة افتراس الدولة، فان طموحات وترتيبات حميدتي في ذات الاتجاه تمثل مقدمة لحالة الاستهتار والاذلال والانتقاص لكيان وقيمة الدولة، اما قادة الحركات المسلحة وباختيارهم دور الاداة القذرة في صراع السلطة، فهم يكرسون لحالة الخيانة والغدر بالدولة.
اما بقية المشهد المعارض فتتقاسمه، قوي الحرية والتغيير التي ما زالت تقع تحت ضغط تجربتها في السلطة، وتراهن علي انها الاجدر لقيادة مرحلة الانتقال، مع اجراء بعض التغييرات والمراجعات الشكلية وتوسيع دائرة المشاركة. ولكن مشكلة هذا الرهان انه يعتمد علي ذات الوجوه والقيادات التي كانت جزء من فشل الشراكة وتعريض الثورة لخطر الاجهاض.
وحبيبنا الحزب الشيوعي الذي لطالما تعاطفنا معه وقدرنا تضحياته الجسام وجهوده الوطنية في عملية النضال والتنوير، إلا ان اداءه خلال مراحل الثورة ومنعرجاتها اوضح انه يعاني من عطب خطير، ألا وان غاية الحزب ودوافعه، هي اثبات صحة مواقفه وقراءاته وخطأ الآخرين، اكثر من اي شئ آخر! والحال كذلك، السلطة نفسها اذا اتته من غير الاعتراف باستاذيته وقيادته وخطأ الآخرين، لا اعتقد انه في وارد القبول بها! اي هاجس الاستاذية والقيادة يطغي حتي علي المردود من الاستاذية والجدوي من القيادة! وغالبا هذا يرجع لعقدة متأصلة في الحزب الشيوعي تتمثل في قناعاته انه رائد الثورة والتنوير والتغيير والتضحيات الذي لا يكذب انصاره! ولذلك ليس مصادفة ان معارضته للقوي السياسية المختلفة معه، لا تقل ان لم تفُق معارضته للانظمة الانقلابية! وهو ما افرز ادبيات التخوين والتشكيك ومرتبة (من ترتيب) القوي السياسية بناء علي مرجعيته الثورية التنويرية التغييرية النضالية الخاصة!
وكذلك لجان المقاومة التي يستحيل تجاوزها او التشكيك في دورها وتحملها عبء وكلفة النضال الاعظم، والاهم افشالها لمخططات الانقلاب في قيام حكم عسكري استبدادي دموي (نموذج السيسي المصري). ويصح ان احباطها من اداء قوي الحرية والتغيير المخيب للآمال منذ التفاوض مرورا بالشراكة وانتهاءً بالانقلاب. هو ما دفعها لتخطي هذه القوي والتصدي لاعباء النضال والقيام بالدور السياسي! ولكن العقبة الاساسية التي تحد من تاثير ونفوذ لجان المقاومة رغم جهودها المضنية في كل الجبهات، انها اقل تقدير لطبيعة التعقيدات التي تحكم المشهد السياسي في هذه المرحلة الحرجة، بل وتسم حالة الدولة منذ ابتلاء الاستقلال. اي هي تعقيدات ذات طبيعة بنيوية وهيكلية وتاريخية، تحتاج بدورها لما يكافئها من تعقيدات الوعي ومراعات حساسية المرحلة وما يكتنفها من مخاطر.
فمثلا، ظلت الدولة السودانية تعاني طوال تاريخها الحديث من عبء وطأة المؤسسة العسكرية، التي اعاقت بناء الدولة العصرية وترسيخ الحياة المدنية والثقافة الديمقراطية. ومواجهة هذه الإشكالية لوحدها استهلكت عمر النخب وطاقة الاحزاب السياسية. فما بالك واليوم الثورة تواجه ليس المؤسسة العسكرية السابقة ولكن النسخة المؤدلجة والاكثر ردأة منها! وهذا ناهيك عن اضافة مليشيات حقيقية تفتقر للانطباط والعقيدة العسكرية، للمشهد المأزوم! والاسوأ سيطرتها علي قدرات اقتصادية مهولة وعلاقات خارجية ذات طبيعة زبائنية!
وكذلك حركات مسلحة ليس لها قضية حقيقية، ولكن قضيتها الاساسية كما سلف عرض نفسها في سوق النخاسة السياسية. اي هي دائما وابدا في صف الكاسبين طالما عروضهم الاكثر منفعة! وعموما اذا قدمت الثورة خدمات لا تحصي للدولة والمجتمع والتاريخ، فان كشفها لحقيقة خداع وخواء وافلاس قادة الحركات المسلحة واتباعهم، لهي اثمن وبما لا يقاس. حيث اوضحت انحيازات قادة الحركات المسلحة للانقلابيين (الذين لم يتورعوا عن سفك دماء اهلهم) والتآمر علي الثورة (الحرية) وخيانتهم للثوار (الاحرار)، كم الزيف الذي يتلبس وعيهم، رغم العبارات الفخيمة واوهام التفلسف التي تسم بعضهم؟ وكم ان شعارات النضال والهامش ما هي إلا منصات لمطامع شخصية وتصفية حسابات نفسية مع المركز واهله. والحال كذلك، ليس مصادفة ان جميع قادة الحركات وانصارهم يتكدسون في العاصمة (مركز المركز الذي يدعون كرهه) من اجل منصب يصيبونه او مال ينهبونه او امراة ينكحونها او مركزي يذلونه او يجورون علي حقه، مع استنكاف تام عن زيارة اهلهم او البقاء معهم او الاخذ بيدهم، إلا لمجرد الاستعراض وتبرير الامتيازات! وهذا ان دل علي شئ فهو يدل علي ان صراع المركز والهمش مصطنع، او يعبر ان إشكالات نخب فوقية، ولا يعبر بالضرورة عن مشاكل الدولة السودانية التي تعاني متلازمة الاستبداد من الفساد وسوء الادارة وعسر تكوين دولة حديثة تقوم بواجباتها ومجتمع حديث يلبي تطلعاته بحرية.
والمقصود ان الثورة لا تواجه سياسيين يمكن التلاقي معهم عند منتصف الطريق، ولكنها مواجهة بطامعين لا تملأ عينهم إلا التراب وحاقدين لا يشفي غليلهم إلا الانتقام! عكس عبدالواحد والحلو واللذان غض النظر عن الاتفاق او الاختلاف معهم، إلا ان لهم رؤية واضحة ضد الانقلاب والانقلابيين، ولا تحركهم غبائن اجتماعية او مطامح شخصية، وإلا لسهل شراءهم من قبل الانقلابيين. وهو ما منحهم الاحترام ليس من قبل الثوار ولكن قبل ذلك من الانقلابيين انفسهم، الذين يسعون بكل السبل لشراء ودهم ولا يستطيعون.
المهم يجب التاكيد علي ان قادة اتفاق جوبا الانتهازيين لا يمثلون دارفور او اهلها، حتي لا يعمم الحكم السلبي علي الجميع دون ذنب، ولكنهم يمثلون انفسهم ككل ابناء عاقين لاهلهم. وهو ما ينسحب علي قوش وعلي عثمان اللذان لا يمثلان الشوايقة ولا نافع وكرتي يمثلان الجعليين ولا عبدالرحيم حسين وبكري صالح يمثلان الدناقلة والمحس، فهؤلاء جميعا يمثلون شخوصهم والسلطات الانقلابية الاجرامية التي دمرت الوطن وبما فيها اهلهم ومناطقهم. وعليه، لا مجال لبناء دولة مدنية من دون تحرير مناصبها ومؤسساتها من الجهوية والقبلية وتحرير مواطنيها من العنصرية والعرقية وتحرير مجالها العام من الاستبداد والفساد. اما مشاكل التفاوت في التنمية وغيرها تعالج بمنطقها وترتيب الاولويات بموضوعية.
وبالرجوع لمهددات الثورة، فهي مواجهة ايضا بقوي اقليمة ذات تاثير ونفوذ تتربص بها، وقوي خارجية قد تقف بقلبها مع الثورة، إلا ان عقلها ومصالحها يعارضان (يحجمان) الثورة طلما هددت التوازنات الاقليمية الماثلة التي تخدم مصالحها.
وكل ما سلف يؤكد ان التحديات والمهددات التي تواجه الثورة جدية، وان تصدي الثورة لها وانتصارها عليها ليس بالامر السهل او المضمون، حتي يتمكن فصيل من انجازه لوحده او بوسيلة واحدة! بمعني يجب الوعي بان المعركة طويلة وصعبة وتحتاج للتعاون بين الرافضين للانقلاب جميعا، وذلك بالتوازي مع الاعتراف بقوة الخصوم وما يملكونه من ادوات فاعلة لاجهاض الثورة! وهذا ناهيك عن الظروف الراهنة بوصفها ذات حدين كالجحيم الاقتصادي، والعوامل المستجدة ككارثة السيول والفيضانات، وما يمكن ان يستجد من عوامل قد تؤثر سلبا علي الثورة. وكل ذلك يقودنا لقول محدد، لا يمكن احداث تغيير من دون قيادات وكيانات وجبهات لها قابلية التغيير، ومفارقة الطرح الواحد والحل الشامل المتكامل والموقف الثابت، غض النظر عن المتغيرات! بمعني نجاح الثورة يعتمد علي التجاوب مع حالات المد والجزر واستخدام كافة الاساليب السلمية بما فيها الحوار والسياسة والتسوية وغيرها. اي اختيار الوسيلة تحددها الظروف وموازين القوي والمرونة في مواجهة التحديات، اي طلما الهدف الاستراتيجي واضح لا باس من تعدد التكتيكات. اما الوقوف عند محطة واحدة وقول واحد وموقف واحد وعدم التزحزح عنه كعقيدة مقدسة، فهذا لا يعبر عن موقف مبدئ للثورة الطامحة للتغيير كما يظن اصحابه، بقدر ما يعني عدم قابلية للتغيير، وهو ما يعد بحكم الاستبداد (وان لم يصرح بذلك)، اكثر منه وعد بحكم ديمقراطي طبيعته التغير وقبول التعدد والاختلاف.
ومعلوم الطريقة التي تدير بها الثورة علاقاتها وصراعها قبل الحصول علي السلطة، هي ما ستحكم بها الدولة، اذا ما قيض لها النجاح بالطبع. ولذا يجب ان تقدم الثورة نموذج بديل للسلطة الانقلابية، اي نموذج ناضج يحتكم للعقلانية ومراعاة المصالح والبعد عن العواطف والصغائر، قبل ان يعد بالتغيير والدولة المدنية والحياة الديمقراطية والرعاية الاجتماعية. اما طريق النجاح فغير الجهد علي الارض، فهو يحتاج لدراسة معمقة للثورات المتعددة والمتباينة في التاريخ الحديث علي الاقل، والاحاطة بظروفها ومعرفة اسباب نجاحها واخفاقها، للاستفادة منها، مع مراعاة الخصوصية السودانية. وعلي ضوءها يتم مراجعة السياسات والشعارات والانشطة النضالية والاهداف المرحلية، لمقاربة الواقع والتحديات بطريقة عملية، تملك فرصة اكبر للنجاح (وهو نفسه حمال اوجه ودرجات). اي باختصار العاطفة (الحماسة) محلها الميدان، والعقلانية (الواقعية) محلها السياسة.
واخيرا
ما نحلم به دولة يراسها من لا ملامح له او يحمل ملامح كل البلاد، هو ما ينعكس علي رئاسة الميناء لمؤهل من دارفور وحامية القضارف ضابط محترف من العاصمة ومدرسة دنقلا الثانوية استاذ بجاوي، ومستشفي الضعين طبيب من الدمازين. اي لا هوية للمناصب ولا معني للمناطق وانما الحاكمية لقوانين الخدمة المدنية الحيادية. وبهذه المناسبة تجدر الاشارة لتجربة خاصة تؤكد ان مشاكل العنصرية والقبلية سببها النخب المأزومة، في صراعها لحيازة الامتيازات المادية والمعنوية! فقد شاءت الظروف ان اسكن داخلية مجمع شمبات طوال فترة الدراسة، وللمصادفة معظم هذه السنوات كان زملاء السكن من كردفان ودارفور، وكنا اكثر من اسرة. وللمفارقة كنت غير ميال للاهل في الشمالية من غير الزملاء، وبما في ذلك عدم انتمائي للروابط المناطقية، رغم ما فيها من جوانب اجتماعية وخدمية. والغرض من ايراد هذه التجربة انها تكاد تكون حالة عامة منتصف التسعينات، وقبل ان تضرب فتنة حريق الانقاذ دارفور الجريحة. وكل ما نتمناه ان لا يسبب اتفاق جوبا وطريقة تعامل قيادته الانتهازية مع الثورة، حاجز نفسي بين الزملاء في الجامعات، فهؤلاء آخر ما تبقي لنا من امل في المستقبل. ودمتم في رعاية الله.