أسرار وخفايا مراكز الجوازات والسجل المدني في السودان!
رئيس التحرير: طارق الجزولي
31 October, 2022
31 October, 2022
في ديسمبر 2014 بينما كنتُ واقفاً أنتظر دوري للحصول على تأشيرة خروج، في طابور طويل يعجِز عن عدها العادّون ، فإذا بحزمة من الجوازات تعبر فوق رؤوسنا متخطّية الصفوف، لينتهي بها المطاف إلى طاولة الموظف، الذي لم يتورع في صرف انتباهه عنا بشكل كلي، ليتفرغ إلى الجوازات التي لم يُرى لها صاحب ولا مرافق يتزاحم في الصفوف.. ما جعل الجميع يقف متذمراً ساخطاً بصمت، تكرر ذات المشهد مرتين وثلاث، الأمر الذي دفع الموظف على إغلاق نافذته في وجوهنا مكتفياً بالقول: "تعالوا بعد الفطور".
ولعل من نافلة القول-عزيزي القارئ- الإشارة إلى أن "ساعة الفطور" في جُلّ المؤسسات الخدمية في السودان، تعني التسكع والفرفشة مع الزملاء، وقراءة جميع مانشيتات وأعمدة وعناوين الصحف الصادرة صباح اليوم في حضرة بائعات الشاي لثلاث ساعات أو يزيد، { من الساعة10:30إلى الساعة 1:30}، ما يعني أن دوام العمل بعد الفطور لا يتعدى الساعة وثلاثين دقيقة، على أعلى تقدير.
انتهت (ساعات) الفطور الثلاث، فعدنا وزحف الصفُ قليلاً، حتى استبشرنا خيراً، و بدأت أكف الاحساس بالفرج الأكيد تصافحنا بحرارة؛ لكن لم يدم ذلك طويلاً، إذ أعاد الموظف الضابط إغلاق النافذة قائلا بنبرة صارمة: " الدوام خلص.. يلا تجو بكرة".
لم يأبه لتوسلات المواطنين الذين أكدوا له أن هذه هي المرة الرابعة أو الخامسة لهم أمام تلك النافذة!
ولم تحرك فيه دمعات بعض ذوي الاحتياجات العاجلةِ ساكناً، سيما دمعات تلك السيدة الخمسينية التي ما فتئت تسيل مدراراً تبلل خديها العابسين، تخللتها كلمات بصوت مبحوح: "ولدِي الوحيد يا جنابو.. ولدي مرقّد في العناية المركزة، ساعدوني رجاء.. اختمو لي جوازو عشان أسفرو للخارج قبل ما يموت يخليني!".
أرغمت كلماتها دمعاتي على القفز بعيداً عن محجريها، لكن لم انبث ببنت شفة، رغم اعتادي على إبداء اعتراضاتي الفورية في مثل هذه الحالات، ولشيء في نفسي وقتها آثرتُ أن أؤجل الحديث عن هذه التجاوزات المجحفة لوقت لاحق.. لكن ونسبة لابتعادي عن الوطن منذ ذلك الوقت، فقد نسيتُ القصة تماماً وانشغلت بغيرها.
* لم أكن وقتها أعلم أن ظاهرة الجوازات الطائرة هذه قد باتت من الأمور العاديات جداً أمام نوافذ السجل المدني ومراكز الجوازات في السودان.. إلى أن نبهني إلى أخطر من ذلك في الأيام القليلة الماضية أحدُ المقربين الذي ما انفك يعاني مع تلك المؤسسات ذهاباً وإياباً منذ ما يقارب العام ونصف العام، كأحدث ضحية لظاهرة الاحتيال والابتزاز هناك.. ما جعلني أتفل وأبصُق جميع ما كنتُ أحملها من حسن نية تجاه تلك المؤسسات التي باتت وكراً للفساد والاستهبال والاحتيال الممنهج.
كان يخبرني والأسى يكاد يحرق أحشاءه، قائلاً: " في العام الفائت 2021 حضرتُ إلى مركز السجل المدني في إحدى ولايات السودان، كنتُ برفقة شاهدين من أفراد الأسرة، وعندما قدمتُ لهم شهادة ميلادي حسبما هو متبع؛ أخبرني الموظف بأن هناك اختلاف في بعض بيانات شهادة الميلاد على الكمبيوتر، على خلاف ما هو ظاهر في النسخة الورقية، وعندما حاولتُ مستفسراً مستنكراً عدم معقولية إختلاف بيانات السيستم عن النسخة الورقية التي طُبعت أساساً من ذات النسخة التي يحتفظون بها في السيستم؛ أغلق الموظف النافذة في وجهي قبل أن يعود فيفتحها ويسلمني ورقة صغيرة عليها رقم هاتفه للاتصال به بعد الدوام..
اتصلتُ به، فطلب مني شهادة الإشهاد الشرعي من المحكمة، أو دفع مبلغ كبير لتجاوز هذه العقبة..
كنتُ على عجلة من أمري، فاضطرت لاختيار الخيار الثاني، فدفعتُ له 90,000 تسعين الف جنيه سوداني، لإصلاح خطأ السيستم واستخراج الرقم الوطني فقط، بالإضافة إلى 45,000 خمسة وأربعين الف جنيه سوداني لاستخراج جواز السفر الذي قال لي الموظف الضابط برتبة العقيد: في حالة الدفع ستحصل على كليهما في فترة أقصاها أسبوع.
فلم يكن لي بدٌ من دفعها، خصوصًا وأنني بحاجة ملحة إلى مستنداتي في أقرب وقت ممكن، لغرض ضروري أمامي.
*انتظرتُ بعد الدفع شهرين كاملين لأحصل على جواز سفري، كان الضابط يتهرب من مكالماتي متعللاً بأنه في مأمورية خارج الولاية.. فقدتُ خلالها الفرصة التي كانت ماثلة أمامي!
لكن المشكلة هي أن الرقم الوطني وجواز سفري الذي تسلمته بعد كل ذلك الانتظار، كان بهما أخطاء أخرى في تاريخ الميلاد وحتى الحروف الإملائية لإسمي!
والكلام لا زال للضحية:
" صرتُ اتصل بذلك الضابط الموظف لعدة شهور.. الى ان تملكني اليأسُ، فاضطرت مجددًا للبدء من الصفر، حيث إجراءات التعديل الذي يتطلب المثول أمام القاضي لاستصدار الاشهاد الشرعي.. او دفع 135000 أخرى، فذهبتُ هذه المرة الى الخيار الاول.. أحضرتُ معي محامياً هذه المرة بجانب شاهدين من الأسرة، على أمل أن لا أقع في فخاخ الابتزاز والاحتيال.. و بعد الانتظار لشهر وأسبوع؛ تسلمتُ شهادة الإشهاد الشرعي كخطوة أولى لبداية تصحيح الأخطاء المطبعية التي جاءت على الرقم الوطني وجواز السفر... مع العلم انني صرفتُ على استخراج الإشهاد الشرعي هذه 150,000 مائة وخمسين ألف جنيه سوداني.. ليصبح جملة ما صرفته منذ البداية 285 ألف جنيه.
إلا أن الطامة العظمى هي حتى شهادة الإشهاد الشرعي التي تسلمتها لتصحيح اخطاء موظف السجل المدني؛ لم تخلو هي الأخرى من الأخطاء الإملائية!
فعاد المحامي إلى القاضي حاملاً أوراقه لتصويب الخطأ، إلا أن المحامي عاد إليّ قائلاً: ان القاضي طلب مبلغاً أكثر بكثير من رسوم استخراج الإشهاد الشرعي الذي تسلمه، أو إحضار الشهود الذين عادوا إلى القرى لمواصلة العمل في موسم الحصاد، ما يوحي بأن خيار إحضارهم مرة أخرى يعني بالضرورة تعطيلهم عن أعمالهم لعدة أيام وتحميلهم عبء تكاليف الترحيل والاعاشة وغيرهما".
* يتضح من خلال الموقفين أعلاه وغيرها من الحالات المتكررة بشكل يومي مع مئات من المواطنين على اختلاف الأزمان والأماكن؛ أن ظاهرة الأخطاء المطبعية والجوازات الطائرة وغيرهما، قد استشرت وأزكمت الأنوفَ نتانتُها لدرجة بات يحمل المواطن السوداني على الاعتقاد بأن مراكز الجوازات والسجل المدني التي بفترض أنها مراكز عزته وفخره ومصدر استخراج هويته؛ ما هي إلا أوكاراً لوحوش لا ضمير لهم ولا إنسانية ولا وطنية ولا دين.
إن مثل هذه الظواهر السالبة الدنيئة يجب أن لا يسكت عليها المواطن مهما كان صغر حجمها، لأن سكوتك وتغاضيك - عزيزي القارئ-، لهما الدور الكبير في تحفيز وتشجيع الموظف على التماضي في ابتزازك واستفحال الأمر.
لذلك، في حالة ملاحظة أيٍّ من تلك الظواهر داخل مؤسساتنا العامة، ما عليك الا أن تصور ما يجري لك عبر هاتفك، لفضح الفسدة والفاسدين المتنكرين في زي الموظفين داخل تلك المؤسسات الحيوية.
وغداً ستكشف الأيام ما سكتت عنها الألسنُ والاقلام.
أحمد محمود كانِم
31 أكتوبر 2022
amom1834@gmail.com
/////////////////////
ولعل من نافلة القول-عزيزي القارئ- الإشارة إلى أن "ساعة الفطور" في جُلّ المؤسسات الخدمية في السودان، تعني التسكع والفرفشة مع الزملاء، وقراءة جميع مانشيتات وأعمدة وعناوين الصحف الصادرة صباح اليوم في حضرة بائعات الشاي لثلاث ساعات أو يزيد، { من الساعة10:30إلى الساعة 1:30}، ما يعني أن دوام العمل بعد الفطور لا يتعدى الساعة وثلاثين دقيقة، على أعلى تقدير.
انتهت (ساعات) الفطور الثلاث، فعدنا وزحف الصفُ قليلاً، حتى استبشرنا خيراً، و بدأت أكف الاحساس بالفرج الأكيد تصافحنا بحرارة؛ لكن لم يدم ذلك طويلاً، إذ أعاد الموظف الضابط إغلاق النافذة قائلا بنبرة صارمة: " الدوام خلص.. يلا تجو بكرة".
لم يأبه لتوسلات المواطنين الذين أكدوا له أن هذه هي المرة الرابعة أو الخامسة لهم أمام تلك النافذة!
ولم تحرك فيه دمعات بعض ذوي الاحتياجات العاجلةِ ساكناً، سيما دمعات تلك السيدة الخمسينية التي ما فتئت تسيل مدراراً تبلل خديها العابسين، تخللتها كلمات بصوت مبحوح: "ولدِي الوحيد يا جنابو.. ولدي مرقّد في العناية المركزة، ساعدوني رجاء.. اختمو لي جوازو عشان أسفرو للخارج قبل ما يموت يخليني!".
أرغمت كلماتها دمعاتي على القفز بعيداً عن محجريها، لكن لم انبث ببنت شفة، رغم اعتادي على إبداء اعتراضاتي الفورية في مثل هذه الحالات، ولشيء في نفسي وقتها آثرتُ أن أؤجل الحديث عن هذه التجاوزات المجحفة لوقت لاحق.. لكن ونسبة لابتعادي عن الوطن منذ ذلك الوقت، فقد نسيتُ القصة تماماً وانشغلت بغيرها.
* لم أكن وقتها أعلم أن ظاهرة الجوازات الطائرة هذه قد باتت من الأمور العاديات جداً أمام نوافذ السجل المدني ومراكز الجوازات في السودان.. إلى أن نبهني إلى أخطر من ذلك في الأيام القليلة الماضية أحدُ المقربين الذي ما انفك يعاني مع تلك المؤسسات ذهاباً وإياباً منذ ما يقارب العام ونصف العام، كأحدث ضحية لظاهرة الاحتيال والابتزاز هناك.. ما جعلني أتفل وأبصُق جميع ما كنتُ أحملها من حسن نية تجاه تلك المؤسسات التي باتت وكراً للفساد والاستهبال والاحتيال الممنهج.
كان يخبرني والأسى يكاد يحرق أحشاءه، قائلاً: " في العام الفائت 2021 حضرتُ إلى مركز السجل المدني في إحدى ولايات السودان، كنتُ برفقة شاهدين من أفراد الأسرة، وعندما قدمتُ لهم شهادة ميلادي حسبما هو متبع؛ أخبرني الموظف بأن هناك اختلاف في بعض بيانات شهادة الميلاد على الكمبيوتر، على خلاف ما هو ظاهر في النسخة الورقية، وعندما حاولتُ مستفسراً مستنكراً عدم معقولية إختلاف بيانات السيستم عن النسخة الورقية التي طُبعت أساساً من ذات النسخة التي يحتفظون بها في السيستم؛ أغلق الموظف النافذة في وجهي قبل أن يعود فيفتحها ويسلمني ورقة صغيرة عليها رقم هاتفه للاتصال به بعد الدوام..
اتصلتُ به، فطلب مني شهادة الإشهاد الشرعي من المحكمة، أو دفع مبلغ كبير لتجاوز هذه العقبة..
كنتُ على عجلة من أمري، فاضطرت لاختيار الخيار الثاني، فدفعتُ له 90,000 تسعين الف جنيه سوداني، لإصلاح خطأ السيستم واستخراج الرقم الوطني فقط، بالإضافة إلى 45,000 خمسة وأربعين الف جنيه سوداني لاستخراج جواز السفر الذي قال لي الموظف الضابط برتبة العقيد: في حالة الدفع ستحصل على كليهما في فترة أقصاها أسبوع.
فلم يكن لي بدٌ من دفعها، خصوصًا وأنني بحاجة ملحة إلى مستنداتي في أقرب وقت ممكن، لغرض ضروري أمامي.
*انتظرتُ بعد الدفع شهرين كاملين لأحصل على جواز سفري، كان الضابط يتهرب من مكالماتي متعللاً بأنه في مأمورية خارج الولاية.. فقدتُ خلالها الفرصة التي كانت ماثلة أمامي!
لكن المشكلة هي أن الرقم الوطني وجواز سفري الذي تسلمته بعد كل ذلك الانتظار، كان بهما أخطاء أخرى في تاريخ الميلاد وحتى الحروف الإملائية لإسمي!
والكلام لا زال للضحية:
" صرتُ اتصل بذلك الضابط الموظف لعدة شهور.. الى ان تملكني اليأسُ، فاضطرت مجددًا للبدء من الصفر، حيث إجراءات التعديل الذي يتطلب المثول أمام القاضي لاستصدار الاشهاد الشرعي.. او دفع 135000 أخرى، فذهبتُ هذه المرة الى الخيار الاول.. أحضرتُ معي محامياً هذه المرة بجانب شاهدين من الأسرة، على أمل أن لا أقع في فخاخ الابتزاز والاحتيال.. و بعد الانتظار لشهر وأسبوع؛ تسلمتُ شهادة الإشهاد الشرعي كخطوة أولى لبداية تصحيح الأخطاء المطبعية التي جاءت على الرقم الوطني وجواز السفر... مع العلم انني صرفتُ على استخراج الإشهاد الشرعي هذه 150,000 مائة وخمسين ألف جنيه سوداني.. ليصبح جملة ما صرفته منذ البداية 285 ألف جنيه.
إلا أن الطامة العظمى هي حتى شهادة الإشهاد الشرعي التي تسلمتها لتصحيح اخطاء موظف السجل المدني؛ لم تخلو هي الأخرى من الأخطاء الإملائية!
فعاد المحامي إلى القاضي حاملاً أوراقه لتصويب الخطأ، إلا أن المحامي عاد إليّ قائلاً: ان القاضي طلب مبلغاً أكثر بكثير من رسوم استخراج الإشهاد الشرعي الذي تسلمه، أو إحضار الشهود الذين عادوا إلى القرى لمواصلة العمل في موسم الحصاد، ما يوحي بأن خيار إحضارهم مرة أخرى يعني بالضرورة تعطيلهم عن أعمالهم لعدة أيام وتحميلهم عبء تكاليف الترحيل والاعاشة وغيرهما".
* يتضح من خلال الموقفين أعلاه وغيرها من الحالات المتكررة بشكل يومي مع مئات من المواطنين على اختلاف الأزمان والأماكن؛ أن ظاهرة الأخطاء المطبعية والجوازات الطائرة وغيرهما، قد استشرت وأزكمت الأنوفَ نتانتُها لدرجة بات يحمل المواطن السوداني على الاعتقاد بأن مراكز الجوازات والسجل المدني التي بفترض أنها مراكز عزته وفخره ومصدر استخراج هويته؛ ما هي إلا أوكاراً لوحوش لا ضمير لهم ولا إنسانية ولا وطنية ولا دين.
إن مثل هذه الظواهر السالبة الدنيئة يجب أن لا يسكت عليها المواطن مهما كان صغر حجمها، لأن سكوتك وتغاضيك - عزيزي القارئ-، لهما الدور الكبير في تحفيز وتشجيع الموظف على التماضي في ابتزازك واستفحال الأمر.
لذلك، في حالة ملاحظة أيٍّ من تلك الظواهر داخل مؤسساتنا العامة، ما عليك الا أن تصور ما يجري لك عبر هاتفك، لفضح الفسدة والفاسدين المتنكرين في زي الموظفين داخل تلك المؤسسات الحيوية.
وغداً ستكشف الأيام ما سكتت عنها الألسنُ والاقلام.
أحمد محمود كانِم
31 أكتوبر 2022
amom1834@gmail.com
/////////////////////