حَتمِيَّة إفشال مُثلَّث حمدي لاستدامة السُّودان !!
د. فيصل عوض حسن
11 November, 2022
11 November, 2022
سنة 2005 طَرَحَ عبد الرحيم حمدي وزير ماليَّة المُتأسلمين، فكرة جماعته لتقسيم السودان والتي عُرِفَت باسم "مثلث حمدي"، والمُتمثِّلة في جَعْلِ السُّودان مُكَوَّناً من (دُنْقُلا، سِنَّار والأُبَيِّض)، واستبعاد جميع المناطق الأخرى التي تشمل كلاً من: جنوب السُّودان (قبل انفصاله)، إقليم دارفور، المنطقتين (جنوب كُرْدُفان + النيل الأزرق)، الإقليم الشرقي بجانب أقصى الشمال، وتَحَجَّج حمدي بعدم انسجام تلك المناطق مع محور (دُنْقُلا، سِنَّار والأُبَيِّض)، وصعوبة تحقيق التنمية/الاستثمار خارج ذلك المِحْوَر.
تبريرات حمدي مردودة وبعيدة عن المنطق، فالانسجام مُتجذِّر بين السُّودانيين سواء بالمُصاهرات أو الجِيْرَة أو الزمالات الدراسيَّة والعَملِيَّة، والمُتأسلمون أنفسهم ينحدرون من (جميع) مناطق السُّودان، مما ينفي حِجَّة (غياب الانسجام). وأمَّا تبرير الاستثمار والتنمية فيدحضه وجود مُعظم ثرواتنا (الزراعيَّة/الحيوانِيَّة، المَعْدَنِيَّة والمَنَافِذْ البحرِيَّة) في المناطق المُسْتَبْعَدَة، والأهمَّ من ذلك أنَّ سكانها هم شعوب السُّودان الأصيلة، بثقافاتهم ولُغاتهم وآثارهم التاريخيَّة العريقة. لذلك واجَهَ "مُثلَّث حمدي" نقداً شديداً من غالبيَّة السُّودانيين، لأنَّه يُهدد وحدة البلد ونسيجها والاجتماعي/الإنساني، ويهدم تاريخها وإرثها الثقافي. ومع الرفض الشعبي المُتواصل تبرَّأ المُتأسلمون من المُثلَّث، وادَّعوا بأنَّه (رأيٌ شخصيٌّ لحمدي)، وهذا أيضاً تبريرٌ غير منطقي، لأنَّ حمدي أحد (قادة) المُتأسلمين، وكان آنذاك يشغل منصباً حَسَّاساً (وزير المالِيَّة)، بخلاف صعوبة طرح أي موضوع في مُؤتمرٍ عام دون مُوافقة الجهة المُنظِّمة! والواقع أنَّ المُتأسلمين تَبَرَّأوا من الفكرة (ظاهرياً) فقط، لامتصاص غضب السُّودانيين، ثُمَّ واصلوا تنفيذها بأساليبٍ (خبيثةٍ) ومُختلفة!
عقب انفصال الجنوب أشعل المُتأسلمون الصِرَاعِ أكثر بدارفور والمنطقتين، بفَرْضِ التعيينات السِياديَّة والتقسيمات الإداريَّة (أقاليم/ولايات/محليات) استناداً للقَبَلِيَّة/الجِهَوِيَّة، مع التعدي المُتواصل على أبناء هذه الأقاليم، لتعميق الهُوَّة بينهم وبين بَقِيَّة سُكَّان السُّودان. ساعدهم في ذلك بعضُ تجار الحرب، وتبادلوا معهم الأدوار ما بين الإجرام المُباشر ضد المُواطنين أو المُتاجَرَةِ بقضاياهم. والنتيجة أنَّ أهلنا بدارفور والمنطقتين، يدفعون (وحدهم) الثمن جوعاً وقتلاً واغتصاباً وتشريداً، بينما يحيا المُتأسلمون وتجار الحرب في أمانٍ وتَرَف!
بالنسبة للشرق وأقصى الشمال، فقد انتهجَ المُتأسلمون أسلوباً آخر غير المُتَّبع بدارفور والمنطقتين، إذ أغفلوا تنمية هذه المناطق وتركوها للاحتلال الإثيوبي الذي لم يتوقف على الفَشَقَة وإنما بلغ منطقة الدِنْدِر، بجانب الاحتلال المصري لحلايب وغالبِيَّة الأراضي النُّوبِيَّةِ، حتَّى أصبحت منطقة أرقين ميناءً بَرِّيَّاً لمصر، وما تزال تَوَغُّلاتهم مستمرة حتَّى بلغت شمال دارفور! كما مَنحوا المصريين مليون فدَّان من أراضي الشمال (مشروع الكِنانة)، وأتاحوا لهم ثرواتنا الحيوانيَّة والزراعيَّة بأبخس الأثمان، هذا بخلاف الأراضي الممنوحة لكلٍ من: الإمارات، السعودية، الصين، روسيا وغيرهم، فضلاً عن مُحاولاتهم المُتواصلة للتَخَلُّصِ من موانئنا البحرِيَّة. والأخطر من ذلك، قيام المُتأسلمين بتجنيس مئات الآلاف من اللاجئين الإريتريين، رغم أحقادهم وكراهيتهم المُعْلَنة لكل ما هو سُّوداني، ليُشكِّلوا (الغَرس) الأساسي لجميع المليشيات الإسْلَامَوِيَّة التي تبطش بالسُّودان وأهله، مُقابل المزايا والماليَّة والسُلطَوِيَّة الهائلة التي منحها لهم المُتأسلمون، خصماً على أهل السُّودان (الأصيلين) عموماً، وأهلنا بالشرق خصوصاً.
رغم اختفاء البشير ورفاقه نتيجة للاحتجاجات الشعبية المُستمرَّة منذ ديسمبر 2018، لكنَّ استكمال "مثلث حمدي" يمضي بإيقاعٍ أكثر سرعةً وخطورة، لأنَّ المُتأسلمين وأزلامهم يسيطرون على البلد. فالبرهان ورفاقه بالجيش مُتأسلمون أصيلون تبعاً لسياسة (التمكين) المُنفَّذة منذ عام 1989. حيث تمَّ استبعاد جميع الأفراد غير المُتأسلمين من مرافق الدولة، خاصةً الجيش والشرطة، وحُصِرَ التعيين والترقيات لجميع الرُّتب أو الدرجات الوظيفية منذ ذاك الوقت على الموالين لهم فقط، مما يعني أنَّ جميع أفراد الجيش الحالي مُتأسلمين سواء البرهان أو غيره، وبالتالي فإنَّ (اختفاء) البشير ورفاقه لا يعني أبداً (سقوطهم)، وإنما تمثيليَّة لاحتواء الاحتجاجات الشعبيَّة ثم استكمال مخططاتهم وفق ما يحدث الآن تماماً.
الجنجويد الذين يرأسهم المُرتزق حِمِيْدْتِي وشقيقه، يعملون بتوجيهات المُتأسلمين وتحت سيطرتهم التامَّة، وهم بالأساس مليشيا صُنِعَت خصيصاً للتنكيل بالسُّودانيين، وبالتأمُّل في ضحاياهم سنجدهم دائماً من عموم الشعب، ولم تُسَجَّل حالة اعتداء واحدة منهم ضد أي من المُتأسلمين أو أسرهم. من جهةٍ ثانية، فإنَّ وجود المُرتزق حِمِيْدْتِي وشقيقه على رأس الدولة، مع مُعاونيه من مُرتزقة غرب ووسط وأفريقيا، يعكس اختلالاً قانونياً وأخلاقياً كبيراً نظراً للدلائل القَوِيَّة لعدم سودانيتهم من جهة. ومن ناحيةٍ أُخرى، يعني عدم احترام آلاف الضحايا بدارفور التي استبدلوا أهلها بآخرين، ومَكَّنوهم من الأراضي والمُمتلكات، بجانب جرائمهم في عُمق المُدُن السُّودانِيَّة، كمجزرة فض الاعتصام التي تمَّت أمام قيادة الجيش. والآن يساهم المُرتزق حِمِيْدْتِي ومليشياته بفعاليَّة في إشعال المزيد من الصِرَاعات، بدارفور والمنطقتين والشرق والشمال استكمالاً لـ"مثلث حمدي"، بمُساعدة بعض المأجورين الذين يجتهدون في دعوات الانفصال هنا وهناك، وتأجيج الكراهيَّة لبلوغ ذلك الهدف.
جماعة الحرية والتغيير (قحت) خانت الشعب السُّوداني حينما "اتفقت" مع العساكر/الجنجويد ومنحتهم (الشرعيَّة) والحصانة من المُحاسبة والعقاب، دون نزع أسلحة المليشيات أو حسم تجاوزاتها المُتزايدة. كما أغفل القحتيُّون مصير (المفقودين) ولم يحسموا التجنيس العشوائي لتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، ولم يجتهدوا في إعادة النَّازحين لأراضيهم الأصيلة وتعويضهم، وأهملوا الأراضي المُحتلَّة وغيرها من المهددات السياديَّة. أما الدكتور حمدوك فيُعتبر أكبر خديعة للسُّودانيين بدءاً بظهوره المُفاجئ وانتهاءً بمسيرته، التي حَطَّم فيها جميع فرص إعادة بناء السُّودان. فاختيار حمدوك كان غامضاً ومُريباً، ولا أحد يعلم كيفيَّة اختياره ومُبرِّرات/معايير ذلك الاختيار؟ وهل تمَّت مُفاضلته مع آخرين؟ بجانب (غياب) حمدوك عن السُّودان وعدم مُساهمته في مُناهضة المُتأسلمين، بأي شكل من الأشكال، طيلة ثُلث قرنٍ من الزمان! ثم ظهوره مرشَّحاً لوزارة مالِيَّة البشير، و(تمثيليَّة) رفضه لذلك الترشيح، ثُمَّ (افتضاح) علاقاته (الحميمة) ببعض المُتأسلمين وغيرها من الأمور المريبة!
مُمارسات حمدوك (الفعلِيَّة) خلال فترة حكمه كانت كارثِيَّة، فهو أوَّل من اخترق (الوثيقة الدستورِيَّة) ولم يلتزم بوعوده التي أطلقها بـ(كامل إرادته) عقب تسميته رئيساً للوُزراء، كالتزامه بمُعالجةِ التَرَهُّلِ الإداري، واعتماد (الكفاءة)، وتعزيز الشفافِيَّة ومُحاربة الفساد، وبناء دولة القانون، وإصلاح الخدمة المَدَنِيَّة، وتهيئة اقتصاد إنتاجي بعيداً عن القروض والهِبات. فرغم إدِّعائه امتلاك برنامج اقتصادي قائم على الإنتاج، لم يطرح حمدوك أي استراتيجيَّة/خطة جَادَّة لتحسين قطاعاتنا الإنتاجية، واكتفى بسلسلة أكاذيب حول المُساعدات الدوليَّة/الإقليميَّة، ولو كان صادقاً فعلاً، لاستخدم علاقاته (المزعومة) في استرداد الأموال المنهوبة، وسَدَّد بها جميع ديوننا الخارجِيَّة، واستَغلَّ المُتبقِّي لإعادة بناء السُّودان، دون أعباءٍ أو تهديدٍ لسيادتنا واستقلالنا الوطني.
أما الجهاز الإداري فقد ازداد (تَضَخُّماً/تَرَهُّلاً)، ولم تنصلح الخدمة المدنيَّة لأن حمدوك أهمل الكفاءات السُّودانِيَّة الحقيقيَّة (نساءً ورجال)، رغم أن بعضهم عَرَضَ خدماته دون مُقابل! بالنسبة لمُحاربة الفساد، فيكفي مُشاركة حمدوك ووزير ماليته (البدوي)، في فضيحة شركة الفاخر، ثمَّ تبريراتهم القبيحة لتلك الفضيحة! بالنسبة لإقامة دولة القانون، فقد تَجَاهلَ حمدوك إعادة المفصولين تعسُّفياً، خاصَّة بالجيش والشرطة، والذين كانوا سيُسهمون في تحقيق بعض العدالة، وتحسين الخدمة المدنِيَّة وحماية الثورة وحمدوك نفسه! كما تراخى حمدوك وقحتيُّوه في مُحاسبة/مُحاكمة البشير وحاكموه بتُهمة حيازة النقد الأجنبي وهي تُهَمةٌ تافهة، مُقارنةً بجرائمه البشعة التي أقرَّ بها (صوت وصورة). حتَّى لجنة التحقيق التي شَكَّلها حمدوك لمجزرة القيادة، تَلَكَّأت ولم تُدِنْ أي شخص رغم إقرارات العَسْكَر/الجنجويد بمسئوليتهم المُباشرة عن تلك المجزرة! الأكثر إثارة للاشمئزاز، هو اتفاق حمدوك مع العَسْكَر/الجنجويد رغم ادعاءات (القحتيين) بأنَّ البرهان (انْقَلَبَ) على المدنيَّة التي يترأسها حمدوك نفسه!
رغم أنَّ الصراعات كانت في مناطق مُحدَّدة، إلا أنَّ حمدوك طلب (سراً) ولاية الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن على (كامل أراضي السُّودان)، بمُوجِب الفصل السادس! فمن جهة أثبت حمدوك (عدم شَفافِيَّته)، لأنَّ هذه الخطوة تمَّت بمعزلٍ عن الشعب، ومن جهةٍ ثانية خَرق مهامه المُثَبَّتة في الوثيقة الدستوريَّة التي يتباكى عليها هو وقحتيُّوه. مع مُلاحظة أنَّ حمدوك لم يطلب تَدَخُّل الأمم المُتَّحدة ومجلس الأمن، لطرد المُحتلين الإثيوبيين/المصريين من أراضينا، رغم أنَّ الاحتلال خطر سيادي! حتَّى الإدانات (الصُوُرِيَّة)، والتضامُن الدولي/الإقليمي (الشكلي) التي كنا نجدها، فقدناها بسبب حمدوك وقحتيُّوه، بعدما زَيَّفوا حقائق أوضاعنا المأزومة، مما تّسَبَّب في عدم مُناقشة حقوق الإنسان بالسُّودان لأوَّل مرة منذ 30 سنة!
أمَّا القادمون عبر ما يسمَّى اتِّفاقات جوبا، فإنَّهم بعيدين تماماً عن السُّودان وأهله، سواء جينياً أو أخلاقياً، ويُنفِّذون سيناريو أسوأ بكثير من (مُثلَّث حمدي) الإسْلَامَوِي، الذي استهدف تقسيم السُّودان لدويلاتٍ قد تَتَّحد، أو على الأقل أو تتعاون مُستقبلاً، بينما يَعمل هؤلاء العُملاء لـ(تذويب) السُّودان بكامله. ولا غرابة في ذلك، والاتفاقات يطغى عليها (الانتهازيين) والسُفهاء، والأدهى أنَّ بعضهم لا ينتمي للسُّودان من أساسه، بما يُهدِّد السيادة الوطنِيَّة، ويُعطِّل التَحَوُّل الديمُقراطي وبناء دولة القانون، ويمنع (عودة النَّازحين) وضحايا الحرب لمناطقهم الأصيلة. وبالفعل سعى أُولئك العُملاء لصناعة الأزمات والفتن، خاصةً بدارفور والشرق والمنطقتين، مع تقديم الطلبات الكارثِيَّة المُغلَّفة بـ(الثورِيَّة) والتَعَنُّتِ فيها، والتي ستكون تكلفتها باهظة جداً.
المُحصِّلة أنَّ "مثلث حمدي" أوشك على الانتهاء، رغم تَبَرُّؤ المُتأسلمين (التكتيكي) منه قبل سنوات، وهذا "المثلث" يُعدُّ أكبر المخاطر (الوُجُودِيَّة) التي تواجه السُّودانيين الآن، ولابد من إفشاله كضرورة حتميَّة لاستدامتنا. ولقد آن لنا الانتباه للمخاطر (الاستراتيجيَّة/السيادِيَّة) المُحيقة بنا، والتعامل معها بحكمةٍ وحسمٍ ودون تسويف، وبدلاً من الاستجابة لاستفزازات المُتأسلمين لدفعنا نحو التَمزُّقِ والتَفَتُّت، أو التَمَاهي مع دعوات أزلامهم التي تُجمِّل الانفصال والتشرذُم، علينا الاتِّحاد بِقُوَّةٍ وجِدِّيَّة لاقتلاعهم وتطهير بلادنا من (دَنَسِهم)، ضماناً لأمننا وسلامتنا الإنسانِيَّة والاجتماعِيَّة والسياسِيَّة والاقتصادِيَّة واستدامتها.
لقد قَدَّمَ السُّودانِيُّون تضحيات عظيمة لكننا لم نبلغ التغيير المنشود، المُفضي للحُرِّيَّة وإنقاذ ما تَبَقَّى من البلد، لأنَّنا نفتقد عناصر أساسِيَّة لابد من تَوافُرها. فالاحتجاجاتُ الشعبِيَّة الماثلة جميلة وتعكس شجاعة وإصرار مشهود، لكنَّها ليست كافية وبحاجة لدعمٍ وإسناد، لأنَّ الاحتجاجات ِوسيلة فرعِيَّة تحتاج لمُرتكزاتٍ أساسِيَّة، أهمَّها الأخلاق بِقِيَمِها العديدة كالصدق والتَجَرُّد والبُعد عن الأنانِيَّة وترقية الوعي والعمل الجماعي، دون مَساسٍ بحقوق الآخرين، مع ضرورة وجود كيان تنظيمي واحد ومعلوم، ويعمل وفق تخطيط مُتكامل ورصين حتَّى ننجوا، ونُحقِّق ما نصبوا إليه.. وللحديثِ بَقِيَّة.
awadf28@gmail.com
تبريرات حمدي مردودة وبعيدة عن المنطق، فالانسجام مُتجذِّر بين السُّودانيين سواء بالمُصاهرات أو الجِيْرَة أو الزمالات الدراسيَّة والعَملِيَّة، والمُتأسلمون أنفسهم ينحدرون من (جميع) مناطق السُّودان، مما ينفي حِجَّة (غياب الانسجام). وأمَّا تبرير الاستثمار والتنمية فيدحضه وجود مُعظم ثرواتنا (الزراعيَّة/الحيوانِيَّة، المَعْدَنِيَّة والمَنَافِذْ البحرِيَّة) في المناطق المُسْتَبْعَدَة، والأهمَّ من ذلك أنَّ سكانها هم شعوب السُّودان الأصيلة، بثقافاتهم ولُغاتهم وآثارهم التاريخيَّة العريقة. لذلك واجَهَ "مُثلَّث حمدي" نقداً شديداً من غالبيَّة السُّودانيين، لأنَّه يُهدد وحدة البلد ونسيجها والاجتماعي/الإنساني، ويهدم تاريخها وإرثها الثقافي. ومع الرفض الشعبي المُتواصل تبرَّأ المُتأسلمون من المُثلَّث، وادَّعوا بأنَّه (رأيٌ شخصيٌّ لحمدي)، وهذا أيضاً تبريرٌ غير منطقي، لأنَّ حمدي أحد (قادة) المُتأسلمين، وكان آنذاك يشغل منصباً حَسَّاساً (وزير المالِيَّة)، بخلاف صعوبة طرح أي موضوع في مُؤتمرٍ عام دون مُوافقة الجهة المُنظِّمة! والواقع أنَّ المُتأسلمين تَبَرَّأوا من الفكرة (ظاهرياً) فقط، لامتصاص غضب السُّودانيين، ثُمَّ واصلوا تنفيذها بأساليبٍ (خبيثةٍ) ومُختلفة!
عقب انفصال الجنوب أشعل المُتأسلمون الصِرَاعِ أكثر بدارفور والمنطقتين، بفَرْضِ التعيينات السِياديَّة والتقسيمات الإداريَّة (أقاليم/ولايات/محليات) استناداً للقَبَلِيَّة/الجِهَوِيَّة، مع التعدي المُتواصل على أبناء هذه الأقاليم، لتعميق الهُوَّة بينهم وبين بَقِيَّة سُكَّان السُّودان. ساعدهم في ذلك بعضُ تجار الحرب، وتبادلوا معهم الأدوار ما بين الإجرام المُباشر ضد المُواطنين أو المُتاجَرَةِ بقضاياهم. والنتيجة أنَّ أهلنا بدارفور والمنطقتين، يدفعون (وحدهم) الثمن جوعاً وقتلاً واغتصاباً وتشريداً، بينما يحيا المُتأسلمون وتجار الحرب في أمانٍ وتَرَف!
بالنسبة للشرق وأقصى الشمال، فقد انتهجَ المُتأسلمون أسلوباً آخر غير المُتَّبع بدارفور والمنطقتين، إذ أغفلوا تنمية هذه المناطق وتركوها للاحتلال الإثيوبي الذي لم يتوقف على الفَشَقَة وإنما بلغ منطقة الدِنْدِر، بجانب الاحتلال المصري لحلايب وغالبِيَّة الأراضي النُّوبِيَّةِ، حتَّى أصبحت منطقة أرقين ميناءً بَرِّيَّاً لمصر، وما تزال تَوَغُّلاتهم مستمرة حتَّى بلغت شمال دارفور! كما مَنحوا المصريين مليون فدَّان من أراضي الشمال (مشروع الكِنانة)، وأتاحوا لهم ثرواتنا الحيوانيَّة والزراعيَّة بأبخس الأثمان، هذا بخلاف الأراضي الممنوحة لكلٍ من: الإمارات، السعودية، الصين، روسيا وغيرهم، فضلاً عن مُحاولاتهم المُتواصلة للتَخَلُّصِ من موانئنا البحرِيَّة. والأخطر من ذلك، قيام المُتأسلمين بتجنيس مئات الآلاف من اللاجئين الإريتريين، رغم أحقادهم وكراهيتهم المُعْلَنة لكل ما هو سُّوداني، ليُشكِّلوا (الغَرس) الأساسي لجميع المليشيات الإسْلَامَوِيَّة التي تبطش بالسُّودان وأهله، مُقابل المزايا والماليَّة والسُلطَوِيَّة الهائلة التي منحها لهم المُتأسلمون، خصماً على أهل السُّودان (الأصيلين) عموماً، وأهلنا بالشرق خصوصاً.
رغم اختفاء البشير ورفاقه نتيجة للاحتجاجات الشعبية المُستمرَّة منذ ديسمبر 2018، لكنَّ استكمال "مثلث حمدي" يمضي بإيقاعٍ أكثر سرعةً وخطورة، لأنَّ المُتأسلمين وأزلامهم يسيطرون على البلد. فالبرهان ورفاقه بالجيش مُتأسلمون أصيلون تبعاً لسياسة (التمكين) المُنفَّذة منذ عام 1989. حيث تمَّ استبعاد جميع الأفراد غير المُتأسلمين من مرافق الدولة، خاصةً الجيش والشرطة، وحُصِرَ التعيين والترقيات لجميع الرُّتب أو الدرجات الوظيفية منذ ذاك الوقت على الموالين لهم فقط، مما يعني أنَّ جميع أفراد الجيش الحالي مُتأسلمين سواء البرهان أو غيره، وبالتالي فإنَّ (اختفاء) البشير ورفاقه لا يعني أبداً (سقوطهم)، وإنما تمثيليَّة لاحتواء الاحتجاجات الشعبيَّة ثم استكمال مخططاتهم وفق ما يحدث الآن تماماً.
الجنجويد الذين يرأسهم المُرتزق حِمِيْدْتِي وشقيقه، يعملون بتوجيهات المُتأسلمين وتحت سيطرتهم التامَّة، وهم بالأساس مليشيا صُنِعَت خصيصاً للتنكيل بالسُّودانيين، وبالتأمُّل في ضحاياهم سنجدهم دائماً من عموم الشعب، ولم تُسَجَّل حالة اعتداء واحدة منهم ضد أي من المُتأسلمين أو أسرهم. من جهةٍ ثانية، فإنَّ وجود المُرتزق حِمِيْدْتِي وشقيقه على رأس الدولة، مع مُعاونيه من مُرتزقة غرب ووسط وأفريقيا، يعكس اختلالاً قانونياً وأخلاقياً كبيراً نظراً للدلائل القَوِيَّة لعدم سودانيتهم من جهة. ومن ناحيةٍ أُخرى، يعني عدم احترام آلاف الضحايا بدارفور التي استبدلوا أهلها بآخرين، ومَكَّنوهم من الأراضي والمُمتلكات، بجانب جرائمهم في عُمق المُدُن السُّودانِيَّة، كمجزرة فض الاعتصام التي تمَّت أمام قيادة الجيش. والآن يساهم المُرتزق حِمِيْدْتِي ومليشياته بفعاليَّة في إشعال المزيد من الصِرَاعات، بدارفور والمنطقتين والشرق والشمال استكمالاً لـ"مثلث حمدي"، بمُساعدة بعض المأجورين الذين يجتهدون في دعوات الانفصال هنا وهناك، وتأجيج الكراهيَّة لبلوغ ذلك الهدف.
جماعة الحرية والتغيير (قحت) خانت الشعب السُّوداني حينما "اتفقت" مع العساكر/الجنجويد ومنحتهم (الشرعيَّة) والحصانة من المُحاسبة والعقاب، دون نزع أسلحة المليشيات أو حسم تجاوزاتها المُتزايدة. كما أغفل القحتيُّون مصير (المفقودين) ولم يحسموا التجنيس العشوائي لتغيير التركيبة السُكَّانِيَّة، ولم يجتهدوا في إعادة النَّازحين لأراضيهم الأصيلة وتعويضهم، وأهملوا الأراضي المُحتلَّة وغيرها من المهددات السياديَّة. أما الدكتور حمدوك فيُعتبر أكبر خديعة للسُّودانيين بدءاً بظهوره المُفاجئ وانتهاءً بمسيرته، التي حَطَّم فيها جميع فرص إعادة بناء السُّودان. فاختيار حمدوك كان غامضاً ومُريباً، ولا أحد يعلم كيفيَّة اختياره ومُبرِّرات/معايير ذلك الاختيار؟ وهل تمَّت مُفاضلته مع آخرين؟ بجانب (غياب) حمدوك عن السُّودان وعدم مُساهمته في مُناهضة المُتأسلمين، بأي شكل من الأشكال، طيلة ثُلث قرنٍ من الزمان! ثم ظهوره مرشَّحاً لوزارة مالِيَّة البشير، و(تمثيليَّة) رفضه لذلك الترشيح، ثُمَّ (افتضاح) علاقاته (الحميمة) ببعض المُتأسلمين وغيرها من الأمور المريبة!
مُمارسات حمدوك (الفعلِيَّة) خلال فترة حكمه كانت كارثِيَّة، فهو أوَّل من اخترق (الوثيقة الدستورِيَّة) ولم يلتزم بوعوده التي أطلقها بـ(كامل إرادته) عقب تسميته رئيساً للوُزراء، كالتزامه بمُعالجةِ التَرَهُّلِ الإداري، واعتماد (الكفاءة)، وتعزيز الشفافِيَّة ومُحاربة الفساد، وبناء دولة القانون، وإصلاح الخدمة المَدَنِيَّة، وتهيئة اقتصاد إنتاجي بعيداً عن القروض والهِبات. فرغم إدِّعائه امتلاك برنامج اقتصادي قائم على الإنتاج، لم يطرح حمدوك أي استراتيجيَّة/خطة جَادَّة لتحسين قطاعاتنا الإنتاجية، واكتفى بسلسلة أكاذيب حول المُساعدات الدوليَّة/الإقليميَّة، ولو كان صادقاً فعلاً، لاستخدم علاقاته (المزعومة) في استرداد الأموال المنهوبة، وسَدَّد بها جميع ديوننا الخارجِيَّة، واستَغلَّ المُتبقِّي لإعادة بناء السُّودان، دون أعباءٍ أو تهديدٍ لسيادتنا واستقلالنا الوطني.
أما الجهاز الإداري فقد ازداد (تَضَخُّماً/تَرَهُّلاً)، ولم تنصلح الخدمة المدنيَّة لأن حمدوك أهمل الكفاءات السُّودانِيَّة الحقيقيَّة (نساءً ورجال)، رغم أن بعضهم عَرَضَ خدماته دون مُقابل! بالنسبة لمُحاربة الفساد، فيكفي مُشاركة حمدوك ووزير ماليته (البدوي)، في فضيحة شركة الفاخر، ثمَّ تبريراتهم القبيحة لتلك الفضيحة! بالنسبة لإقامة دولة القانون، فقد تَجَاهلَ حمدوك إعادة المفصولين تعسُّفياً، خاصَّة بالجيش والشرطة، والذين كانوا سيُسهمون في تحقيق بعض العدالة، وتحسين الخدمة المدنِيَّة وحماية الثورة وحمدوك نفسه! كما تراخى حمدوك وقحتيُّوه في مُحاسبة/مُحاكمة البشير وحاكموه بتُهمة حيازة النقد الأجنبي وهي تُهَمةٌ تافهة، مُقارنةً بجرائمه البشعة التي أقرَّ بها (صوت وصورة). حتَّى لجنة التحقيق التي شَكَّلها حمدوك لمجزرة القيادة، تَلَكَّأت ولم تُدِنْ أي شخص رغم إقرارات العَسْكَر/الجنجويد بمسئوليتهم المُباشرة عن تلك المجزرة! الأكثر إثارة للاشمئزاز، هو اتفاق حمدوك مع العَسْكَر/الجنجويد رغم ادعاءات (القحتيين) بأنَّ البرهان (انْقَلَبَ) على المدنيَّة التي يترأسها حمدوك نفسه!
رغم أنَّ الصراعات كانت في مناطق مُحدَّدة، إلا أنَّ حمدوك طلب (سراً) ولاية الأُمم المُتَّحدة ومجلس الأمن على (كامل أراضي السُّودان)، بمُوجِب الفصل السادس! فمن جهة أثبت حمدوك (عدم شَفافِيَّته)، لأنَّ هذه الخطوة تمَّت بمعزلٍ عن الشعب، ومن جهةٍ ثانية خَرق مهامه المُثَبَّتة في الوثيقة الدستوريَّة التي يتباكى عليها هو وقحتيُّوه. مع مُلاحظة أنَّ حمدوك لم يطلب تَدَخُّل الأمم المُتَّحدة ومجلس الأمن، لطرد المُحتلين الإثيوبيين/المصريين من أراضينا، رغم أنَّ الاحتلال خطر سيادي! حتَّى الإدانات (الصُوُرِيَّة)، والتضامُن الدولي/الإقليمي (الشكلي) التي كنا نجدها، فقدناها بسبب حمدوك وقحتيُّوه، بعدما زَيَّفوا حقائق أوضاعنا المأزومة، مما تّسَبَّب في عدم مُناقشة حقوق الإنسان بالسُّودان لأوَّل مرة منذ 30 سنة!
أمَّا القادمون عبر ما يسمَّى اتِّفاقات جوبا، فإنَّهم بعيدين تماماً عن السُّودان وأهله، سواء جينياً أو أخلاقياً، ويُنفِّذون سيناريو أسوأ بكثير من (مُثلَّث حمدي) الإسْلَامَوِي، الذي استهدف تقسيم السُّودان لدويلاتٍ قد تَتَّحد، أو على الأقل أو تتعاون مُستقبلاً، بينما يَعمل هؤلاء العُملاء لـ(تذويب) السُّودان بكامله. ولا غرابة في ذلك، والاتفاقات يطغى عليها (الانتهازيين) والسُفهاء، والأدهى أنَّ بعضهم لا ينتمي للسُّودان من أساسه، بما يُهدِّد السيادة الوطنِيَّة، ويُعطِّل التَحَوُّل الديمُقراطي وبناء دولة القانون، ويمنع (عودة النَّازحين) وضحايا الحرب لمناطقهم الأصيلة. وبالفعل سعى أُولئك العُملاء لصناعة الأزمات والفتن، خاصةً بدارفور والشرق والمنطقتين، مع تقديم الطلبات الكارثِيَّة المُغلَّفة بـ(الثورِيَّة) والتَعَنُّتِ فيها، والتي ستكون تكلفتها باهظة جداً.
المُحصِّلة أنَّ "مثلث حمدي" أوشك على الانتهاء، رغم تَبَرُّؤ المُتأسلمين (التكتيكي) منه قبل سنوات، وهذا "المثلث" يُعدُّ أكبر المخاطر (الوُجُودِيَّة) التي تواجه السُّودانيين الآن، ولابد من إفشاله كضرورة حتميَّة لاستدامتنا. ولقد آن لنا الانتباه للمخاطر (الاستراتيجيَّة/السيادِيَّة) المُحيقة بنا، والتعامل معها بحكمةٍ وحسمٍ ودون تسويف، وبدلاً من الاستجابة لاستفزازات المُتأسلمين لدفعنا نحو التَمزُّقِ والتَفَتُّت، أو التَمَاهي مع دعوات أزلامهم التي تُجمِّل الانفصال والتشرذُم، علينا الاتِّحاد بِقُوَّةٍ وجِدِّيَّة لاقتلاعهم وتطهير بلادنا من (دَنَسِهم)، ضماناً لأمننا وسلامتنا الإنسانِيَّة والاجتماعِيَّة والسياسِيَّة والاقتصادِيَّة واستدامتها.
لقد قَدَّمَ السُّودانِيُّون تضحيات عظيمة لكننا لم نبلغ التغيير المنشود، المُفضي للحُرِّيَّة وإنقاذ ما تَبَقَّى من البلد، لأنَّنا نفتقد عناصر أساسِيَّة لابد من تَوافُرها. فالاحتجاجاتُ الشعبِيَّة الماثلة جميلة وتعكس شجاعة وإصرار مشهود، لكنَّها ليست كافية وبحاجة لدعمٍ وإسناد، لأنَّ الاحتجاجات ِوسيلة فرعِيَّة تحتاج لمُرتكزاتٍ أساسِيَّة، أهمَّها الأخلاق بِقِيَمِها العديدة كالصدق والتَجَرُّد والبُعد عن الأنانِيَّة وترقية الوعي والعمل الجماعي، دون مَساسٍ بحقوق الآخرين، مع ضرورة وجود كيان تنظيمي واحد ومعلوم، ويعمل وفق تخطيط مُتكامل ورصين حتَّى ننجوا، ونُحقِّق ما نصبوا إليه.. وللحديثِ بَقِيَّة.
awadf28@gmail.com