حكاية تلفاز الحلقة الأولى
الياس الغائب
18 November, 2022
18 November, 2022
تقول الحكاية إنى حين قدمت إلى الدنمارك فى الثانى من يناير 1991 فى منحة دراسية من وكالة التنمية الدولية الدنماركية (دانيدا) ولحقت بى زوجتى بعد شهرٍ ونصف أى فى الأسبوع الأخير من فبراير، فكرت فى إقتناء تلفاز يؤنس وحشتها فى أوقات غيابى الطويلة، حيث كنت يومئذٍ أخرج يومياً من البيت من الساعة السادسة صباحاً إلى الخامسة مساءً، عدا عطلة نهاية الأسبوع. وقد نصحنى بعض الإخوة أن الأفضل لى أن أستأجر تلفازاً بدلاً عن شرائه وكان منطقهم فى ذلك أن فترة بقائى بالدنمارك ليست بالطويلة وعليه فلست فى حاجة إلى تبديد المال فى شىء لا أحتاجه لفترة طويلة وقد صادف منطقهم هوىً فى نفسى فاقنتنعت.
أصطحبت صديقاً دنماركياً إلى محل تجارى لبيع التلفزيونات واستئجارها. فوقع إختيارنا على تلفاز مستعمل تقول ديباجته التعريفية، الماركة فليبس، الشاشة أربعة وعشرون بوصة، الصناعة هولندية. قال لنا صاحب المحل يمكن إستئجاره بمئتين كرونة دنماركية فى الشهر وحين حسبنا التكلفة لمدة سنة أى إثنى عشر شهراً وجدناها ألفين وأربعمائة كرونة وحين سألناه عن سعره فى حال شرائه قال سبعمائة كرونة ليس غير. فرأيت أن أشتريه، نستمتع به فترة مكوثنا بالبلد ونتركه وراءنا حين نتركها، وهذا الذى لم يحدث . لم نتركه حين غادرنا الدنمارك، ألحّت زوجتى أن يرافقها إلى السودان وأكثرت فى الإلحاح، ولأنّها سوف تسافر وحيدة برفقة إبنتنا الصغيرة التى لم تبلغ شهرها الرابع، رضخت لرغبتها وأستجبت لإلحاحها. وغادر التلفاز مدينته كوبنهاجن وطار إلى الخرطوم ومنها إلى كسلا. و حين سافرنا إلى الفاشر سافر معنا.
في الفاشر أبو زكريا حط رحالنا وقد كان ذلك في العام 1992. هذه المدينة قيل أن أصل اسمها يعود إلى الباحة أو القصر السلطانى و قيل أيضاً أنه يعود لثور أو للوادى الذى قامت على جانبيه و لكنها إشتهرت باسم (الفاشر أبوزكريا). و زكريا هذا هو والد السلطان على دينار آخر سلاطين دارفور. و الفاشر منطقة ذات تباين طبوغرافى من صحراء إلى شبه صحراء، تتخللها تلال منخفضة و كثبان رملية تسمى بالقيزان (جمع قوز) و تلال ذات صخور و أودية و خيران تمتلئ في الخريف بمياه الأمطار. وهناك بحيرة الفاشر و وادى قولو الذى يشكل أهم مصادر المياه. و تمتاز المدينة بالطبيعة الخلابة و المناظر الجميلة و بأهلها المتدينين الطيبين الذين يشكلون نسيجاً إجتماعياً متماسكًا و مترابطاً.
كان الوالى يومئذٍ الطيب محمد خير(سيخة) و كان الأقليم كله ولاية واحدة (ولاية دارفور الكبرى) لم يقسم ، لأن تقسيمه إلى أربع ولايات ثم إلى خمس جاء لاحقاً. جئنا بعد حملة داؤود يحى بولاد ومقتله بعد أن تعرض لتعذيب مروّع . طريقة قتله كان فيها كثيرمن التشفي و الإنتقام تكتم عليها نظام الإنقاذ أما الشاهد الأكبر الذى يعرف كل تفاصيلها هوالطيب سيخة. جاء الطيب سيخة إلى دارفور وقيل أنه جئ به لحسم الصراع و التمرد و بسط الأمن في الولاية و يبدو أنه جاء بصلاحيات واسعة و بدعم كبير من المركز فكان يصول و يجول و يلوح بقبضتة الحديدية حتى ليتراءى للكل أنه الكل. ما أريكم إلّا ما أرى و ما أهديكم إلّا سبيل الرشاد . كان فرعون زمانه، الآمر الناهى.
الصراع القبلي في دارفور قديم قدم القبيلة نفسها الا أن هناك عوامل أدت لتعقيد الصراع وتفاقم الأوضاع، منها الكوارث الطبيعية المتمثلة في موجات الحفاف و التصحر ولا سيما في شمال الإقليم و غربه و شرقه كما أن الحدود المفتوحة للإقليم بالإضافة إلى مساحته الشاسعة و وجود قبائل عديدة لها إمتدادات داخل دول إفريقية أخرى، جعلت منه منطقة صراع مستمر. فهناك الصراع التشادى التشادى و التشادى الليبى حول شريط أوزو الحدودى و الصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى، فراجت في الإقليم تجارة السلاح و انتشر النهب المسلح بالإضافة إلى العوامل السياسية التي وظفت كل هذه المتناقضات المختلفة، و فشل كل الحكومات المتعاقبة مع غياب التنمية المتوازية.
لم يكن الطيب سيخة مهاباً من قبل إنسان دارفور و لم يكن يعره الجميع إنتباهاً و إنما كبار رجالات الدولة و الإداريون هم من كانوا يهابونه و هم من كانوا يحرصون كل الحرص على الظهور أمام ناظريه يوم الجمعة من كل أسبوع و يتزاحمون أمام الجامع الكبير لملاقاته. كان يفاجئنا بالزيارات المفاجئة، كان يزور الجامعة دون إخطار مسبق للإدارة و لكنه لم يكن في الحقيقة يزور الإدارة أو الأساتذة و إنما كان يلتقى طلبة و طالبات الحركة الإسلامية و يتجول معهم في الحرم الجامعى محاطاً بهم. و كان يقف من خلالهم على أحوال الجامعة لأنه يثق في عيون هؤلاء أكثر من ثقته في الإدارة. كما أن سياسة الإنقاذ حصرت مسؤولية الجامعة في المسائل و الشؤون الأكاديمية فقط و تركت مسائل السكن و الإعاشة و الترحيل لصندوق دعم الطلاب. قامت الجامعة على مبانى تتبع لشركة (ريكى الإيطالية) التي كانت تعمل في إنشاء الطرق الداخلية بالولاية. و التي تقع غرب مطار الفاشر و جنوب مدرسة الفاشر الثانوية.
أذكر أن الجامعة كانت في عطلة و قد غادرها الجميع و لم يبق فيها إلّا الوكيل من الإدارة و شخصى من الأساتذة. جاءنا خبر مفاده أن الوالى يطلبنا لأمر هام. و حين سألت و كيل الجامعة عن كنه الطلب أجابنى بأن أمين الحكومة إتصل يسأل عن مدير الجامعه الذى لم يكن موجودًا ثم عن نائب المدير الذى لم يكن موجوداً هو الآخر أيضاً ثم سأل عن الأساتذة فأجابه بوجود أستاذ واحد هو شخصى فقال إن الوالى يريد أن يجتمع بنا حالاً. ركبت معه إلى أمانة الحكومة حيث وجدنا مع الوالى أمين عام الولاية و مسؤول صندوق دعم الطلاب كأنهم كانوا في اجتماع مصغر في إنتظار وصولنا. طلب منا الوالى أن نعلن فتح الجامعة و بدأ الدراسة. إندهشنا للطلب و تبادلنا النظرات أنا و الوكيل في استغراب ملحوظ و لكننا أوضحنا للوالى بأننا لسنا بالجهة المسؤولة عن اتخاذ مثل هذا القرار؛ لأنه من صميم عمل مجلس العمداء، و مجلس العمداء لم ينعقد و لا ندرى متى يجتمع. أطرق هنيهة ثم قال إذا كان الأمر كذلك فأنا أطلب منكما أن تخطرا المدير بطلبي هذا، ثم إلتفت إلى مسؤول صندوق دعم الطلاب متسائلاً هل أنت جاهز لإستقبال الطلاب؟ أجاب مسؤول الصندوق بأن سكن الأولاد جاهز و لكن سكن البنات لا يكفى لأن عددهن في إزدياد، ثم أضاف و لكننا لو استطعنا أن نتحصل على بيت من بيوت محطة البحوث الزراعية تكون المشكلة إتحلت. إلتفت الوالى إلى أمين الحكومة قائلاً
" أمشى جيب لينا المسؤول من البحوث الزراعية حالاً". وحين جئ به وهو شاب في مقتبل العمر دار بينه و بين الوالى الحديث التالى:
" ناديناك لأنو عندنا نقص في سكن الطالبات و عايزين بيت من بيوتكم يكون سكن ليهن"
" لاكين ما عندنا بيت فاضى يا سيادة الوالى". يبدو أن هنالك تنسيق تآمرى بين مسؤول الصندوق و الوالى، فقال الوالى مواصلاً أسئلته.
" مين الساكن في البيت رقم كذا؟" و ذكر رقم البيت المعنى.
" ساكنه فلان" و ذكر اسمه.
" وين فلان هذا؟"
" في كورس"
" يعنى غير موجود الآن في البيت، و البيت فاضى".
" البيت ما فاضى فيهو عفشه يا سيادة الوالى"
" المهم البيت ما مسكون و نحن محتاجين للبيت لسكن الطالبات"
" أنا ما المدير يا سيادة الوالى، أنا ماسك بالإنابة كما أن المحطة ما تابعة للإقليم، المحطة تابعة لوزارة الزراعة في الخرطوم"
" أنا والى دارفور و مسؤول عن كل شيء هنا، ما دام إنتو في دارفور أنا مسؤول منكم".
ووجه حديثه منفعلاً إلى أمين الولاية ..
" أمين الولاية، أمشى سوق معاك مجندات و وكيل نيابة و أمشوا البحوث الزراعية أكسروا باب البيت، رحلوا العفش، خزنوه في أي حتة و جهزوا البيت للطالبات، و خلى مجندات يحرسن البيت و بالمرة يحرسن الطالبات لمن يسكنن"
و شربنا البارد و انفض سامرنا، و خرجنا و كأن على رؤوسنا الطير. هكذا الطيب سيخة منذ أن كان وزيراً لرئاسة مجلس الوزراء و حديث عهدٍ بالوزارة، ما دخل وزارة أو مصلحة إلّا و أحدث فيها ربكة و ضجة و خرابا فكيف لمسؤول كبير يحترم نفسه و يقدر مسؤوليته يتصرف هكذا؟ و لا أحد يستطيع أن يحتج أو يعترض على قراراته إلّا و وصم بأحكام جاهزة و حاضرة بأنه طابور خامس أو معارض أو مخرب للإقتصاد الوطنى أو ضد توجهات الأمة المجاهدة و خيارها الحضارى. ما تركه فينا هذا الاجتماع القصير من أثر نفسى عميق لا يمكن أن ينسى.
eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن
أصطحبت صديقاً دنماركياً إلى محل تجارى لبيع التلفزيونات واستئجارها. فوقع إختيارنا على تلفاز مستعمل تقول ديباجته التعريفية، الماركة فليبس، الشاشة أربعة وعشرون بوصة، الصناعة هولندية. قال لنا صاحب المحل يمكن إستئجاره بمئتين كرونة دنماركية فى الشهر وحين حسبنا التكلفة لمدة سنة أى إثنى عشر شهراً وجدناها ألفين وأربعمائة كرونة وحين سألناه عن سعره فى حال شرائه قال سبعمائة كرونة ليس غير. فرأيت أن أشتريه، نستمتع به فترة مكوثنا بالبلد ونتركه وراءنا حين نتركها، وهذا الذى لم يحدث . لم نتركه حين غادرنا الدنمارك، ألحّت زوجتى أن يرافقها إلى السودان وأكثرت فى الإلحاح، ولأنّها سوف تسافر وحيدة برفقة إبنتنا الصغيرة التى لم تبلغ شهرها الرابع، رضخت لرغبتها وأستجبت لإلحاحها. وغادر التلفاز مدينته كوبنهاجن وطار إلى الخرطوم ومنها إلى كسلا. و حين سافرنا إلى الفاشر سافر معنا.
في الفاشر أبو زكريا حط رحالنا وقد كان ذلك في العام 1992. هذه المدينة قيل أن أصل اسمها يعود إلى الباحة أو القصر السلطانى و قيل أيضاً أنه يعود لثور أو للوادى الذى قامت على جانبيه و لكنها إشتهرت باسم (الفاشر أبوزكريا). و زكريا هذا هو والد السلطان على دينار آخر سلاطين دارفور. و الفاشر منطقة ذات تباين طبوغرافى من صحراء إلى شبه صحراء، تتخللها تلال منخفضة و كثبان رملية تسمى بالقيزان (جمع قوز) و تلال ذات صخور و أودية و خيران تمتلئ في الخريف بمياه الأمطار. وهناك بحيرة الفاشر و وادى قولو الذى يشكل أهم مصادر المياه. و تمتاز المدينة بالطبيعة الخلابة و المناظر الجميلة و بأهلها المتدينين الطيبين الذين يشكلون نسيجاً إجتماعياً متماسكًا و مترابطاً.
كان الوالى يومئذٍ الطيب محمد خير(سيخة) و كان الأقليم كله ولاية واحدة (ولاية دارفور الكبرى) لم يقسم ، لأن تقسيمه إلى أربع ولايات ثم إلى خمس جاء لاحقاً. جئنا بعد حملة داؤود يحى بولاد ومقتله بعد أن تعرض لتعذيب مروّع . طريقة قتله كان فيها كثيرمن التشفي و الإنتقام تكتم عليها نظام الإنقاذ أما الشاهد الأكبر الذى يعرف كل تفاصيلها هوالطيب سيخة. جاء الطيب سيخة إلى دارفور وقيل أنه جئ به لحسم الصراع و التمرد و بسط الأمن في الولاية و يبدو أنه جاء بصلاحيات واسعة و بدعم كبير من المركز فكان يصول و يجول و يلوح بقبضتة الحديدية حتى ليتراءى للكل أنه الكل. ما أريكم إلّا ما أرى و ما أهديكم إلّا سبيل الرشاد . كان فرعون زمانه، الآمر الناهى.
الصراع القبلي في دارفور قديم قدم القبيلة نفسها الا أن هناك عوامل أدت لتعقيد الصراع وتفاقم الأوضاع، منها الكوارث الطبيعية المتمثلة في موجات الحفاف و التصحر ولا سيما في شمال الإقليم و غربه و شرقه كما أن الحدود المفتوحة للإقليم بالإضافة إلى مساحته الشاسعة و وجود قبائل عديدة لها إمتدادات داخل دول إفريقية أخرى، جعلت منه منطقة صراع مستمر. فهناك الصراع التشادى التشادى و التشادى الليبى حول شريط أوزو الحدودى و الصراعات الداخلية لأفريقيا الوسطى، فراجت في الإقليم تجارة السلاح و انتشر النهب المسلح بالإضافة إلى العوامل السياسية التي وظفت كل هذه المتناقضات المختلفة، و فشل كل الحكومات المتعاقبة مع غياب التنمية المتوازية.
لم يكن الطيب سيخة مهاباً من قبل إنسان دارفور و لم يكن يعره الجميع إنتباهاً و إنما كبار رجالات الدولة و الإداريون هم من كانوا يهابونه و هم من كانوا يحرصون كل الحرص على الظهور أمام ناظريه يوم الجمعة من كل أسبوع و يتزاحمون أمام الجامع الكبير لملاقاته. كان يفاجئنا بالزيارات المفاجئة، كان يزور الجامعة دون إخطار مسبق للإدارة و لكنه لم يكن في الحقيقة يزور الإدارة أو الأساتذة و إنما كان يلتقى طلبة و طالبات الحركة الإسلامية و يتجول معهم في الحرم الجامعى محاطاً بهم. و كان يقف من خلالهم على أحوال الجامعة لأنه يثق في عيون هؤلاء أكثر من ثقته في الإدارة. كما أن سياسة الإنقاذ حصرت مسؤولية الجامعة في المسائل و الشؤون الأكاديمية فقط و تركت مسائل السكن و الإعاشة و الترحيل لصندوق دعم الطلاب. قامت الجامعة على مبانى تتبع لشركة (ريكى الإيطالية) التي كانت تعمل في إنشاء الطرق الداخلية بالولاية. و التي تقع غرب مطار الفاشر و جنوب مدرسة الفاشر الثانوية.
أذكر أن الجامعة كانت في عطلة و قد غادرها الجميع و لم يبق فيها إلّا الوكيل من الإدارة و شخصى من الأساتذة. جاءنا خبر مفاده أن الوالى يطلبنا لأمر هام. و حين سألت و كيل الجامعة عن كنه الطلب أجابنى بأن أمين الحكومة إتصل يسأل عن مدير الجامعه الذى لم يكن موجودًا ثم عن نائب المدير الذى لم يكن موجوداً هو الآخر أيضاً ثم سأل عن الأساتذة فأجابه بوجود أستاذ واحد هو شخصى فقال إن الوالى يريد أن يجتمع بنا حالاً. ركبت معه إلى أمانة الحكومة حيث وجدنا مع الوالى أمين عام الولاية و مسؤول صندوق دعم الطلاب كأنهم كانوا في اجتماع مصغر في إنتظار وصولنا. طلب منا الوالى أن نعلن فتح الجامعة و بدأ الدراسة. إندهشنا للطلب و تبادلنا النظرات أنا و الوكيل في استغراب ملحوظ و لكننا أوضحنا للوالى بأننا لسنا بالجهة المسؤولة عن اتخاذ مثل هذا القرار؛ لأنه من صميم عمل مجلس العمداء، و مجلس العمداء لم ينعقد و لا ندرى متى يجتمع. أطرق هنيهة ثم قال إذا كان الأمر كذلك فأنا أطلب منكما أن تخطرا المدير بطلبي هذا، ثم إلتفت إلى مسؤول صندوق دعم الطلاب متسائلاً هل أنت جاهز لإستقبال الطلاب؟ أجاب مسؤول الصندوق بأن سكن الأولاد جاهز و لكن سكن البنات لا يكفى لأن عددهن في إزدياد، ثم أضاف و لكننا لو استطعنا أن نتحصل على بيت من بيوت محطة البحوث الزراعية تكون المشكلة إتحلت. إلتفت الوالى إلى أمين الحكومة قائلاً
" أمشى جيب لينا المسؤول من البحوث الزراعية حالاً". وحين جئ به وهو شاب في مقتبل العمر دار بينه و بين الوالى الحديث التالى:
" ناديناك لأنو عندنا نقص في سكن الطالبات و عايزين بيت من بيوتكم يكون سكن ليهن"
" لاكين ما عندنا بيت فاضى يا سيادة الوالى". يبدو أن هنالك تنسيق تآمرى بين مسؤول الصندوق و الوالى، فقال الوالى مواصلاً أسئلته.
" مين الساكن في البيت رقم كذا؟" و ذكر رقم البيت المعنى.
" ساكنه فلان" و ذكر اسمه.
" وين فلان هذا؟"
" في كورس"
" يعنى غير موجود الآن في البيت، و البيت فاضى".
" البيت ما فاضى فيهو عفشه يا سيادة الوالى"
" المهم البيت ما مسكون و نحن محتاجين للبيت لسكن الطالبات"
" أنا ما المدير يا سيادة الوالى، أنا ماسك بالإنابة كما أن المحطة ما تابعة للإقليم، المحطة تابعة لوزارة الزراعة في الخرطوم"
" أنا والى دارفور و مسؤول عن كل شيء هنا، ما دام إنتو في دارفور أنا مسؤول منكم".
ووجه حديثه منفعلاً إلى أمين الولاية ..
" أمين الولاية، أمشى سوق معاك مجندات و وكيل نيابة و أمشوا البحوث الزراعية أكسروا باب البيت، رحلوا العفش، خزنوه في أي حتة و جهزوا البيت للطالبات، و خلى مجندات يحرسن البيت و بالمرة يحرسن الطالبات لمن يسكنن"
و شربنا البارد و انفض سامرنا، و خرجنا و كأن على رؤوسنا الطير. هكذا الطيب سيخة منذ أن كان وزيراً لرئاسة مجلس الوزراء و حديث عهدٍ بالوزارة، ما دخل وزارة أو مصلحة إلّا و أحدث فيها ربكة و ضجة و خرابا فكيف لمسؤول كبير يحترم نفسه و يقدر مسؤوليته يتصرف هكذا؟ و لا أحد يستطيع أن يحتج أو يعترض على قراراته إلّا و وصم بأحكام جاهزة و حاضرة بأنه طابور خامس أو معارض أو مخرب للإقتصاد الوطنى أو ضد توجهات الأمة المجاهدة و خيارها الحضارى. ما تركه فينا هذا الاجتماع القصير من أثر نفسى عميق لا يمكن أن ينسى.
eliaselghayeb@hotmail.com
الياس الغائب … كوبنهاجن