ادوار الخـراط .. أنــت مـعــنــا
د. أحمد الخميسي
5 December, 2022
5 December, 2022
ahmadalkhamisi2012@gmail.com
تحل في الأول من ديسمبر الذكرى السابعة لرحيل الأديب إدوار الخراط في عام 2015، وقد ربطتني به محبة وثيقة منذ أن قرأت مجموعته القصصية الأولى" حيطان عالية"، وكان قد كتب قصص المجموعة عام 1943، حين كان مازال ملتزما بالرؤية اليسارية وعضوا في منظمة يسارية، ولهذا راوحت قصصها ما بين الواقعية النقدية وما أسماه الخراط في ما بعد" الحساسية الجديدة". وبذلك الصدد يقول:" قمت في فجر شبابي المبكر بالعمل السياسي المباشر، العمل السياسي الثوري، المناهض للنظام الملكي القديم، واعتقلت سنتين أو أقل قليلا في أيام فاروق.. لكن بعد هذه التجربة.. وجدت أن المجال الوحيد الحقيقي الذي أتصور أنني يمكن أن أفعل فيه شيئا.. هو مجال الأدب، والإبداع الروائي بالذات". وتصادف أن علاقتي بالخراط انتقلت من مجرد الاعجاب بكاتب لا أعرفه شخصيا إلى صداقة قوية حين التحقت بالعمل في منظمة التضامن الآسيوي الإفريقي عام 1967، وكان يترأسها يوسف السباعي بينما كان الخراط ذراع السباعي اليمنى في المنظمة، والشخص الثاني فيها، فأخذ يدعوني إلى منزله في الزمالك، وكان يحضر من حين لآخر يحيي الطاهر عبد الله، وكان يكرر للخراط كثيرا أنه – أي يحيي- سيترك الأدب ويعمل سائق تاكسي! في ما بعد ضحك إدوار وقال لي: " ظننت أول الأمر أن يحيى يتكلم جادا، فكنت أحاول مرة بعد الأخرى أن أثنيه عن ذلك، إلى أن انتبهت فجأة أنه غير جاد في ما يقول لكنه يبتزني عاطفيا لأقول له وأعيد عليه إنه كاتب موهوب لا يصح أن يهجر الأدب، وحين اكتشفت اللعبة رحت أقول له:" عندك حق يا يحيي.. ماذا جنينا من الأدب؟ نعم فلتعمل سائق تاكسي ! وعندما أدرك يحيي أنني اكتشفت اللعبة كف عن ابتزازي عاطفيا "! وكنت أحب في ادوار الخراط وهو يحكي نظرة عينيه التي تدعي المكر لتخفي الطيبة والسماحة كلها، وكنت أرى أيضا كيف يهدر من عمره على الوظيفة فقلت له في بيته ذات مرة : " لماذا لا تبيع شقتك هذه الواقعة في الزمالك وتشتري شقة أخرى صغيرة في منطقة بعيدة وتعيش على المال الفائض من فرق السعر، تكتب وتبدع من دون وظيفة؟"، فابتسم قائلا:" لا استطيع أن أغير سكني، اعتدت على المكان". عام 1988 زار الخراط موسكو وكنت ما زلت أدرس هناك، ولم نفترق تقريبا خلال زيارته، وحين عاد إلى القاهرة بعث إلي بخطاب ما زلت أحتفظ به يقول فيه: " القاهرة في 7 نوفمبر 1988..عزيزي أحمد.. لست أدري كيف أعبر عن شكري لك لعنايتك بي ولاحتفائك ولا عن إعزازي ومحبتي. أصبحت موسكو الآن مرتبطة بوجودك بل أصبحت أحبها لأنك موجود بها". نشر الخراط أكثر من خمسين كتابا ما بين التأليف والترجمة والنقد، وروج لفكرة " الحساسية الجديدة " في الأدب بعدة مقالات، جمعها في كتابه"الحساسية الجديدة" عام 1993، وكانت ردا على الواقعية النقدية التي كان نجيب محفوظ وغيره يمثلونها، وكان يعني بتلك الحساسية الجديدة الطرق الفنية والرؤى التي تختلف عن الأدب الواقعي السابق، لكن المصطلح الذي استخدمه الخراط، ومن قبله د. لويس عوض ظل فضفاضا إلى حد كبير. ومع أن الكاتب الكبير كان دمثا للغاية ويبدو شديد التواضع، إلا أنه في دخيلته كان مشبعا بالاعتزاز بنفسه وبدوره، ويتضح ذلك من حديث له في البرنامج التلفزيوني" صباح الخير يا مصر" بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل حين قال الخراط:" الوحيدان اللذان يستحقان نوبل هما أنا وأدونيس أما نجيب محفوظ فموهبته متوسطة"! يبقى العزيز الموهوب الكبير الراحل إدوار الخراط معنا، بكل ما تركه من روايات وبإخلاصه لرؤاه ، وتصوراته، وللأدب والفن، وبأحلامه التي حلقت عاليا في سماء الإبداع.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
تحل في الأول من ديسمبر الذكرى السابعة لرحيل الأديب إدوار الخراط في عام 2015، وقد ربطتني به محبة وثيقة منذ أن قرأت مجموعته القصصية الأولى" حيطان عالية"، وكان قد كتب قصص المجموعة عام 1943، حين كان مازال ملتزما بالرؤية اليسارية وعضوا في منظمة يسارية، ولهذا راوحت قصصها ما بين الواقعية النقدية وما أسماه الخراط في ما بعد" الحساسية الجديدة". وبذلك الصدد يقول:" قمت في فجر شبابي المبكر بالعمل السياسي المباشر، العمل السياسي الثوري، المناهض للنظام الملكي القديم، واعتقلت سنتين أو أقل قليلا في أيام فاروق.. لكن بعد هذه التجربة.. وجدت أن المجال الوحيد الحقيقي الذي أتصور أنني يمكن أن أفعل فيه شيئا.. هو مجال الأدب، والإبداع الروائي بالذات". وتصادف أن علاقتي بالخراط انتقلت من مجرد الاعجاب بكاتب لا أعرفه شخصيا إلى صداقة قوية حين التحقت بالعمل في منظمة التضامن الآسيوي الإفريقي عام 1967، وكان يترأسها يوسف السباعي بينما كان الخراط ذراع السباعي اليمنى في المنظمة، والشخص الثاني فيها، فأخذ يدعوني إلى منزله في الزمالك، وكان يحضر من حين لآخر يحيي الطاهر عبد الله، وكان يكرر للخراط كثيرا أنه – أي يحيي- سيترك الأدب ويعمل سائق تاكسي! في ما بعد ضحك إدوار وقال لي: " ظننت أول الأمر أن يحيى يتكلم جادا، فكنت أحاول مرة بعد الأخرى أن أثنيه عن ذلك، إلى أن انتبهت فجأة أنه غير جاد في ما يقول لكنه يبتزني عاطفيا لأقول له وأعيد عليه إنه كاتب موهوب لا يصح أن يهجر الأدب، وحين اكتشفت اللعبة رحت أقول له:" عندك حق يا يحيي.. ماذا جنينا من الأدب؟ نعم فلتعمل سائق تاكسي ! وعندما أدرك يحيي أنني اكتشفت اللعبة كف عن ابتزازي عاطفيا "! وكنت أحب في ادوار الخراط وهو يحكي نظرة عينيه التي تدعي المكر لتخفي الطيبة والسماحة كلها، وكنت أرى أيضا كيف يهدر من عمره على الوظيفة فقلت له في بيته ذات مرة : " لماذا لا تبيع شقتك هذه الواقعة في الزمالك وتشتري شقة أخرى صغيرة في منطقة بعيدة وتعيش على المال الفائض من فرق السعر، تكتب وتبدع من دون وظيفة؟"، فابتسم قائلا:" لا استطيع أن أغير سكني، اعتدت على المكان". عام 1988 زار الخراط موسكو وكنت ما زلت أدرس هناك، ولم نفترق تقريبا خلال زيارته، وحين عاد إلى القاهرة بعث إلي بخطاب ما زلت أحتفظ به يقول فيه: " القاهرة في 7 نوفمبر 1988..عزيزي أحمد.. لست أدري كيف أعبر عن شكري لك لعنايتك بي ولاحتفائك ولا عن إعزازي ومحبتي. أصبحت موسكو الآن مرتبطة بوجودك بل أصبحت أحبها لأنك موجود بها". نشر الخراط أكثر من خمسين كتابا ما بين التأليف والترجمة والنقد، وروج لفكرة " الحساسية الجديدة " في الأدب بعدة مقالات، جمعها في كتابه"الحساسية الجديدة" عام 1993، وكانت ردا على الواقعية النقدية التي كان نجيب محفوظ وغيره يمثلونها، وكان يعني بتلك الحساسية الجديدة الطرق الفنية والرؤى التي تختلف عن الأدب الواقعي السابق، لكن المصطلح الذي استخدمه الخراط، ومن قبله د. لويس عوض ظل فضفاضا إلى حد كبير. ومع أن الكاتب الكبير كان دمثا للغاية ويبدو شديد التواضع، إلا أنه في دخيلته كان مشبعا بالاعتزاز بنفسه وبدوره، ويتضح ذلك من حديث له في البرنامج التلفزيوني" صباح الخير يا مصر" بعد فوز نجيب محفوظ بنوبل حين قال الخراط:" الوحيدان اللذان يستحقان نوبل هما أنا وأدونيس أما نجيب محفوظ فموهبته متوسطة"! يبقى العزيز الموهوب الكبير الراحل إدوار الخراط معنا، بكل ما تركه من روايات وبإخلاصه لرؤاه ، وتصوراته، وللأدب والفن، وبأحلامه التي حلقت عاليا في سماء الإبداع.
***
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري