المجلس التشريعي الانتقالي: الحاضر الغائب!
د. الواثق كمير
11 December, 2022
11 December, 2022
kameir@yahoo.com
تورونتو، 9 ديسمبر 2022
نصّت الوثيقة الدستورية الانتقالية، المُوقّعة بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيبر في 17 أغسطس 2019، على تشكيل المجلس التشريعي كأحد أهم ركائز هياكل السلطة الانتقالية، وأن يتم ذلك خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة. ومع ذلك، تم تأجيل موعد تكوين المجلس مرة تلو الأخرى، بل أخفقت كل المحاولات في هذا الصدد طوال الفترة الماضية من عمر الانتقال.
كتاب الرأي والتحليل السياسي يعزون الفشل في تشكيل المجلس التشريعي لسببين رئيسين. أولهما: الخلافات التي نشبت بين أطراف قوى الحرية والتغيير الموقعة على الوثيقة الدستورية حول ترشيحات ومحاصاصات عضوية المجلس. وثانيهما: الاعتراضات الصريحة للحركات المسلحة على تسميةِ نواب البرلمان أو تعيين ولاة مدنيين على الولايات، قبل التوصل لاتفاقية سلام، دفعت باتجاه الإعلان عن تأجيل هاتين الخطوتين. ومع ذلك، للمفارقة، تم التوقيع على اتفاقية جوبا لسلام السودان في 3 أكتوبر 2020، وايضا لم يتم تكوين المجلس. بل، وبعد مرور 9 أشهر من توقيع اتفاق السلام، دعا رئيس الوزراء المستقيل، د. عبد الله حمدوك، إلى أن *"تلتزم جميع الأطراف بتكوين المجلس التشريعي في مدة أقصاها شهر من الآن وبمشاركة جميع الأطراف باستثناء المؤتمر الوطني ومن أجرم وأفسد في حق البلاد"*، في "المبادرة الوطنية وقضايا الانتقال: الطريق إلى الأمام"، في 21 يونيو 2021. لم تجد دعوته أي استجابة حتى وقع انقلاب *فض الشراكة*، الذي اسدل الستار على المرحلة الأولى من عمر الانتقال، دون أن يرى المجلس التشريعي النور.
خلال سيرورة صنع وفض ورفض الشراكة، وتجاوزا لهذه الشراكة، بحسب فهم قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، ومعها قوى سياسية ومجتمعية أخري، تم التوصل إلى اتفاق إطاري مع القائد العام للجيش، وقائد قوات الدعم السريع، في 5 ديسمبر الجاري. اتفق الطرفان على تشكيل *المجلس التشريعي الانتقالي القومي*، الذي "يحدد الدستور مهامه وعدد مقاعده ونسب ومعايير الاختيار. ويتم تكوينه بواسطة القوى الموقعة على الإعلان السياسي (يقرأ الاتفاق الإطاري). وهذا بالطبع، يشمل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بحكم توقيع قيادتيهما على الاتفاق. ربما أنه، بحكم طبيعته الإطارية، نأى الاتفاق الإطاري عن التفاصيل التي أفردت لها الوثيقة الدستورية الانتقالية، 2019، الفصل السابع حول: تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وتحديد سلطاته واختصاصته ومدته ، وطبيعة عضويته والقوى المشاركة فيه، وتاريخ مباشرة أعماله خلال تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة.
الإتفاق الاطاري: ما هي السلطة التأسيسة؟
بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية، أصدر المجلس العسكرى الانتقالى، في 20 أغسطس 2019، مرسوماً دستورياً بتشكيل المجلس السيادى فى البلاد، برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة. فإن كان قد تم التوافق على تكوين المجلس التشريعي، لصدر قرار اعتماده من رئيس مجلس السيادة الذي تأسس بموجب المرسوم الدستوري الصادر من المجلس العسكري الانتقالي.
أما الآن، فبعد أن يتحول الاتفاق الإطاري إلى اتفاق نهائي بين الأطراف الموقعة عليه، ويُترجم في وثيقة دستورية جديدة، ما هي الجهة التي ستقوم بتعيين مجلس السيادة، بمعنى إلى من تؤول *السلطة التأسيسية؟* هل سيكون القائد العام للقوات المسلحة، بوصفهِ يُمثلُ سلطة "الأمر الواقع"، هو من يقوم بذلك، مما قد يخلِقُ نزاعاً جديداً وشيكاً بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية، يستدعي ابتداع شكلٍ جديد من التنسيق بينهما (خاصةً إذا تم إنشاء "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" وفقاً لقانون القوات المسلحة)؟ ثُمّ، ألن يطعن تعيين القائد العام للقوات المسلحة لمجلس السيادة في مصداقيةِ القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري تجاه تبشيرهم بسلطةٍ مدنيةٍ خالصةٍ، بدلاً عن الإقرارِ الصريحِ بضرورةِ دورٍ ما للمؤسسة العسكرية خلال المرحلة الانتقالية؟
في ظل هذا الوضع الجديد، إن كان حقاً قد تجاوز صيغة *الشراكة*، ففي رأيي أنّ الإجابةَ على مثلِ هذه الأسئلة تظلُ مرهونةً بالنتائجِ النهائيةِ لماراثونِ البحث عن أكبرِ قدرٍ من التوافقِ على الاتفاقِ السياسي *النهائى*.
المجلس التشريعي: الأولوية في تكوين هياكل الانتقال!
وعلى أية حالٍ، فبعد تجربة الفشل في إنشاء المجلس التشريعي خلال المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، ولمحاولة مواجهة الأزمة السياسية الراهنة، فقد أزف الوقت بأن يكونِ تشكيل المجلس التشريعي هو الخطوة الأولى في تأسيس هياكل السلطة الانتقالية. ينبغي أن تشرع القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري فوراً (إن لم تكُن قد شرعت) في إعدادِ قوائمِ ترشيحات العضوية، وفق جدولٍ زمني محدد، وميقاتٍ مضروبٍ، وأن تكون حاضرةً قبل التوقيعِ على الاتفاقِ النهائي والوثيقة الدستورية. وربما الأهم، أن تتم دعوة المجلس التشريعي للإنعقاد الأول لترشيح رئيس الوزراء، ومن بعدِ اعتماده يقدم رئيس الوزراء حكومتة وفقا للمعايير المتفق عليها.
وللمفارقة، تنص الوثيقة الدستورية الانتقالية أنه *"في حالة سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء على المجلس التشريعي الانتقالي تسمية رئيس مجلس الوزراء ويعتمده مجلس السيادة"*، بينما قوى الحرية والتغيير، الشريك في الحكم، هي من قام بترشيحه لهذا المنصب. إن الأسلم والصحيح أن يُسمي المجلس التشريعي رئيس الوزراء ويسحب منه الثقة، على حد سواء. ومع ذلك، ففي تقديري أنّ مُعظم القوى السياسية ترى أنّ تعقيدات الواقع السياسي الراهن تستدعي وقتاً طويلاً لتشكيل المجلس (بل من الارجح أن لا يتكونّ أصلاً)، مما يحتم تعيين رئيس الوزراء أولاً والذي لن تبدأ الفترة الانتقالية دون تعيينه، بحسب أحكام الاتفاق الإطاري.
لا شكّ، أنه ربما يكون أمرُ تكوين المجلس النشريعي مُحاطاً بنوعٍ من الغموضِ، ومواجَهاً ببعض التحفاظات في أروقةِ المباحثات بين الأطرافِ الموقعةِ على الاتفاق الإطاري. فيبدو أنّ المكون العسكري "بشقيه" على قناعةٍ بأن المجلس التشريعي ليس من ضروريات الوضع الانتقالي. وهذا، ربما يُفسِّر النص الوارد في الاتفاق الإطاري أن المجلسرالتشريعي سيكون "محدود العدد"، وهو نصٌ مُستمدٌ من مسودة الدستور الانتقالي (تيسيرية المحامين)، المادة 38 (1). سؤالٌ هامٌ في هذا السياق يطِلُ برأسهِ، إن تعطلّ تشكيل المجلس التشريعي مرة أخرى، فهل تؤول سلطات المجلس، لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء يمارسونها في اجتماع مشترك، كما كان الحال عليه خِلال ما مضى من عُمرِ الانتقال؟ علِمت من مصادرٍ فوق الشبهات أنّ الأمرّ سيكون كذلك أيضاً في المرحلةِ القادِمةِ، مما ينمُ عن اِستِرخاء وغياب للرغبةِ والإرادة الحقيقية في تشكيل المجلس التشريعي. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ تصور بعض القوى السياسية وأطراف عملية السلام للمجلس التشريعي لا يتعدى كونه مجرد مِساحة تتيحُ فرصةً لصُنعِ مواقعٍ لتسكين قياداتها. وفوق ذلك كله، فإنّ عدم وجود مجلس تشريعي خلال الحالات السابقة للانتقال لا تُحفزُ كل الأطراف لإدراك أهمية المجلس أو التمسُكٍ بتكوينه.
إنّ المجلس التشريعي هو المِنبر الصحيح لمشاركة القوى السياسية والمجتمعية ولجان المقاومة الداعمة للانتقال السلمي، إضافة إلى القوى التي لم توقع على الاتفاق الإطاري أو الإعلان السياسي (ما عدا المؤتمر الوطني). ويوفرُّ المجلس ساحة ومساحة للتشريعات والقوانين التأسيسيةالتي تحكم الفترة الانتقالية، التي أضرّ افتقادها بمسارِ تنفيذ أهداف الانتقال، وذلك بالطبع إضافةً إلى دورِ المجلس في أحكامِ الرقابة على الجهاز التنفيذي. وبذلك، يجب أن تكون أولوية الأحزاب والتنظيمات السياسية هي الإتجاه نحو العمل التنظيمي ومخاطبة جماهيرها وتنظيم كياناتها السياسية، وهياكلها التنظيمية، بغرض الإعداد والإستعداد لإنتخابات حرة ونزيهة. إنَّ المجلس التشريعي يكبحُ جَماح تغول التنظيمات السياسية على الجهازِ التنفيذي (أحد مُهددات الحكومة)، بينما يوفر للقوى السياسية فرصةَ انتقاد الحكومة، ومحاسبتها، وحتى حق تغييرها، بطريقة "دستورية"، بدلاً عن استخدام منصات الإعلام. وغنيٌ عن القول أن رئيس الوزراء القادم نفسه لا يستطيع أن يقود العمل التنفيذي بكفاءة وشفافية، والخضوع للمحاسبة، في غياب المجلس التشريعي.
وربما الأهم، يكفِلُ المجلس التشريعي الخروج من مأزق "الحاضنة السياسية" التي كبلت وأعاقت ممارسة رئيس الوزراء الانتقالي المستقيل لمهامه وانفاذ القرارت، حتى تلك الصادرة من مجلس الوزراء نفسه. كما يُحقق تشكيل المجلس، الذي يعكس التنوع السياسي والمجتمعي والجهوي والجيِلي، استقرار المرحلة الجديدة من الفترة الانتقالية، بما يضمنُ تعزيز إنفاذ التشريعات الصادرة، خاصة قانون الانتخابات والإجراءات المتعلقة بقيامها حتى تلقى نتائجها أكبر قدر من الاعتراف والرضاء والقبول.
خاتمة:
بعد تجربةِ الاخفاقِ في تكوين المجلس التشريعي خلال عامين من عُمرِ الانتقال، هل قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي وقوى الانتقال، الموقعة على الاتفاقِ الإطاري، جاهزة وعلى استعدادٍ لإنجازِ هذه المُهمة في المرحلةِ القادِمة؟ هل تحول الخلافات الداخلية لقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، أو بينها وبين حركات الكفاح المسلح وبقية القوى، والموقف المُتحفظ لِشقَّي المكون العسكري، دون تشكيل المجلس التشريعي؟
خلاصة الأمر، هل سيظل المجلس التشريعي حاضراً في الوثيقةِ الدستوريةِ وغائباً في الحقيقةِ المرئيةِ؟
تورونتو، 9 ديسمبر 2022
نصّت الوثيقة الدستورية الانتقالية، المُوقّعة بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيبر في 17 أغسطس 2019، على تشكيل المجلس التشريعي كأحد أهم ركائز هياكل السلطة الانتقالية، وأن يتم ذلك خلال فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر من تشكيل الحكومة. ومع ذلك، تم تأجيل موعد تكوين المجلس مرة تلو الأخرى، بل أخفقت كل المحاولات في هذا الصدد طوال الفترة الماضية من عمر الانتقال.
كتاب الرأي والتحليل السياسي يعزون الفشل في تشكيل المجلس التشريعي لسببين رئيسين. أولهما: الخلافات التي نشبت بين أطراف قوى الحرية والتغيير الموقعة على الوثيقة الدستورية حول ترشيحات ومحاصاصات عضوية المجلس. وثانيهما: الاعتراضات الصريحة للحركات المسلحة على تسميةِ نواب البرلمان أو تعيين ولاة مدنيين على الولايات، قبل التوصل لاتفاقية سلام، دفعت باتجاه الإعلان عن تأجيل هاتين الخطوتين. ومع ذلك، للمفارقة، تم التوقيع على اتفاقية جوبا لسلام السودان في 3 أكتوبر 2020، وايضا لم يتم تكوين المجلس. بل، وبعد مرور 9 أشهر من توقيع اتفاق السلام، دعا رئيس الوزراء المستقيل، د. عبد الله حمدوك، إلى أن *"تلتزم جميع الأطراف بتكوين المجلس التشريعي في مدة أقصاها شهر من الآن وبمشاركة جميع الأطراف باستثناء المؤتمر الوطني ومن أجرم وأفسد في حق البلاد"*، في "المبادرة الوطنية وقضايا الانتقال: الطريق إلى الأمام"، في 21 يونيو 2021. لم تجد دعوته أي استجابة حتى وقع انقلاب *فض الشراكة*، الذي اسدل الستار على المرحلة الأولى من عمر الانتقال، دون أن يرى المجلس التشريعي النور.
خلال سيرورة صنع وفض ورفض الشراكة، وتجاوزا لهذه الشراكة، بحسب فهم قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، ومعها قوى سياسية ومجتمعية أخري، تم التوصل إلى اتفاق إطاري مع القائد العام للجيش، وقائد قوات الدعم السريع، في 5 ديسمبر الجاري. اتفق الطرفان على تشكيل *المجلس التشريعي الانتقالي القومي*، الذي "يحدد الدستور مهامه وعدد مقاعده ونسب ومعايير الاختيار. ويتم تكوينه بواسطة القوى الموقعة على الإعلان السياسي (يقرأ الاتفاق الإطاري). وهذا بالطبع، يشمل القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، بحكم توقيع قيادتيهما على الاتفاق. ربما أنه، بحكم طبيعته الإطارية، نأى الاتفاق الإطاري عن التفاصيل التي أفردت لها الوثيقة الدستورية الانتقالية، 2019، الفصل السابع حول: تكوين المجلس التشريعي الانتقالي، وتحديد سلطاته واختصاصته ومدته ، وطبيعة عضويته والقوى المشاركة فيه، وتاريخ مباشرة أعماله خلال تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة.
الإتفاق الاطاري: ما هي السلطة التأسيسة؟
بعد التوقيع على الوثيقة الدستورية، أصدر المجلس العسكرى الانتقالى، في 20 أغسطس 2019، مرسوماً دستورياً بتشكيل المجلس السيادى فى البلاد، برئاسة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، القائد العام للقوات المسلحة. فإن كان قد تم التوافق على تكوين المجلس التشريعي، لصدر قرار اعتماده من رئيس مجلس السيادة الذي تأسس بموجب المرسوم الدستوري الصادر من المجلس العسكري الانتقالي.
أما الآن، فبعد أن يتحول الاتفاق الإطاري إلى اتفاق نهائي بين الأطراف الموقعة عليه، ويُترجم في وثيقة دستورية جديدة، ما هي الجهة التي ستقوم بتعيين مجلس السيادة، بمعنى إلى من تؤول *السلطة التأسيسية؟* هل سيكون القائد العام للقوات المسلحة، بوصفهِ يُمثلُ سلطة "الأمر الواقع"، هو من يقوم بذلك، مما قد يخلِقُ نزاعاً جديداً وشيكاً بين القوى المدنية والمؤسسة العسكرية، يستدعي ابتداع شكلٍ جديد من التنسيق بينهما (خاصةً إذا تم إنشاء "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" وفقاً لقانون القوات المسلحة)؟ ثُمّ، ألن يطعن تعيين القائد العام للقوات المسلحة لمجلس السيادة في مصداقيةِ القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري تجاه تبشيرهم بسلطةٍ مدنيةٍ خالصةٍ، بدلاً عن الإقرارِ الصريحِ بضرورةِ دورٍ ما للمؤسسة العسكرية خلال المرحلة الانتقالية؟
في ظل هذا الوضع الجديد، إن كان حقاً قد تجاوز صيغة *الشراكة*، ففي رأيي أنّ الإجابةَ على مثلِ هذه الأسئلة تظلُ مرهونةً بالنتائجِ النهائيةِ لماراثونِ البحث عن أكبرِ قدرٍ من التوافقِ على الاتفاقِ السياسي *النهائى*.
المجلس التشريعي: الأولوية في تكوين هياكل الانتقال!
وعلى أية حالٍ، فبعد تجربة الفشل في إنشاء المجلس التشريعي خلال المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، ولمحاولة مواجهة الأزمة السياسية الراهنة، فقد أزف الوقت بأن يكونِ تشكيل المجلس التشريعي هو الخطوة الأولى في تأسيس هياكل السلطة الانتقالية. ينبغي أن تشرع القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري فوراً (إن لم تكُن قد شرعت) في إعدادِ قوائمِ ترشيحات العضوية، وفق جدولٍ زمني محدد، وميقاتٍ مضروبٍ، وأن تكون حاضرةً قبل التوقيعِ على الاتفاقِ النهائي والوثيقة الدستورية. وربما الأهم، أن تتم دعوة المجلس التشريعي للإنعقاد الأول لترشيح رئيس الوزراء، ومن بعدِ اعتماده يقدم رئيس الوزراء حكومتة وفقا للمعايير المتفق عليها.
وللمفارقة، تنص الوثيقة الدستورية الانتقالية أنه *"في حالة سحب الثقة من رئيس مجلس الوزراء على المجلس التشريعي الانتقالي تسمية رئيس مجلس الوزراء ويعتمده مجلس السيادة"*، بينما قوى الحرية والتغيير، الشريك في الحكم، هي من قام بترشيحه لهذا المنصب. إن الأسلم والصحيح أن يُسمي المجلس التشريعي رئيس الوزراء ويسحب منه الثقة، على حد سواء. ومع ذلك، ففي تقديري أنّ مُعظم القوى السياسية ترى أنّ تعقيدات الواقع السياسي الراهن تستدعي وقتاً طويلاً لتشكيل المجلس (بل من الارجح أن لا يتكونّ أصلاً)، مما يحتم تعيين رئيس الوزراء أولاً والذي لن تبدأ الفترة الانتقالية دون تعيينه، بحسب أحكام الاتفاق الإطاري.
لا شكّ، أنه ربما يكون أمرُ تكوين المجلس النشريعي مُحاطاً بنوعٍ من الغموضِ، ومواجَهاً ببعض التحفاظات في أروقةِ المباحثات بين الأطرافِ الموقعةِ على الاتفاق الإطاري. فيبدو أنّ المكون العسكري "بشقيه" على قناعةٍ بأن المجلس التشريعي ليس من ضروريات الوضع الانتقالي. وهذا، ربما يُفسِّر النص الوارد في الاتفاق الإطاري أن المجلسرالتشريعي سيكون "محدود العدد"، وهو نصٌ مُستمدٌ من مسودة الدستور الانتقالي (تيسيرية المحامين)، المادة 38 (1). سؤالٌ هامٌ في هذا السياق يطِلُ برأسهِ، إن تعطلّ تشكيل المجلس التشريعي مرة أخرى، فهل تؤول سلطات المجلس، لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء يمارسونها في اجتماع مشترك، كما كان الحال عليه خِلال ما مضى من عُمرِ الانتقال؟ علِمت من مصادرٍ فوق الشبهات أنّ الأمرّ سيكون كذلك أيضاً في المرحلةِ القادِمةِ، مما ينمُ عن اِستِرخاء وغياب للرغبةِ والإرادة الحقيقية في تشكيل المجلس التشريعي. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ تصور بعض القوى السياسية وأطراف عملية السلام للمجلس التشريعي لا يتعدى كونه مجرد مِساحة تتيحُ فرصةً لصُنعِ مواقعٍ لتسكين قياداتها. وفوق ذلك كله، فإنّ عدم وجود مجلس تشريعي خلال الحالات السابقة للانتقال لا تُحفزُ كل الأطراف لإدراك أهمية المجلس أو التمسُكٍ بتكوينه.
إنّ المجلس التشريعي هو المِنبر الصحيح لمشاركة القوى السياسية والمجتمعية ولجان المقاومة الداعمة للانتقال السلمي، إضافة إلى القوى التي لم توقع على الاتفاق الإطاري أو الإعلان السياسي (ما عدا المؤتمر الوطني). ويوفرُّ المجلس ساحة ومساحة للتشريعات والقوانين التأسيسيةالتي تحكم الفترة الانتقالية، التي أضرّ افتقادها بمسارِ تنفيذ أهداف الانتقال، وذلك بالطبع إضافةً إلى دورِ المجلس في أحكامِ الرقابة على الجهاز التنفيذي. وبذلك، يجب أن تكون أولوية الأحزاب والتنظيمات السياسية هي الإتجاه نحو العمل التنظيمي ومخاطبة جماهيرها وتنظيم كياناتها السياسية، وهياكلها التنظيمية، بغرض الإعداد والإستعداد لإنتخابات حرة ونزيهة. إنَّ المجلس التشريعي يكبحُ جَماح تغول التنظيمات السياسية على الجهازِ التنفيذي (أحد مُهددات الحكومة)، بينما يوفر للقوى السياسية فرصةَ انتقاد الحكومة، ومحاسبتها، وحتى حق تغييرها، بطريقة "دستورية"، بدلاً عن استخدام منصات الإعلام. وغنيٌ عن القول أن رئيس الوزراء القادم نفسه لا يستطيع أن يقود العمل التنفيذي بكفاءة وشفافية، والخضوع للمحاسبة، في غياب المجلس التشريعي.
وربما الأهم، يكفِلُ المجلس التشريعي الخروج من مأزق "الحاضنة السياسية" التي كبلت وأعاقت ممارسة رئيس الوزراء الانتقالي المستقيل لمهامه وانفاذ القرارت، حتى تلك الصادرة من مجلس الوزراء نفسه. كما يُحقق تشكيل المجلس، الذي يعكس التنوع السياسي والمجتمعي والجهوي والجيِلي، استقرار المرحلة الجديدة من الفترة الانتقالية، بما يضمنُ تعزيز إنفاذ التشريعات الصادرة، خاصة قانون الانتخابات والإجراءات المتعلقة بقيامها حتى تلقى نتائجها أكبر قدر من الاعتراف والرضاء والقبول.
خاتمة:
بعد تجربةِ الاخفاقِ في تكوين المجلس التشريعي خلال عامين من عُمرِ الانتقال، هل قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي وقوى الانتقال، الموقعة على الاتفاقِ الإطاري، جاهزة وعلى استعدادٍ لإنجازِ هذه المُهمة في المرحلةِ القادِمة؟ هل تحول الخلافات الداخلية لقوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، أو بينها وبين حركات الكفاح المسلح وبقية القوى، والموقف المُتحفظ لِشقَّي المكون العسكري، دون تشكيل المجلس التشريعي؟
خلاصة الأمر، هل سيظل المجلس التشريعي حاضراً في الوثيقةِ الدستوريةِ وغائباً في الحقيقةِ المرئيةِ؟