مشيناها خطـى… في زمهرير ميتشجان!
د. عثمان أبوزيد
26 December, 2022
26 December, 2022
كان أول دفعته عندما كنت أتولى التدريس في الجامعة. توسمت فيه أن يكون عضوا في هيئة التدريس بعد التخرج، بما عهدت فيه من صبرواتزان وشغف بالاطلاع والمعرفة.
ظل تلميذي النجيب بعد مغادرة الجامعة يتردد على مكتبي، لكنه انقطع عني سنوات، لتفاجئني رسالة منه على بريدي الإلكتروني. رسالة جديرة بالقراءة لما فيها من فائدة وعبرة، وقد استأذنت تلميذي لنشرها تعميماً للفائدة، دون أن أغير في محتواها شيئا سوى استبعاد بعض الأسماء وعبارات الثناء التي دلت على وفاء تلميذ لأستاذ، والوفاء بضاعة نادرة في زمان الناس هذا.
تقول الرسالة:
أنا أحد تلاميذكم في الجامعة، اسمي (...) أعرف أن وقتاً طويلاً قد مضى منذ أن كنت طالبة، لكن تجدني أبدا مدينًا لكم بجعل شعلة الأمل متقدة فيّ (جواي)، فمن معروفكم عليّ أن قمت بتزكيتي مرات عديدة دونما ضجر، مرة للدراسات العليا بالجامعة، وثانية للعمل مساعد تدريس بكلية الإعلام بعد أن حصلت على تقدير من المفترض أنه مؤهل لتلك الوظيفة...
لقد ارتبطت كل محاولاتي للالتحاق بعمل عقب تخرجي بشخصكم الكريم. لقد رأيتم في شخصي ما غمَّ على كل المخدمين الذين وقفت بأبوابهم طالبا عملا. وفي ذاكرتي مظروف إلى (...) حيث تم إنشاء كلية للإعلام يحوي خطابا بإيجاد وظيفة لي في الكلية الوليدة لم يصل رده حتى الآن. وغيره الكثير لا يزال في ذاكرتي بتفاصيلها الدقيقة.
وفي مرات عديدة كنت ترفق تلك المظاريف بجنيهات لتسهل علي مهمة الوصول إلى مبتغاي، فقد كنت أنا في ذلك الحين (وما زلت) قيد ذراع من المسغبة.
لكم أكبرت فيكم يدكم التي امتدت إلي في وقت حاجة، ولعمري ستلازمني ذكرى تلك الأيادي ممدودة بالمساعدة إلى قبري، فأنا قروي أقدر العرفان وأحفظ الجميل.
لكن ما تجذر في ذاكرتي هو العنوان الذي قدمته إليَّ في وريقة (6 شارع الصحافة القاهرة مؤسسة أخبار اليوم)، وطلبت مني الكتابة للأستاذ مصطفى أمين لأسأل عن حقي في جائزته عن أوائل كليات الصحافة في العالم العربي. لقد غيرت وريقتكم تلك مسار حياتي تماما... ولسبب ما كانت الكلية واتحاد الطلاب قد تقاعسا عن تقديم أية مساعدة للسفر إلى القاهرة، وكادت فرصتي أن تضيع. وفي يوم من الأيام حكيت لكم عن ما حدث فأخرجت تلك الوريقة من درج مكتبكم بعمادة الطلاب بجامعة النيلين، وكتبت لي العنوان وقمت أنا في نفس اليوم بتدبيج خطاب للسيد أمين وذهبت إلى المطار وسلمته إلى مسافر طالباً منه أن يودعه أول صندوق بريد خارج السودان (علمت مؤخراً من أحد المديرين أن الشخص قام بتسليم الخطاب باليد بعد أن فشل في مقابلة مصطفى أمين شخصياً)، وما هي إلا أيام معدودة حتى وصلني الرد على صندوق بريد أحد أقربائي لكن لم تشفع رسالته لي ببرنامجها المفصل في وزارة الخارجية.
وكالعادة يممت وجهي شطر مكتبكم بالكلية حيث لم تكن أنت موجودا.
ترددت على مكتبكم خلف السفارة الأمريكية مرات عديدة، لكنك كنت قد انتقلت إلى وظيفة أخرى، ومن هنا انقطع تواصلي بشخصكم حتى اليوم الذي أتاحت لي فيه الظروف أن أمر على مقالكم المنشور بصحيفة إليكترونية. ومن عاداتي أن أقرأ كل ما يعتبر إضافة لي. كنت في مرات كثيرة أذهب إلى ماكينة البحث (قوقل) لعلي أجد سبيلاً إليكم لكن اسمكم لم يظهر لي إلا مرة واحدة... كان قصدي هو أن أقرئكم السلام وأسأل عن أحوالكم وأسرتكم وها أنت تفتح عليَّ فيضاناً من الذكريات والأفكار. شيئان دفعاني إلى الحصول على بريدكم الإليكتروني أولهما أنني ومنذ أن كنت يافعا، بقيت قارئاً نهماً لكل ما يكتب، سودانياً أولا ًوعربياً وعالمياً ثانياً. وإن كان ثمة فائدة من وجودي خارج السودان فهي أنني تمكنت من قراءة الكثير عربياً وعالمياً، إلا أنه من الناحية الأخرى قللت مواكبتي لما يكتب سودانياً إلى حد ما إلا ما يجد طريقه إلى الشبكة العنكبوتية، ولما كان (السايبر) مليئاً بكل من هبّ ودبّ كان عليّ أن أمارس الاختيار فأنا أقرأ كل ما يكتب سودانياً من البداية، ثم أقرر إن كنت مواصلاً قراءة المادة حتى النهاية أم لا، وإذا قررت قراءة المادة حتى نهايتها بمعيار أنها ستضيف لي جديدا بعد ذلك أذهب لأرى من كتب المادة لتحري المصداقية ما دام أنها سوف تضيف جديدا لمخزوني المعرفي. ومن تلك المقالات التي قرأتها حتى النهاية كان مقال لشخصكم عن مفارقات في اهتمامات الأجهزة الإعلامية هذه الأيام، فبينما تهتم بسفاسف الأمور، تتسرب أحداث جسام وشخصيات مهمة أجدر بالوقوف عندها، وكان هذا هو المكان الوحيد الذي وجدت فيه عنوانا لكم منذ أن فارقت السودان. وقد كان مقالكم موجها إلى قطاع المثقفين والكتاب بصورة عامة وإلى المتحكمين في الآلة الإعلامية بصورة خاصة. وبالنسبة إلى قارئ مثلي كان المقال مصيبا لهدفه ومما فيه نفع.
لقد كان اللظى المتساقط من بنايتي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر ۲۰۰۱ يرسم وجها جديدا للعالم. كان اهتمامي هو كيف سيغير ذلك الحدث وضع المسلمين والعرب في أمريكا والغرب، فتابعت عن كثب كل الأخبار الأمريكية ذات العلاقة، كما تابعت كل ما كتب عربيا عن الموضوع. وكنت مؤخرا قد قرأت عنكم خبرا عن دراسة كتبتموها مع الدكتور محمد وقيع الله عن الوجود الإسلامي في أمريكا، رغم أنني لم أقرأ الدراسة، لكن من الخبر أحمد لها شيئا مهما ومتفردا هو أنها المرة الأولى التي يشار فيها إلى الوجود العريض لمسلمي غرب إفريقيا، فهناك خلط واضح حتى الآن بين الإسلام والعرب. وجدت ذلكم الخبر لكنه لم يكن يحمل لكم عنواناً. وبالمناسبة قرأت مقالكم عن مالك بن نبي ومذكراته (العفن).
وتسألني هل تجد مغزى لنشر قصتك هذه حتى يستفيد منها الآخرون وهل تمانع من إشارة إليها فيما تكتب، دون إشارة للأسماء؟
أكتب أستاذي فأنا لا أخجل من تجربتي، وقد لا أستطيع أن أحيط بها جميعًا، خاصة صنوف المعاناة والعذاب التي مررت بها في مصر، فأنا أغض طرفاً عن عملي صبي بيَّاع عند أجلاف تجار العتبة والموسكي، ولن أحدثكم عن عملي موظفاً للاستقبال في مستشفى خاص للولادة في ضاحية دار السلام بين عزبة خير الله وحي المعادي، ولا عن عملي حمالاً بمكتبة محمد زغلول بأرض الجولف حيث كان كل حلمي آنئذ أن (يروق الأكل في بطني ولو لمرة واحدة) قبل أن ينبهني زغلول أن عربة توقفت وصاحبها على عجل من أمره. كما أني تناسيت عمداً أن أشير لكم عن الأميال التي قطعتها ماشياً في زمهرير ميتشيجان.
رغم كل ذلك أستاذي تجدني حامداً شاكراً ومتسامحاً أفرح كما الأطفال لأصغر الأشياء وأعفو بقلب صافٍ ونية صادقة عن كل من تسبب في أذيّتي، ففي النهاية أنا قروي يصعب اقتلاع القرية من دواخلي بتسامحها وتعاضدها وفرحها.
وتسألني عمَّاذا أفعل الآن. تكاد تكون حياتي حتى الآن مشابهة للفترة التي حدثتكم عنها في أول رسالتي بتغييرات طفيفة.
وأبدأ لكم رحلتي من آخر محاولاتي قبل أن أسافر من السودان... لكن قبل ذلك دعني أؤكد لكم شيئاً واحداً هو أن هناك الكثير ممن اتصفوا بالوطنية والعمل على رفعة البلد، لكني شخصياً أحببت السودان بشكل غريب لا يدانيه إلا حبي لوالديّ (أمد الله في أيامهما) وكم تمنيت أن أجد فرصة للعمل مع غيري لبناء إنسانه وإعداد أجياله لمستقبل محفوف بالمنافسة والأخطار.
حملت آخر الخطابات التي كنت كتبتها لي إلى مسؤول في الإذاعة، أذكر جيداً أن مكتبه كان خالياً إلا مني عندما جاء إلى عمله ذلك اليوم، إذ كنت أنا عند بابه باكراً. لقد علمتني رحلتي من أجل الوظيفة أن (ود البدري سمين) قدمت نفسي إليه، وأعطيته الخطاب ووثيقة من شهادة تخرجي. تحدث الرجل معي باستفاضة وتطويل مبالغ فيه (لقد كانت تلك هي أطول زيارة إلى مكان عمل أقوم بها في حياتي)، تحدث عن أهمية الإذاعة ودورها في مجتمع كالسودان، ومن ثم عرج لندب حظ الإذاعة من ميزانية الدولة. وفي تلك اللحظات بالذات كنت أعاين أرتالاً من الموظفين والعمال والفنيين تسعى بين المكاتب والكافتيريا في رحلة الفطور (حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أن إضافتي إلى هذا الجيش لن تعجز الميزانية). رغم تلك المحاضرة الطويلة والمناحة الأطول لم يكلف الرجل نفسه قراءة خطابكم إليه أو حتى إلقاء نظرة على وثيقة التخرج. قررت بعد خروجي من مكتبه أن تكون تلك هي آخر المرات التي أقتطع فيها من وقتكم لمساعدتي، فقد كنت حتى ذلك الخطاب قد كلفتكم الكثير من الوقت والمال. الغريب في الأمر أنه منذ تلك الزيارة وحتى مغادرتي السودان كنت أكتب بصورة منتظمة للقسم الثقافي بالإذاعة (مجاناً).
حقبت حقائبي وخيبتي وتوجهت صوب القرية التي لم تك أرحم من الخرطوم، كما لم تكن هي المرة الأولى التي أخيب فيها ظن أمي وأبي. فعندما كانت أسرتي وكذلك أساتذتي في المرحلة الثانوية يرون أنني مؤهل لأن أكون طبيباً أو مهندساً ناجحاً؛ جذبتني رغبة عارمة إلى مجال الإعلام والتعليم. لقد كنت أرى في شخصي إعلامياً ناجحاً ومعلماً أنجح. لكن ها أنذا بينهم (إيد قدام وإيد ورا) كما كانت حبوبتي بت مصطفى تصف المعدمين من أهل القرية. أتجاذب مع أهلي (أحوال) المشروع الزراعي الذي أوشك أن يصبح أثراً بعد عين وتاريخاً تلوكه (خشوم القاعدين في جبنة عشرة) والمتعطلين في قهاوي القرية التي تزايدت أعدادها بشكل غريب. كان عزائي الوحيد في تلك الفترة هي الأعداد المهولة من المحالين للصالح العام من بقايا الشيوعيين وأبناء الأنصار، لقد حولوا القرية إلى منتدى كبير قل أن تجده من مكان صغير وناءٍ كقريتنا. صورة إخوتي الصغار ومستقبلهم المجهول باتت تقطع في أحشائي كلما نظرت لهم.
حزمت كتبي وبعض ملابسي ويممت وجهي شطر الخرطوم (كرش الفيل) مرة أخرى، بدأت عن طريق واسطة خير (كل شيء يحتاج إلى واسطة)، بدأت عملاً صغيراً كبائع متجول أوزع أمواس الحلاقة في برندات السوق العربي (بالحبة). لكم كان يا أستاذي عملاً شاقاً ممحوق العائد، إلا أن صورة إخوتي الصغار متكومين أمام أمي في انتظار شاي الصباح أبت أن تنفك مني، وقد كان زبائني عربجية السوق وحفنة من مزارعي شرق النيل، فقراء على شفا الإملاق يشتري أحدهم موس حلاقة (فد واحدة) كل شهر في أحسن الأحوال. في تلك الأثناء فتح الله على قريب لي، فاشترى عربة نصف نقل، كان هو سائقاً، وكنت أنا أحصل القروش من الركاب. ولما كانت العربة مكشوفة ومن غير مقاعد كانت فرصتنا الوحيدة لإيجاد زبائن بعد أن تقف الحافلات الأخرى لنقل الركاب قبيل منتصف الليل.
وأخيراً جاء الفرج (أو ما كنت أحسبه كذلك)، وحصلت على تأشيرة للخروج والذهاب إلى القاهرة لحضور احتفال جمعية مصطفى أمين للصحافة (أخيراً اكتشفت أن تأشيرة الخروج بدعة سودانية).
كان مصطفى أمين مهذباً بشكل يختلف عن كل الذين تعاملت معهم قبله وبعده. يكن احتراماً للسودانيين على اختلاف سحناتهم وتوجهاتهم السياسية.
رأيت عامة الشعب فقراء جداً. لشخص مثلي قرأ الكثير عن مصر وحضارتها وتطورها ونموها كانت تلك الصورة مدهشة حقاً (زالت تلك الدهشة عندما زرت أمريكا وقابلت الإملاق وجهاً لوجه)، كان معظم المصريين جهلاء بأبسط الأحداث والتطورات من حولهم إلا فئة محدودة جداً. لكنهم كانوا طيبين، ومن البشاشة بدرجة تجعلك تحس بأنك جزء من نسيجهم.
هيأ لي مصطفى أمين فرصة للتدريب بمؤسسته العريقة. ذهبت أياماً معدودات إلى مكان التدريب، فبانَ لي أن الكثير مما يفرقنا وأشقاءنا في الشمال يذهب إلى الجينات الأولى. كنت في مقتبل عمري المهني أحتاج إلى كل ما هو إيجابي ومفيد يضيف إلى رحلتي المستقبلية، فوجدت العكس تماماً، فتوقفت عن الذهاب ولم أتصل بهم لأنبئهم بقراري، كما لم يتصلوا هم ليسألوا عني.
بعد فترة ليست بالقصيرة تحصلت على عمل في راديو وتليفزيون العرب (إي آر تي). أعطوني مكتبا لأعمل رقيبا على المواد الأجنبية قبل ترجمتها، بأن أعمل مقصي متى ما خالفت المادة تعاليم الدين الحنيف وتقاليد مجتمعاتنا المحافظة والمتمسكة بنهج الرسول عليه الصلاة والسلام (الغريب في الأمر كان رئيسي في العمل ومهندس خط الرقابة مسيحياً)، إلا أن ما تشدَّدت فيه تعاليم الرقابة كان هو عدم الاقتراب من الحكام والملوك والأمراء العرب إلا بالخير. كانت مهمة سهلة بالنسبة للمواد الترفيهية عسيرة في المواد الفكرية والجادة، كان آخرها حوار أداره مذيع قدير أمريكي من أصول لبنانية مع المفكر إدوارد سعيد من كاليفورنيا، لكم كانت الشقة واسعة بيني وبينهما، فلم أستطع أن أعمل مقصي في أي من أجزاء ذلك الحوار الطويل الذي وصف فيه السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بالفساد والفشل، وتنبأ فيه بزوالها بذلك الشكل التقليدي حالما انفتحت أبواب المنافسة الديمقراطية. وكان قد ذكر بالاسم حماس ونظامها وأنها ربما ستكون البديل في ظل منافسة حرة.
تحققت نظرته في أول محاولة انفراج سياسي شهدته فلسطين، ومات هو بعدها بقليل. كم كنت سعيداً بأنني لم أستطع أن أعمل مقصي في تلك المادة.
تركت رسالة للإدارة بأن زمني لم يسمح بمشاهدة المادة وأن ذلك اليوم سيكون آخر أيامي في الشغل.
عملت بعد ذلك صحفيا حرا متخصصا في الشؤون السودانية والإفريقية، كما تجولت بين صحف المعارضة التي كانت تصدر من القاهرة، ولكم كانت فقيرة ومتشابهة. في آخر أيامي في مصر انفتحت لي فرصة للتعاون مع مكتب جريدة الحياة بالقاهرة، لم أتمكن من الاستفادة منها لأنني حصلت على تأشيرة محدودة المدة إلى أمريكا.
لم يكن خيار تركي القاهرة سهلاً، فقد أتاحت لي فرصة للاطلاع والإضافة. لقد قرأت كثيراً، وأضفت إلى مكتبتي العديد من الكتب المهمة، كنت كل مرة أضيف فيها كتاباً أو قراءة إلى مخزوني المعرفي، أفكر في السودان كيف أن المسافة الجغرافية تكاد تكون معدومة بين القاهرة والخرطوم، إلا أن فرق أسعار المواد المكتوبة ووفرتها فرق السماء للأرض.
وصلت إلى بلاد العم سام ونزلت بمدينة ديترويت وفي ذهني الدراسة، والهدف الذي لم أصل إليه حتى الآن لسبب بسيط جداً هو أنني لم أتمكن من استخراج شهادتي من الجامعة، أليس من المفارقة أن أفشل في إثبات أنني بالفعل درست مرحلة البكالوريوس كاملة؟
لقد أضافت هجرتي المزيد من المسؤوليات، إذ ظن أهلي أنني مثل مغتربي الخليج والسعودية أنعم بالمال الوفير والعيش الرغيد. قضيت مدة قاربت العقد من العمر المحدود تتقاذفني مصانع السيارات الأمريكية بديترويت، يسرحني مصنع ليفتح آخر أبوابه مستقبلاً. ومع كل سيارة تخرج من خط الإنتاج يتساقط حلم المربي والمثقف داخلي، لكني مسكت قوياً في أمل أن أدرس (لي قدام). وتلوح لي أخيراً فرصة الدراسة والتدريب في مجال البحث وتحليل مضمون أجهزة الإعلام العربية والترجمة، فقد وجدت منحة في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة لترفيع لغتي الإنجليزية إلى درجة محترف، واجتزت هذه المرحلة في أول سابقة بأن يمر ممتحن في امتحان القدرات المتقدم من خارج المؤسسات التعليمية، حيث أنني أتيت إلى مقاعد الكلية مباشرة من المصنع.
أتاح لي وضعي الجديد العمل مدرساً لبعض طلاب الجامعة وقليل من المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، أدرسهم بدايات اللغة العربية وبعضاً من الثقافة الإسلامية والشرق أوسطية، وأقضي ليلتي مفتح العينين خفيراً على بناية سكنية يغط ملاكها في سبات بينما أسهر أنا على ممتلكاتهم أهشُّ عنها السابلة وقطاع الطريق... لكم كانت الرأسمالية (بشقيها المؤمن والكافر) قاسية علي.
نسيت أن أقول لكم أنني تزوجت من بنت من مدينة نيامي النيجر (تشيلك في صفحتا) كما وصفتها عمتي (بت عثمان).
هذه هي قصتي مذ فارقتكم يا أستاذي إلى الآن. ربما أكون قد أطلت عليك، وقد يجد شباب الخريجين من قصتي عبرة وفكرة يستفيدون منها.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
osman.abuzaid@gmail.com
ظل تلميذي النجيب بعد مغادرة الجامعة يتردد على مكتبي، لكنه انقطع عني سنوات، لتفاجئني رسالة منه على بريدي الإلكتروني. رسالة جديرة بالقراءة لما فيها من فائدة وعبرة، وقد استأذنت تلميذي لنشرها تعميماً للفائدة، دون أن أغير في محتواها شيئا سوى استبعاد بعض الأسماء وعبارات الثناء التي دلت على وفاء تلميذ لأستاذ، والوفاء بضاعة نادرة في زمان الناس هذا.
تقول الرسالة:
أنا أحد تلاميذكم في الجامعة، اسمي (...) أعرف أن وقتاً طويلاً قد مضى منذ أن كنت طالبة، لكن تجدني أبدا مدينًا لكم بجعل شعلة الأمل متقدة فيّ (جواي)، فمن معروفكم عليّ أن قمت بتزكيتي مرات عديدة دونما ضجر، مرة للدراسات العليا بالجامعة، وثانية للعمل مساعد تدريس بكلية الإعلام بعد أن حصلت على تقدير من المفترض أنه مؤهل لتلك الوظيفة...
لقد ارتبطت كل محاولاتي للالتحاق بعمل عقب تخرجي بشخصكم الكريم. لقد رأيتم في شخصي ما غمَّ على كل المخدمين الذين وقفت بأبوابهم طالبا عملا. وفي ذاكرتي مظروف إلى (...) حيث تم إنشاء كلية للإعلام يحوي خطابا بإيجاد وظيفة لي في الكلية الوليدة لم يصل رده حتى الآن. وغيره الكثير لا يزال في ذاكرتي بتفاصيلها الدقيقة.
وفي مرات عديدة كنت ترفق تلك المظاريف بجنيهات لتسهل علي مهمة الوصول إلى مبتغاي، فقد كنت أنا في ذلك الحين (وما زلت) قيد ذراع من المسغبة.
لكم أكبرت فيكم يدكم التي امتدت إلي في وقت حاجة، ولعمري ستلازمني ذكرى تلك الأيادي ممدودة بالمساعدة إلى قبري، فأنا قروي أقدر العرفان وأحفظ الجميل.
لكن ما تجذر في ذاكرتي هو العنوان الذي قدمته إليَّ في وريقة (6 شارع الصحافة القاهرة مؤسسة أخبار اليوم)، وطلبت مني الكتابة للأستاذ مصطفى أمين لأسأل عن حقي في جائزته عن أوائل كليات الصحافة في العالم العربي. لقد غيرت وريقتكم تلك مسار حياتي تماما... ولسبب ما كانت الكلية واتحاد الطلاب قد تقاعسا عن تقديم أية مساعدة للسفر إلى القاهرة، وكادت فرصتي أن تضيع. وفي يوم من الأيام حكيت لكم عن ما حدث فأخرجت تلك الوريقة من درج مكتبكم بعمادة الطلاب بجامعة النيلين، وكتبت لي العنوان وقمت أنا في نفس اليوم بتدبيج خطاب للسيد أمين وذهبت إلى المطار وسلمته إلى مسافر طالباً منه أن يودعه أول صندوق بريد خارج السودان (علمت مؤخراً من أحد المديرين أن الشخص قام بتسليم الخطاب باليد بعد أن فشل في مقابلة مصطفى أمين شخصياً)، وما هي إلا أيام معدودة حتى وصلني الرد على صندوق بريد أحد أقربائي لكن لم تشفع رسالته لي ببرنامجها المفصل في وزارة الخارجية.
وكالعادة يممت وجهي شطر مكتبكم بالكلية حيث لم تكن أنت موجودا.
ترددت على مكتبكم خلف السفارة الأمريكية مرات عديدة، لكنك كنت قد انتقلت إلى وظيفة أخرى، ومن هنا انقطع تواصلي بشخصكم حتى اليوم الذي أتاحت لي فيه الظروف أن أمر على مقالكم المنشور بصحيفة إليكترونية. ومن عاداتي أن أقرأ كل ما يعتبر إضافة لي. كنت في مرات كثيرة أذهب إلى ماكينة البحث (قوقل) لعلي أجد سبيلاً إليكم لكن اسمكم لم يظهر لي إلا مرة واحدة... كان قصدي هو أن أقرئكم السلام وأسأل عن أحوالكم وأسرتكم وها أنت تفتح عليَّ فيضاناً من الذكريات والأفكار. شيئان دفعاني إلى الحصول على بريدكم الإليكتروني أولهما أنني ومنذ أن كنت يافعا، بقيت قارئاً نهماً لكل ما يكتب، سودانياً أولا ًوعربياً وعالمياً ثانياً. وإن كان ثمة فائدة من وجودي خارج السودان فهي أنني تمكنت من قراءة الكثير عربياً وعالمياً، إلا أنه من الناحية الأخرى قللت مواكبتي لما يكتب سودانياً إلى حد ما إلا ما يجد طريقه إلى الشبكة العنكبوتية، ولما كان (السايبر) مليئاً بكل من هبّ ودبّ كان عليّ أن أمارس الاختيار فأنا أقرأ كل ما يكتب سودانياً من البداية، ثم أقرر إن كنت مواصلاً قراءة المادة حتى النهاية أم لا، وإذا قررت قراءة المادة حتى نهايتها بمعيار أنها ستضيف لي جديدا بعد ذلك أذهب لأرى من كتب المادة لتحري المصداقية ما دام أنها سوف تضيف جديدا لمخزوني المعرفي. ومن تلك المقالات التي قرأتها حتى النهاية كان مقال لشخصكم عن مفارقات في اهتمامات الأجهزة الإعلامية هذه الأيام، فبينما تهتم بسفاسف الأمور، تتسرب أحداث جسام وشخصيات مهمة أجدر بالوقوف عندها، وكان هذا هو المكان الوحيد الذي وجدت فيه عنوانا لكم منذ أن فارقت السودان. وقد كان مقالكم موجها إلى قطاع المثقفين والكتاب بصورة عامة وإلى المتحكمين في الآلة الإعلامية بصورة خاصة. وبالنسبة إلى قارئ مثلي كان المقال مصيبا لهدفه ومما فيه نفع.
لقد كان اللظى المتساقط من بنايتي مركز التجارة العالمي في نيويورك في سبتمبر ۲۰۰۱ يرسم وجها جديدا للعالم. كان اهتمامي هو كيف سيغير ذلك الحدث وضع المسلمين والعرب في أمريكا والغرب، فتابعت عن كثب كل الأخبار الأمريكية ذات العلاقة، كما تابعت كل ما كتب عربيا عن الموضوع. وكنت مؤخرا قد قرأت عنكم خبرا عن دراسة كتبتموها مع الدكتور محمد وقيع الله عن الوجود الإسلامي في أمريكا، رغم أنني لم أقرأ الدراسة، لكن من الخبر أحمد لها شيئا مهما ومتفردا هو أنها المرة الأولى التي يشار فيها إلى الوجود العريض لمسلمي غرب إفريقيا، فهناك خلط واضح حتى الآن بين الإسلام والعرب. وجدت ذلكم الخبر لكنه لم يكن يحمل لكم عنواناً. وبالمناسبة قرأت مقالكم عن مالك بن نبي ومذكراته (العفن).
وتسألني هل تجد مغزى لنشر قصتك هذه حتى يستفيد منها الآخرون وهل تمانع من إشارة إليها فيما تكتب، دون إشارة للأسماء؟
أكتب أستاذي فأنا لا أخجل من تجربتي، وقد لا أستطيع أن أحيط بها جميعًا، خاصة صنوف المعاناة والعذاب التي مررت بها في مصر، فأنا أغض طرفاً عن عملي صبي بيَّاع عند أجلاف تجار العتبة والموسكي، ولن أحدثكم عن عملي موظفاً للاستقبال في مستشفى خاص للولادة في ضاحية دار السلام بين عزبة خير الله وحي المعادي، ولا عن عملي حمالاً بمكتبة محمد زغلول بأرض الجولف حيث كان كل حلمي آنئذ أن (يروق الأكل في بطني ولو لمرة واحدة) قبل أن ينبهني زغلول أن عربة توقفت وصاحبها على عجل من أمره. كما أني تناسيت عمداً أن أشير لكم عن الأميال التي قطعتها ماشياً في زمهرير ميتشيجان.
رغم كل ذلك أستاذي تجدني حامداً شاكراً ومتسامحاً أفرح كما الأطفال لأصغر الأشياء وأعفو بقلب صافٍ ونية صادقة عن كل من تسبب في أذيّتي، ففي النهاية أنا قروي يصعب اقتلاع القرية من دواخلي بتسامحها وتعاضدها وفرحها.
وتسألني عمَّاذا أفعل الآن. تكاد تكون حياتي حتى الآن مشابهة للفترة التي حدثتكم عنها في أول رسالتي بتغييرات طفيفة.
وأبدأ لكم رحلتي من آخر محاولاتي قبل أن أسافر من السودان... لكن قبل ذلك دعني أؤكد لكم شيئاً واحداً هو أن هناك الكثير ممن اتصفوا بالوطنية والعمل على رفعة البلد، لكني شخصياً أحببت السودان بشكل غريب لا يدانيه إلا حبي لوالديّ (أمد الله في أيامهما) وكم تمنيت أن أجد فرصة للعمل مع غيري لبناء إنسانه وإعداد أجياله لمستقبل محفوف بالمنافسة والأخطار.
حملت آخر الخطابات التي كنت كتبتها لي إلى مسؤول في الإذاعة، أذكر جيداً أن مكتبه كان خالياً إلا مني عندما جاء إلى عمله ذلك اليوم، إذ كنت أنا عند بابه باكراً. لقد علمتني رحلتي من أجل الوظيفة أن (ود البدري سمين) قدمت نفسي إليه، وأعطيته الخطاب ووثيقة من شهادة تخرجي. تحدث الرجل معي باستفاضة وتطويل مبالغ فيه (لقد كانت تلك هي أطول زيارة إلى مكان عمل أقوم بها في حياتي)، تحدث عن أهمية الإذاعة ودورها في مجتمع كالسودان، ومن ثم عرج لندب حظ الإذاعة من ميزانية الدولة. وفي تلك اللحظات بالذات كنت أعاين أرتالاً من الموظفين والعمال والفنيين تسعى بين المكاتب والكافتيريا في رحلة الفطور (حدثتني نفسي الأمارة بالسوء أن إضافتي إلى هذا الجيش لن تعجز الميزانية). رغم تلك المحاضرة الطويلة والمناحة الأطول لم يكلف الرجل نفسه قراءة خطابكم إليه أو حتى إلقاء نظرة على وثيقة التخرج. قررت بعد خروجي من مكتبه أن تكون تلك هي آخر المرات التي أقتطع فيها من وقتكم لمساعدتي، فقد كنت حتى ذلك الخطاب قد كلفتكم الكثير من الوقت والمال. الغريب في الأمر أنه منذ تلك الزيارة وحتى مغادرتي السودان كنت أكتب بصورة منتظمة للقسم الثقافي بالإذاعة (مجاناً).
حقبت حقائبي وخيبتي وتوجهت صوب القرية التي لم تك أرحم من الخرطوم، كما لم تكن هي المرة الأولى التي أخيب فيها ظن أمي وأبي. فعندما كانت أسرتي وكذلك أساتذتي في المرحلة الثانوية يرون أنني مؤهل لأن أكون طبيباً أو مهندساً ناجحاً؛ جذبتني رغبة عارمة إلى مجال الإعلام والتعليم. لقد كنت أرى في شخصي إعلامياً ناجحاً ومعلماً أنجح. لكن ها أنذا بينهم (إيد قدام وإيد ورا) كما كانت حبوبتي بت مصطفى تصف المعدمين من أهل القرية. أتجاذب مع أهلي (أحوال) المشروع الزراعي الذي أوشك أن يصبح أثراً بعد عين وتاريخاً تلوكه (خشوم القاعدين في جبنة عشرة) والمتعطلين في قهاوي القرية التي تزايدت أعدادها بشكل غريب. كان عزائي الوحيد في تلك الفترة هي الأعداد المهولة من المحالين للصالح العام من بقايا الشيوعيين وأبناء الأنصار، لقد حولوا القرية إلى منتدى كبير قل أن تجده من مكان صغير وناءٍ كقريتنا. صورة إخوتي الصغار ومستقبلهم المجهول باتت تقطع في أحشائي كلما نظرت لهم.
حزمت كتبي وبعض ملابسي ويممت وجهي شطر الخرطوم (كرش الفيل) مرة أخرى، بدأت عن طريق واسطة خير (كل شيء يحتاج إلى واسطة)، بدأت عملاً صغيراً كبائع متجول أوزع أمواس الحلاقة في برندات السوق العربي (بالحبة). لكم كان يا أستاذي عملاً شاقاً ممحوق العائد، إلا أن صورة إخوتي الصغار متكومين أمام أمي في انتظار شاي الصباح أبت أن تنفك مني، وقد كان زبائني عربجية السوق وحفنة من مزارعي شرق النيل، فقراء على شفا الإملاق يشتري أحدهم موس حلاقة (فد واحدة) كل شهر في أحسن الأحوال. في تلك الأثناء فتح الله على قريب لي، فاشترى عربة نصف نقل، كان هو سائقاً، وكنت أنا أحصل القروش من الركاب. ولما كانت العربة مكشوفة ومن غير مقاعد كانت فرصتنا الوحيدة لإيجاد زبائن بعد أن تقف الحافلات الأخرى لنقل الركاب قبيل منتصف الليل.
وأخيراً جاء الفرج (أو ما كنت أحسبه كذلك)، وحصلت على تأشيرة للخروج والذهاب إلى القاهرة لحضور احتفال جمعية مصطفى أمين للصحافة (أخيراً اكتشفت أن تأشيرة الخروج بدعة سودانية).
كان مصطفى أمين مهذباً بشكل يختلف عن كل الذين تعاملت معهم قبله وبعده. يكن احتراماً للسودانيين على اختلاف سحناتهم وتوجهاتهم السياسية.
رأيت عامة الشعب فقراء جداً. لشخص مثلي قرأ الكثير عن مصر وحضارتها وتطورها ونموها كانت تلك الصورة مدهشة حقاً (زالت تلك الدهشة عندما زرت أمريكا وقابلت الإملاق وجهاً لوجه)، كان معظم المصريين جهلاء بأبسط الأحداث والتطورات من حولهم إلا فئة محدودة جداً. لكنهم كانوا طيبين، ومن البشاشة بدرجة تجعلك تحس بأنك جزء من نسيجهم.
هيأ لي مصطفى أمين فرصة للتدريب بمؤسسته العريقة. ذهبت أياماً معدودات إلى مكان التدريب، فبانَ لي أن الكثير مما يفرقنا وأشقاءنا في الشمال يذهب إلى الجينات الأولى. كنت في مقتبل عمري المهني أحتاج إلى كل ما هو إيجابي ومفيد يضيف إلى رحلتي المستقبلية، فوجدت العكس تماماً، فتوقفت عن الذهاب ولم أتصل بهم لأنبئهم بقراري، كما لم يتصلوا هم ليسألوا عني.
بعد فترة ليست بالقصيرة تحصلت على عمل في راديو وتليفزيون العرب (إي آر تي). أعطوني مكتبا لأعمل رقيبا على المواد الأجنبية قبل ترجمتها، بأن أعمل مقصي متى ما خالفت المادة تعاليم الدين الحنيف وتقاليد مجتمعاتنا المحافظة والمتمسكة بنهج الرسول عليه الصلاة والسلام (الغريب في الأمر كان رئيسي في العمل ومهندس خط الرقابة مسيحياً)، إلا أن ما تشدَّدت فيه تعاليم الرقابة كان هو عدم الاقتراب من الحكام والملوك والأمراء العرب إلا بالخير. كانت مهمة سهلة بالنسبة للمواد الترفيهية عسيرة في المواد الفكرية والجادة، كان آخرها حوار أداره مذيع قدير أمريكي من أصول لبنانية مع المفكر إدوارد سعيد من كاليفورنيا، لكم كانت الشقة واسعة بيني وبينهما، فلم أستطع أن أعمل مقصي في أي من أجزاء ذلك الحوار الطويل الذي وصف فيه السلطة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات بالفساد والفشل، وتنبأ فيه بزوالها بذلك الشكل التقليدي حالما انفتحت أبواب المنافسة الديمقراطية. وكان قد ذكر بالاسم حماس ونظامها وأنها ربما ستكون البديل في ظل منافسة حرة.
تحققت نظرته في أول محاولة انفراج سياسي شهدته فلسطين، ومات هو بعدها بقليل. كم كنت سعيداً بأنني لم أستطع أن أعمل مقصي في تلك المادة.
تركت رسالة للإدارة بأن زمني لم يسمح بمشاهدة المادة وأن ذلك اليوم سيكون آخر أيامي في الشغل.
عملت بعد ذلك صحفيا حرا متخصصا في الشؤون السودانية والإفريقية، كما تجولت بين صحف المعارضة التي كانت تصدر من القاهرة، ولكم كانت فقيرة ومتشابهة. في آخر أيامي في مصر انفتحت لي فرصة للتعاون مع مكتب جريدة الحياة بالقاهرة، لم أتمكن من الاستفادة منها لأنني حصلت على تأشيرة محدودة المدة إلى أمريكا.
لم يكن خيار تركي القاهرة سهلاً، فقد أتاحت لي فرصة للاطلاع والإضافة. لقد قرأت كثيراً، وأضفت إلى مكتبتي العديد من الكتب المهمة، كنت كل مرة أضيف فيها كتاباً أو قراءة إلى مخزوني المعرفي، أفكر في السودان كيف أن المسافة الجغرافية تكاد تكون معدومة بين القاهرة والخرطوم، إلا أن فرق أسعار المواد المكتوبة ووفرتها فرق السماء للأرض.
وصلت إلى بلاد العم سام ونزلت بمدينة ديترويت وفي ذهني الدراسة، والهدف الذي لم أصل إليه حتى الآن لسبب بسيط جداً هو أنني لم أتمكن من استخراج شهادتي من الجامعة، أليس من المفارقة أن أفشل في إثبات أنني بالفعل درست مرحلة البكالوريوس كاملة؟
لقد أضافت هجرتي المزيد من المسؤوليات، إذ ظن أهلي أنني مثل مغتربي الخليج والسعودية أنعم بالمال الوفير والعيش الرغيد. قضيت مدة قاربت العقد من العمر المحدود تتقاذفني مصانع السيارات الأمريكية بديترويت، يسرحني مصنع ليفتح آخر أبوابه مستقبلاً. ومع كل سيارة تخرج من خط الإنتاج يتساقط حلم المربي والمثقف داخلي، لكني مسكت قوياً في أمل أن أدرس (لي قدام). وتلوح لي أخيراً فرصة الدراسة والتدريب في مجال البحث وتحليل مضمون أجهزة الإعلام العربية والترجمة، فقد وجدت منحة في جامعة جورج تاون بواشنطن العاصمة لترفيع لغتي الإنجليزية إلى درجة محترف، واجتزت هذه المرحلة في أول سابقة بأن يمر ممتحن في امتحان القدرات المتقدم من خارج المؤسسات التعليمية، حيث أنني أتيت إلى مقاعد الكلية مباشرة من المصنع.
أتاح لي وضعي الجديد العمل مدرساً لبعض طلاب الجامعة وقليل من المهتمين بشؤون الشرق الأوسط، أدرسهم بدايات اللغة العربية وبعضاً من الثقافة الإسلامية والشرق أوسطية، وأقضي ليلتي مفتح العينين خفيراً على بناية سكنية يغط ملاكها في سبات بينما أسهر أنا على ممتلكاتهم أهشُّ عنها السابلة وقطاع الطريق... لكم كانت الرأسمالية (بشقيها المؤمن والكافر) قاسية علي.
نسيت أن أقول لكم أنني تزوجت من بنت من مدينة نيامي النيجر (تشيلك في صفحتا) كما وصفتها عمتي (بت عثمان).
هذه هي قصتي مذ فارقتكم يا أستاذي إلى الآن. ربما أكون قد أطلت عليك، وقد يجد شباب الخريجين من قصتي عبرة وفكرة يستفيدون منها.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!
osman.abuzaid@gmail.com