الســجن ومـا بعــده

عفــو الخاطــر

إذا ما استمر القتال وتمددت حرب الغوار لما يربو عن ستة أشهر حينها عليكم أن تجلسوا الى طاولة المفاوضات
"الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل دوجول"

كانت ستينيات القرن المنصرم تلفظ أنفاسها الأخيرة حينما كنت استمع لأسطوانة تحتوي على رائعة الرحابنة "ألف ليلة وليلة" وروائع أخرى في نادي كلية الصحافة ببرلين الشرقية. أتي بأسطوانات فيروز زميل سوري، فالشوام عموماً يبدؤون يومهم منذ الصباح الباكر بفنجان قهوة وشدو فيروز المنبعث من إذاعة دمشق حتى الضحى، إن لم يكن الى منتصف النهار، وكثير منهم ومنهن يرتشف قهوته ويستمع الى فيروز مع لفافة تبغ مشتعلة، مستوردة كانت أو محلية الصنع أو يستمتع بلفها بيديه وينظر اليها متأملاً قبل أن يشعلها. ساعتئذٍ لفت نظري كتاب صغير الحجم بعنوان الغابة "The Forest" لمؤلف أميركي لم أسمع به من قبل. كان كتاب وليم بوميروي William Pomeroy مثيراً للانتباه والفضول، فهو من خارج مجموعة الكتب والروايات ودواوين الشعر قليلة العدد في ذلك النادي التي ألفها كتاب شيوعيون أو في أحسن الأحوال يساريون مشهورون ومعروفون. كان من خارج السرب. تناولت الكتاب، قلبت صفحاته بين يدي، قرأت نبذة عن المؤلف وصفحات متناثرة بين دفتيه. قررت أن التهم الكتاب من الغلاف الى الغلاف في غرفتي. لم تستغرق قراْءة يوميات الشيوعي الاميركي وتأمل سطوره سوى يومي العطلة الأسبوعية، فوليم بوميروي كاتب رشيق العبارة؛ في كلماته وفيما بينها روح وثابة، وتتخلل جمله انفاس شاعرية دافئة. فهو الى جانب كونه ثائراً ومقاتلاً هو مؤلف وأديب وشاعر.

كان بوميروي (1916 – 2009)، الشيوعي الأميركي، جندياً في صفوف القوات الأميركية المحاربة التي تقاتل القوات اليابانية في المحيط الهادي ابان الحرب العالمية الثانية. كانت الفلبين قد سقطت تحت الاحتلال الياباني بعد استهداف طائرات الامبراطور هيروهيتو للقاعدة البحرية الأميركية في ميناء بيرل هاربر في المحيط الهادي ودخول أميركا الحرب من أوسع أبوابها حينئذٍ. بقيت الفلبين طيلة سنوات الحرب مستعمرة يابانية حتى هزيمة اليابان وعودة الجنرال دوغلاس ماكآرثر مرة أخرى إلى شواطئ الأرخبيل اعلاناً لاستيلاء القوات الأميركية على الجزر التي أطلق عليها هذا الاسم رحالة ومغامر ومستكشف اسباني جاء الى تلك الانحاء بعد رحلة البرتغالي فاسكو داغاما بسنوات عددا. اشتق الرحالة الاسباني، لوبيز دي فيلالوبوز، اسم ذلك الأرخبيل من اسم ملك اسبانيا في ذلك الأوان، فيليب الثاني تكريماً له.

وقع بوميروي في غرام الفلبين وأحب أهلها وفوق ذلك تدله في غرام الحزب الشيوعي، الذي تأسس في فجر ثلاثينيات القرن الماضي، وأغرم باليسار الفلبيني وفصائله الثورية التي كانت تخوض كفاحاً مسلحاً ضد الغزاة اليابانيين منذ العام 1942 ثم استمرت في حربها على الغزاة الاميركيين الجدد والحكومة الدمية التي نصبّتها قوات الاحتلال. من بين تلك الفصائل وأكبرها كانت منظمة الهوك أو ما عرف بثورة الهوكبالاهب التي أُختصر الشعب اسمها الى الهوك أو جيش الشعب الذي كان يقاتل في منطقة لوزون الوسطى. خاض الفلاحون والقرويون حرباً شرسة على قوات الاحتلال الياباني حيث ساهمت تلك الحرب مساهمة كبيرة في دحرهم واخراجهم من الفلبين وإن عُزى الفضل للجيش الأميركي.

التحق بوميروي بالهوك وحارب معهم وهناك التقى سيليا مريانو، مقاتلة في صفوف جيش الشعب، فوقع في حبها وعشقها وتزوجها وقاتل معها ومع رفاقها حتى القاء القبض عليهما وصدور الحكم بسجنهما مدى الحياة الى أن أُطلق سراحهما بعد عشر سنين قضياها في سجن فلبيني مع رفاق مناضلين آخرين. منعت الحكومة الأميركية بوميروي من العودة الى مسقط رأسه، وحرمت الحكومة الفلبينية زوجه من الحصول على جواز سفر ومغادرة البلاد، فرحل بوميروي وحده الى بريطانيا حيث شن حملة شعواء على حكومة الفلبين مطالباً بالسماح لزوجه بالالتحاق به في منفاه. كان من أبرز المناصرين له في حملته تلك الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل والروائي الأشهر غراهام غرين. رضخت حكومة الفلبين للحملة وسمحت لسيليا مريانو بالانضمام اليه. هناك نشر كتابه "الغابة" وديوان شعر ضم قصائد نظمها في السجن لزوجه سيليا ولنضالهما الشرس على الامبريالية وعملائها. في منتصف الخمسينيات خمدت جذوة حرب الهوك رويدا رويدا وأضحت رماداً وذكرى. لكن حروب العصابات لم تنطفئ في الفلبين لا سيما حروب الغوار التي شنتها فصائل إسلامية كانت تقاتل قبلهم وما زالت تقاتل في جزيرة مندناو من بينها فصيلان من جبهة تحرير مورو ومن بعدها جماعة ابوسياف. لكن فصيلاً من الشيوعيين أضرم نار حرب أخرى في ستينيات القرن الماضي ما زال لهيبها مشتعلاً الى يوم الناس هذا.

لم تكن الفلبين معروفة يومذاك بين الناس في منطقتنا ولم يذكرها أحد الا لماماً بل كانوا يعرفون كوريا ويتغنون لها وبها في الاعراس والسهرات والليالي الملاح. فحرب شبه الجزيرة الكورية في مطلع خمسينيات القرن الماضي ألهبت الأخيلة وأثارت المشاعر فتدفقت أغنيات السيرة مع العديل والزين. تردد اسم الفلبين على وجه الخصوص بعد مجيء الرئيس فيردناند ماركوس وزوجته، ملكة جمال الفلبين الحسناء وعارضة الأزياء، اميلدا، الى سدة الحكم.

عرف الناس الفلبين والفلبينيين والفلبينيات في سني الطفرة المالية والاقتصادية التي عمت دول الخليج بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973 حينما تدفق البترودولار على الجزيرة العربية فصار الناس يجلبون العمالة الماهرة وغير الماهرة من هناك وباتوا يفضلونها على أية عمالة أخرى لما عُرف عنها من مهارة ومهنية ودربة ومقدرة وجلد وصبر وبراعة تفوقت بها على ما عداها من عمالة الدول الاسيوية. أصبحت العمالة الفلبينية مطلوبة حتى في جوار الفلبين مثل سنغافورة وماليزيا. كان الفقر والبحث عن سبل عيش أفضل وإيجاد وسيلة لإعانة افراد العائلة في البلاد الى البطالة المتفشية تدفع أبناء وبنات الفلبين للعمل خارج بلادهم. كانت ومازالت طبيبات اسنان ذوات خبرة طويلة يقبلن العمل مساعدات لطبيب أو طبيبة اسنان في البلدان العربية أقل منهن خبرة وعلما، وما زال مهندسون ومهنيون آخرون في شتى الاختصاصات يقنعون بالشغل في مهن أقل مما حازوا من معرفة ودراية بسبب ندرة فرص العمل وتدني الأجور في جزر الأرخبيل.

توالت الانقسامات كما الفطر عندما أصاب الصدع الأممية الثالثة وانقسمت الى قسمين أحدهما يناصر الاتحاد السوفيتي وبقيادته وآخر يؤازر الصين ليس خوفاً بل طمعاً طوراً ورهبة طورا آخر، وقد يكون اعجاباً بالمسيرة الكبرى وحكاياتها التي لا تنتهي تلك التي كان في صدارتها الرئيس ماو تسي تونغ. حينئذٍ قام نفر من أُطر الحزب الشيوعي الفلبيني بالانشقاق وتأسيسي الحزب الشيوعي الفلبيني الماركسي اللينيني الماوي في العام 1968. كان على رأس المنشقين مثقف وشاعر رقيق الحاشية وكاتب نحرير واستاذ جامعي لامعاً ساحر له حضور. توفي خوسيه ماريا سيسون (فبراير/ شباط 1939 – ديسمبر/ كانون الأول 2022) – واسمه الحركي جوما - الذي أسس الجناح المنشق عن الحزب الشيوعي الأسبوع الفائت في العناية الفائقة في منفاه الاختياري بهولندا التي لجأ اليها منذ أن غادر الفلبين في العام 1986 بعد ما أصدرت الرئيسة كورازون "كوري" أكينو عفواً عاماً عن السجناء السياسيين عند اعتلائها سدة الرئاسة لما انتصرت انتفاضة "سلطة الشعب" التي اندلعت لإزاحة الرئيس ماركوس والفاسدين من حوله عن الحكم ثم اشتد أوارها اثر اغتيال زبانية ماركوس زوجها، بنينو أكينو، على سلم طائرة أقلته من الولايات المتحدة الأميركية الى بلاده لتسلم السلطة. جاء هذا العفو في محاولة منها للمصالحة الوطنية ووضع حد لإراقة الدماء في أحراش الفلبين وقراها ومدنها.

بُعيد الانشقاق أسس جوما في مارس/ آذار 1969 جيش الشعب الجديد وهو الجناح العسكري لحزبه ومن بعد ذلك أسس ورأس الجبهة الوطنية الديموقراطية الفلبينية فكانت الذراع السياسي التي حاورت الإدارات الفلبينية المتعاقبة في سبيل الوصول الى سلام دائم وحل سياسي يحقن الدماء ويضع جزر الأرخبيل في مسار جديد يوفر الديموقراطية الحقيقية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الحقيقي والسيادة. نمت قوات جيش الشعب الجديد نمواً مطرداً حتى بلغ تعدادها ما يربو على المائة وخمسين ألف مقاتل تحت السلاح وسيطرت على مناطق واسعة من الفلبين وعلى جزر عددا. كانت هذه أكبر منظمات الكفاح المسلح في منطقة جنوب شرقي آسيا عدا الثوار الفيتناميين، وكانت تختلف اختلافاً جذرياً عما عُرف بالثوار الجوالة في لاوس. وهي اليوم أطول حروب العصابات من حيث المدة الزمنية رغم تقلص أعداد مقاتليها ومساحات انتشارها مؤخراً، لكن نفوذها السياسي ما زال يلقي بظلاله على المشهد هناك. وهي أيضا، لسخرية الاقدار، القوات التي تخوض حرباً بقيادة من المنفى فمؤسسها وبعض قادتها يقيمون في الخارج لكنهم يحظون بالولاء من عشرات الألوف من مريديهم.

نعى ماركو فالبوينا، الناطق الرسمي باسم جيش الشعب الجديد، قائده خوسيه ماريا سيسون قائلاً: "إن البروليتاريا الفلبينية والشعب العامل يغمرهم الحزن والأسى لوفاة معلمهم والنور الهادي لطريقهم. وبالرغم من حزننا الا أننا نتعهد بتقديم كل ما نملك من قوة ومن تصميم على مواصلة الثورة قدماً الى الامام بهدي من ذكرى وتعاليم حبيب الشعب جوما".

لم تزل الثورة مستمرة في أدغال الفلبين إلى الآن رغم محاولات الوصول الى تسوية سلمية لا سيما في عهد الرئيس السابق "اليساري" رودريغو دوتيرتي الذي كان أحد تلاميذ جوما، وصديقه فيما بعد عندما امتهن السياسة. توطدت بينهما العلاقة لما ترشح دوتيرتي لمنصب حاكم محافظة دافاو بجزيرة مندناو حيث كان لجيش الشعب الجديد نفوذ طاغٍ وحاسم ففاز دوتيرتي مرتين في هذه المحافظة ثم فاز بعضوية البرلمان ليمثل دافاو في مانيلا. ما كان ليفوز لولا دعم جوما ومنظمته الثورية وحركته السياسية. ولما رشح نفسه للرئاسة نال أيضاً دعم الحزب الشيوعي الماركسي اللينيني الماوي - عسى ولعل يبدأ في تطبيق الإصلاحات التي قاتلوا في سبيلها هذه السنين الطوال - ففاز بفارق كبير مما يدل الى نفوذ الحزب وجناحه العسكري ليس في مندناو فحسب بل في أقاليم كثيرة من الفلبين. حاول دوتيرتي أن يتقرب من خوسيه ماريا سيسون بتعيين ثلاثة من رفاقه في أولى حكوماته وتعيين آخرين في مجلس الشيوخ، الا ان القائد الثوري وضع شروطاً للتعاون مع تلميذه السابق وصديقه القديم فلم تنجح المحاولة وافترقا ليواصل الكفاح المسلح عن بعد رغم تناقص مقاتليه ورفاقه ومناضلي جيش الشعب الجديد. مضى الرئيس الى مشروعه اليساري المبهم الهلامي والضبابي للإصلاح فأعدم آلاف الفلبينيين والفلبينيات ميدانياً بتهمة الاتجار بالمخدرات وصادر سيارات الطبقة المخملية الفاخرة ليحطمها بالجرافات. لكنه لم يجر اصلاحاً ملموساً يخفف من وطأة الفقر وينصف المحتاجين وينهي العوز والفاقة في بلد يذخر بالثروات الطبيعية وبالإنسان القادر على استغلال هذه الثروات لمصلحة الجموع الجائعة. الفلبين كالسودان حذو النعل بالنعل.
كانت قصائد خوسيه ماريا سيسون التي ضمها ديوانه "السجن وما بعده" تغمرها الدعوة للثورة وتفيض بها وتتخلل أبياتها التي تتغني بغير ذاك دعوة لا تخطئها العين للانتفاض على الظلم والتحرر. بعد وفاة ماو واعتقال "عصابة الأربعة" التي كان من بين أعضائها آخر زوجات زعيم الثورة الصينية والحزب الشيوعي الصيني افترق سيسون عن الصين وما انفك يطلق عليها الامبريالية الصينية حتى آخر رمق من حياته.

هل تنطفئ ثورة جوما بعد نصف قرن ونيف من الزمان ويزحف السلام نحو الادغال ويعم الاستقرار قرى الجزر الفلبينية والسلم والأمان مياه الأرخبيل بعد رحيل مؤسس أطول حرب عصابات في المائة عام الأخيرة؟ هل يتصالح الاخوة الأعداء الذين يتحدثون بأكثر من سبعين لساناً ويتوافقوا على كلمة سواء بعد أن جرت الدماء جداول وأنهراً. لعله البحتري القائل:

إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها
تذكرت القربى ففاضت دموعها
شــواجـر أرمـاح تقـطـع بيـنها
شــواجر أرحـام ملـوم قطـوعها


elsouri1@yahoo.com