ما هو عارف قدمو المفارق (4)
د. سامية عباس كرجويل
3 March, 2023
3 March, 2023
سبانا المبدع د. عبد الكريم الكابلي: نورانية الروح في المنجز الابداعي والفني
زرياب السودان وكروانه: ساحر البهجة
عبد الكريم ألكابلي والمنجز الابداعي للاداء والمنولوج الداخلي للشاعر: في ' ضنين الوعد'
د. سامية عباس كرجويل
ديباجة
ضنين الوعد أوتار دافئة وعلامة فارقة في الأداء مضافة للمنجز الابداعي للمطرب عبد الكريم الكابلي ، ومن ابداعات الكابلي التي أكسبته التميز في الأداء هي القدرة على إبراز ' المنولوج الداخلي ' للشاعر والذي ياسرك بة ، وهو اُسلوب فني كما ذكره معاوية محمد نور لا يصور المجتمع ولا النقد الاجتماعي بل يركز على التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند الشخص ويربط ذلك ' بموسيقى الروح ' حيث يبرز الإحساس واضطراب الميول والأفكار وتصادمها في لحظة واحدة من عمر الزمان عند شخص ما (1). ان معاوية نور من خلال توظيفه لنظرية
( المعادل الموضوعي) يشير الى ان ليس مهمة الشعر اثارة العاطفة وإنما ترجمة العاطفة والإحساس الى فكر ومنطق ، بإلاضافة الى ذلك فان العاطفة يعبر عنها باللفظ وهو اداة الفكر لا اداة العاطفة ( الفيا، 2019)( 2)، ولهذا نرى ان اداء الكابلي ' لضنين الوعد' التي حظيت بكتير من احياء الأحاسيس والمشاعر من خلال الأداء الابداعي للكابلي اعادة للقصيدة سيرتها الاولى قبل ان يحولها الشاعر الى فكر ومنطق عن طريق اللغة فملاها بكل انواع المشاعر من حب ، ولوعة، واسى، وحزن . و المتأمل لأداء الكابلي الغنائي في 'ضنين الوعد' تجذبه الطاقة الإيحائية الكامنة في استغلال الأبنية الصوتية لتجسيد الحالة الانفعالية والدرامية المدللة عليها.
الكابلي والسيناريوهات الدرامية في المنجز الابداعي للاداء
في استيضاح المنولوج الداخلي للشاعر والذي يعكس شاعريته نجد ان الكابلي تمكن من ان ينقل اليك ذلك المنولوج الداخلي للشاعر فيفك وثاقك من خلال تقمصه ذلك الشعور فينقله لك كمستمع فيحرض الخيال فيسرح المستمع في المضامين والمعاني لينتقل الى عوالم سريالية. وتظهر هذه الصورة جلية عندما يستوقفك الكابلي بما نهى عنه الشاعر مؤكدا ذلك ب " لا" في صيغة امر ناهية حبلى بالامل والحل :" ' لا تقل' أني بعيد في الثرى " هنا ترفع جميع الكوابح في انتظار الامر يكون خيالك قد سرى بك وعرج الى الثريا ومن ثم يهبط بك الكابلي هبوطا تدريجيا الى القرار متقمصا احساس الشاعر بذلك البعد ووصف كيفية التغلب عليه بالحل المقدم لك من الشاعر " فخيال الشعر يرتاد الثريا " حيث تكمن في. أحشاء الثريا التورية التي خباء فيها الشاعر اسم من احبها والتقاها صدفة. وبين الصعود والهبوط يشدك الكابلي الى الديالوج بين الشاعر والمحبوب الكامن في دواخله ففي : " ان تكن انت جميلا فأنا شاعر يستنطق الصخر العصية وفيها استنطق الكابلي المفردة ' استنطق ' فاعتصر موسيقاها الشعرية كما اظهر حركات الاعراب ليراقص التنوين طربا المفردة فيبدو معناها واضحا جليا . وتمييز اداء الكابلي في " ان تكن انت جميلا فأنا شاعر ....يستنطق الصخرة العصية" فاظهر الديالوج بين الشاعر والمحبوب بصورة واضحة ومعبرة يصحب معه حركات الاعراب ليضع المساحيق على المفردة فتظهر سلامة النطق وارسال حرارة المفردة وجذوتها فيحرض الخيال فينتقل المستمع الي فضاء متسع تتراءى فيه الصورة المرسومة في مخيلة الشاعر فيتامل المستمع فيما رمى آلية الشاعر فيحلق في الموقف الذي تم فيه الديالوج وتصوره كما صورة الشاعر بأحاسيسه ، ومن ثم عرج بِنَا الكابلي بصوت ' ابراوي ' مشحون بالأسى كما ارادها الشاعر ان تكون فاظهر الكابلي ذلك ' المنولوج الداخلي ' للشاعر من أحاسيس وانفعالات في المفردة : " وافترقنا " مرسلا ' إلاهة ' بإحساس الالم فهبوط ناعم الى القرار محملا بتأكيد الدمع للألم في : " فما ابصرت شئ " ينطقها مليئة بالحزن والاسى واللوم التي ملا بها النغمة عندما نادى ب " يا ضنين الوعد" حيث يظهر لك لوعة الفراق حتى يكاد ان يعتصر قلبك و دمعك معا، و بالتأمل لأداء الكابلي ووقفاتة لابراز الإيحائية التي رمى اليها الشاعر والتي تعد من سمات شعراء الحداثة حيث تكون الإيحائية خلفية جمالية تضي فضاء النص في الذاكرة الجمالية. وفي الشعر الحديث استخدم ت.س. إليوت (3) الأسطورة وخاص في قصيدته
" الارض الخراب" حيث وظفها من نظرياته النقدية في " المعادل الموضوعي" و " الحس التاريخي" حيث يرى ان لكل شاعر مجيد هو استخدام الأسطورة ( معادلا موضوعيا) و جماليا للنظام ولترتيب الفوضى التي يحسها والذي كلن لها الأثر البعيد والعميق في شعراء الحداثة . وكما درج شعراء الحداثة العرب بتاثير من الشعر الأوربي الى الأسطورة كنظام جمالي او 'معادل موضوعي ' للتعبير عن الرؤية الشعرية في القصيدة وذلك لما تتمتع به الأسطورة من قدر عال من التجريد مما يجعلها قابلة للتحرر من سياقها التاريخي . وقد انتقلت الرمزية الى الشعر العربي على يد عدد من الشعراء من بينهم بدر شاكر السياب ، محمود درويش، صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي، عبد الرحمن شكري ، احمد زكي ابو شادي،و فدوى طوقان . ان الشعراء الرمزيون يعبرون عن افكارهم الشعرية عبر توظيف الأساطير ومنها العنقاء ، والسندباد وشهر زاد كما استلهموا كثير من القصص في أشعارهم من بينها قصة ' صقر قريش' ' واصحاب الكهف ' 'وستدوم ' وغيرها. كما نالت الأساطير الإغريقية الشهيرة مثل 'فاوست وسيزيف ' وبعض المفاهيم الدينية في المذاهب والأديان الاخرى نصيب من الاهتمام وقد لجأ بدر شاكر السياب الى الرمزية في قصائده (4) مشيرا الى ان القيم السائدة لا شعرية والكلمة العليا للمادة فيها لا للروح ولهذا عاد الشاعر ليعبر عن اللاشعور عنده الى الأساطير و الخرافات لانها محتفظة بحرارتها ولانها ليست جزءا من هذا العالم (الفيا، 2019), (5). فالشاعر الحديث عندما يلجأ الى التناصص فهو لا يهدف الى تكراره بل بغرض اعادة إنتاجية بشكل جديد مختلف الرؤى يكمن فيها اهم أغراض البلاغة وبذات الفلسفة الجمالية التي نظر بها إليوت الى القيمة الفنية من توظيف الأسطورة في الشعر أشار الشاعر العربي بدر شاكر السياب الى ان بعض الشعراء العرب المجيدين لم يكتفوا باجترار الأساطير التي سبقهم اليها الشعراء الغربيون بل ابتكروا أساطيرهم الخاصة ومن هؤلاء محمد عبد الحي الذي انفرد بتوظيف أسطورة " السمندل" وكثيرا ما يأتي ذكر "السمندل " مقترنا بالنار في أشعاره وفي قصيدته " العودة الى سنار " ، " والسمندل يغني " ، " والسمندل ملك النهار" في ديوانه حديقة الورد" ( الفيا، 2019) (6)الشعر او الزج بالأسطورة في القصيدة بل تجاوز ذلك الى استغلال طاقاته الإيحائية حتى وان النص المقتبس او الأسطورة تختفي لتبقى في الذاكرة كلوحة خلفية تجمل النص كما في قصيدتة ' السمندل في حافة الغياب ' حيث مزج مزجا جميل مستحسنا بين أسطورة' اوليس ' بطل ملحمة الإلياذة الإغريقية لهوميروس ' ، وقصة السندباد البحري الذي ضاع في البحر بسبب إغواء حوريات البحر بغنائهن البديع فان عظامه سوف تظل باقية أبدا لتتشكل منها حدائق مرجانية والآلي تضيئ سواحل البحار وتكون منارة تهدي البحَّارة الى بر الأمان ، وأسطورة ' السمندل ' التي نحتها محمد عبد الحي من جهة اخرى ، فاستهل قصيدته ' السمندل في حافة الغياب ب:
" لو ضاع في نزوعه البحري، فالعباب/ عبر زمان البحر- والملح سينحتان عظامه المبلورة/ حدائق من صدف تضئ في صيف الليالي المقمره/ على رمال ساحل الغياب."(7) وفي قوله : " العباب والملح سينحتان من عظامه المبلورة حدائق من صدف" فيها تناصص من قول شكسبير في مسرحية ( العاصفة) (the tempest ) والتي تغني فيها احد شخصيات المسرحية لعزاء فرديناند أمير نابولي الذي ان أباه قد مات غرقا في احدى العواصف البحرية وتحولت عيناه الى لؤلؤتان وكل شئ فيه تحول بفعل البحر والملح الى شئ نفيس ونادر" (8 )
ان حلم الانسان بالحياة الابدية والخروج على سلطان الزمن والانتصار على الموت فقد عبر عن هذا الحلم الجميل المستحيل محمد عبد الحي :" حين انكسرت انية الخزف الصينية/ كانت فارتنا تسكن فيها/ هل ظنتها رحم الابدية؟
وفي لحظة نشوة يتماهى الشاعر مع السمندل ويحس بانه انتصر على الموت وصار نديمة :" هنا أنا والموت جالسان/ في حافة الزمان/ وبيننا المائدة الخضراء/ والنرد والخمر والدخان/ من مثلنا هذا المساء" ( الفيا، 2019) (9).
الأسرار النورانية في الخليقة والتكوين والأساطير البابلية :
فالتناص او الاقتباس فهو تضمين الشعر او النثر شيئا من القران او الحديث او بعض الاقوال المأثورة وقد ارتقى محمد عبد الحي عن الاقتباس بصورة مباشرة الى الإيحاء به دون ذكر اسم أسطورة من الأساطير او شخصية في اسطورة من الأساطير(الفيا، 2019) (10) , كذلك اتبع شاعر قصيدة ' ضنين الوعد ' ذات النهج في التناصص من القران وايضاً من الأساطير البابلية فكان الإيحاء والتناص الذي ألقى بظلال جمالية علي النص الشعري وخلق خلفية جمالية للتأمل في فضاء النص الشعري. فالومضة تجسد حلم الشاعر باستمرارية الحياة من خلال التكوين والأجنة وبهذا تمثل " المعادل الموضوعي" فعلى ذات الفلسفة الجمالية نجد التناصص من القران والصياغة الإيحائية لمعجزة ولادة سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام التي انتبذت به مكانا قصيا وكان حفيا كما ورد في الآية الكريمة (22):" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" فكان حفيا وطلب منها :" هزي اليك بِجِذْع النخلة تساقط عليك رطبا جنية" (25). "فكلي واشربي وقري عيننا فإما ترين من البشر احدا قولي أني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " (26 ).
'فالومضة تجسد حلم الشاعر باستمرارية الحياة من خلال التكوين والأجنة وبهذا تمثل ' المعادل الموضوعي ' لاستمرارية الحياة وتطورها والتي لم يسميها صراحة وهي بذات فلسفة " السمندل " عند محمد عبد الحي في قصيدته " العودة الى سنار" حيث أشار الى طائر ' السمندل ' ولم يذكره بصريح العبارة :" ابصر كيف مره اول ألطيور فوقنا/ ودار دورتين قبل ان يغيب في عتمة النور وفي حديقة المغيب " , وتتضاعف رمزية السمندل في ديوانه
" حديقة الورد الاخيرة" مركزا في قصيدة " السمندل ملك النهار" ، حيث يقول الشاعر محمد عبد الحي: " أنا السمندل/ يعرفني الغابر والحاضر والمستقبل/ مغنيا مستهترا بين مباني العالم المندثرة/ وزهرة دامية في بطن أنثى/ في الدجى منتظرة" ، فكان السمندل معادلا جماليا لحلم الذات الشاعرة بالصيرورة الزمنية والخلود ( الفيا، 2019) (11), والفنيق وأسطورة اله الجنس والخصوبة عند البابليين والسوريين ، وادونيس وهي صفة ماخوذة من اللفظ السومري " أدوّن" " او " أدوناى" بمعنى الرب او الآلة ( الفيا،2019) , كما وان أفروديت آلهة الحب و الجنس الإغريقية محاكاة لقصة تموز وعشتار البابلية( الفيا، 2019) (12)
وعندما يستريح الشاعر احيانا في فسحة الذات بعد طول توهج يأتِ بما تجيش به دواخله ومن أمثلة شعراء الرمزية او الشعر الحر كان ادونيس قائلا: " هذا أنا: لا لست من عصر الأفول / أنا ساعة آلهتكم العظيم/ أتت وخلخلة العقول/ هذا انا- عبرت سحابة/ حبلى بموقعة الجنون/ والتحية يمرق تحت نافذتي ، يقول الاخرين( يرعى قطيع نجومه/ يصل الغرابة بالغرابة)/ أرخت: فوق المئذنتين/ قمر يسوس الأحصنة/ وينام بين يدعى تميمة/ وذكرت: بقعد الهزيمة / جسد العصور/ وهذان مثل الكازمية / ودمشق وبيروت العجوز/ صحراء تزداد الفصول، / دم تعفن- لم تعد نار الرموز/ وتلد المدائن والفضاء، ذكرت لم تكن البقية/ الا دما هرما يموت ويموت بقعة الهزيمة/ جسد العصور/ في خريطة تمتد الخ،( ادونيس ، 1970.(13)
اما الأسطورة البابلية تكمن في أحشائها "أسطورة الخلق" او " أنوما اليش "مانحة فلسفة جمالية للتكوين والخليقة والتي تعلقت باهمية اله بابل الرئيسى " مردوخ" لإعطائه أهمية على غيره من إلهه بلاد الرافدين فهذه الملحمة ليست ترنيمة بل كتبت كمربعات شعرية . وقد ارتبطت بالاحتفالات التي تقام في شهر ابريل/ مايو في التقويم الميلادي اي
( نيسانو ) من الشهر البابلي حيث يحتفل هذا المهرجان بإعادة خلق الارض والمستوحاة من قصة الخلق ' أينوما إيلش' والتي مركزها" الاله مردوخ " (14). وهذا ما إشارة آليه الشاعر صديق مدثر في قصيدتة ضنين الوعد :
" وأبث الليل اسرار الهوى/ واصوغ الصبح ذوبا بابليلة" .؟ لم يكتفي الكابلي بذلك ولم يترفق بِنَا عندما ترفق الشاعر بتلك "الومضة" حينها تفنن في ملئ المفردة كما هائلا من الرقة مدللا على احساس الشاعر 'بترفقه بها' وقد شبهها ضمنيا ' بالجنين' حيث نسج الشاعر أمشاج الخيال لرؤيته للومضة بداية للتخلق الجنيني في إطار محاكاة التكوين الجنيني فتولد نغمة شجية مطربة للاذن.
و بهذا المفهوم فان ولادة القصيدة تحمل في طياتها أحاسيس وهوى ورؤى الشاعر في لحظة محددة من عمر الزمن
لم يغفل الكابلي ذلك وقد تأكد ذلك في أدائه لوصف الشاعر لما صار لتلكم الومضة .
قدم الكابلي أكروبات بصوتة الشجي الاسر فتارة في القرار واُخرى في الجواب وثالثة ابراوي وبين هذه وتلك يرسل إلاهات فيعكس حقيقة 'المنولوج الداخلي ' للشاعر , وأكاد اجزم ان في هذا التنوع من الأصوات والاداء اعتقد انه اضاف الى منجزه الابداعي في الأداء ما يجعله يحتل الصدارة في الخارطة الغنائية السودانية و بهذا التميز يجعل 'ضنين الوعد ' علامة فارقة في اداءه الغنائي ومنجزة الابداعي.
------------------------------
( 1) الفيا، عبد المنعم عجب ( 2019 ). في الأدب السوداني الحديث، الناشر دار مدارات، الطبعة الثانية ص 236
(2) الفيا، عبد المنعم عجب 2019) . مصدر سابق ص(31)
(3) الفيا، عبد المنعم عجب (2019) مصدر سابقا ص 272
( 4)الأسطورة في الشعر الرمزي الحر... بدر شاكر السياب انموذجا
(22Jan2022)
www.alriyadh.com (available: 24 Feb 2023)
(22Jan2022)
(5)الفيا، عبد المنعم (. 2019). مصدر سابق (ص (273
6 )الفيا، عبد المنعم (2019). مصدر سابق ص (277)
(7) الفيا، عبد المنعم (2019 )مصدر سابق ص ( 289
(8)الفيا، عبد المنعم(2019) مصدر سابق (ص286)
( 9)الفيا، عبد المنعم (. 2019 ً) مصدر سابق ص (275)
(10)الفيا،، عبد المنعم،)2019) , مصدر سابق284)
(11) (الفيا، عبد المنعم 2019) مصدر سابق ص (275
(12)الفيا، عبد المنعم (2019) مصدر سابق ص (273
(13)ادونيس، 1970 . مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف، ( الديوان )( aldiwan.net
,available : dated Feb 24/ 2023
(14)htt//www:.noor book.com
available dated: Feb 24/2023
kargwell65@yahoo.co.uk
زرياب السودان وكروانه: ساحر البهجة
عبد الكريم ألكابلي والمنجز الابداعي للاداء والمنولوج الداخلي للشاعر: في ' ضنين الوعد'
د. سامية عباس كرجويل
ديباجة
ضنين الوعد أوتار دافئة وعلامة فارقة في الأداء مضافة للمنجز الابداعي للمطرب عبد الكريم الكابلي ، ومن ابداعات الكابلي التي أكسبته التميز في الأداء هي القدرة على إبراز ' المنولوج الداخلي ' للشاعر والذي ياسرك بة ، وهو اُسلوب فني كما ذكره معاوية محمد نور لا يصور المجتمع ولا النقد الاجتماعي بل يركز على التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند الشخص ويربط ذلك ' بموسيقى الروح ' حيث يبرز الإحساس واضطراب الميول والأفكار وتصادمها في لحظة واحدة من عمر الزمان عند شخص ما (1). ان معاوية نور من خلال توظيفه لنظرية
( المعادل الموضوعي) يشير الى ان ليس مهمة الشعر اثارة العاطفة وإنما ترجمة العاطفة والإحساس الى فكر ومنطق ، بإلاضافة الى ذلك فان العاطفة يعبر عنها باللفظ وهو اداة الفكر لا اداة العاطفة ( الفيا، 2019)( 2)، ولهذا نرى ان اداء الكابلي ' لضنين الوعد' التي حظيت بكتير من احياء الأحاسيس والمشاعر من خلال الأداء الابداعي للكابلي اعادة للقصيدة سيرتها الاولى قبل ان يحولها الشاعر الى فكر ومنطق عن طريق اللغة فملاها بكل انواع المشاعر من حب ، ولوعة، واسى، وحزن . و المتأمل لأداء الكابلي الغنائي في 'ضنين الوعد' تجذبه الطاقة الإيحائية الكامنة في استغلال الأبنية الصوتية لتجسيد الحالة الانفعالية والدرامية المدللة عليها.
الكابلي والسيناريوهات الدرامية في المنجز الابداعي للاداء
في استيضاح المنولوج الداخلي للشاعر والذي يعكس شاعريته نجد ان الكابلي تمكن من ان ينقل اليك ذلك المنولوج الداخلي للشاعر فيفك وثاقك من خلال تقمصه ذلك الشعور فينقله لك كمستمع فيحرض الخيال فيسرح المستمع في المضامين والمعاني لينتقل الى عوالم سريالية. وتظهر هذه الصورة جلية عندما يستوقفك الكابلي بما نهى عنه الشاعر مؤكدا ذلك ب " لا" في صيغة امر ناهية حبلى بالامل والحل :" ' لا تقل' أني بعيد في الثرى " هنا ترفع جميع الكوابح في انتظار الامر يكون خيالك قد سرى بك وعرج الى الثريا ومن ثم يهبط بك الكابلي هبوطا تدريجيا الى القرار متقمصا احساس الشاعر بذلك البعد ووصف كيفية التغلب عليه بالحل المقدم لك من الشاعر " فخيال الشعر يرتاد الثريا " حيث تكمن في. أحشاء الثريا التورية التي خباء فيها الشاعر اسم من احبها والتقاها صدفة. وبين الصعود والهبوط يشدك الكابلي الى الديالوج بين الشاعر والمحبوب الكامن في دواخله ففي : " ان تكن انت جميلا فأنا شاعر يستنطق الصخر العصية وفيها استنطق الكابلي المفردة ' استنطق ' فاعتصر موسيقاها الشعرية كما اظهر حركات الاعراب ليراقص التنوين طربا المفردة فيبدو معناها واضحا جليا . وتمييز اداء الكابلي في " ان تكن انت جميلا فأنا شاعر ....يستنطق الصخرة العصية" فاظهر الديالوج بين الشاعر والمحبوب بصورة واضحة ومعبرة يصحب معه حركات الاعراب ليضع المساحيق على المفردة فتظهر سلامة النطق وارسال حرارة المفردة وجذوتها فيحرض الخيال فينتقل المستمع الي فضاء متسع تتراءى فيه الصورة المرسومة في مخيلة الشاعر فيتامل المستمع فيما رمى آلية الشاعر فيحلق في الموقف الذي تم فيه الديالوج وتصوره كما صورة الشاعر بأحاسيسه ، ومن ثم عرج بِنَا الكابلي بصوت ' ابراوي ' مشحون بالأسى كما ارادها الشاعر ان تكون فاظهر الكابلي ذلك ' المنولوج الداخلي ' للشاعر من أحاسيس وانفعالات في المفردة : " وافترقنا " مرسلا ' إلاهة ' بإحساس الالم فهبوط ناعم الى القرار محملا بتأكيد الدمع للألم في : " فما ابصرت شئ " ينطقها مليئة بالحزن والاسى واللوم التي ملا بها النغمة عندما نادى ب " يا ضنين الوعد" حيث يظهر لك لوعة الفراق حتى يكاد ان يعتصر قلبك و دمعك معا، و بالتأمل لأداء الكابلي ووقفاتة لابراز الإيحائية التي رمى اليها الشاعر والتي تعد من سمات شعراء الحداثة حيث تكون الإيحائية خلفية جمالية تضي فضاء النص في الذاكرة الجمالية. وفي الشعر الحديث استخدم ت.س. إليوت (3) الأسطورة وخاص في قصيدته
" الارض الخراب" حيث وظفها من نظرياته النقدية في " المعادل الموضوعي" و " الحس التاريخي" حيث يرى ان لكل شاعر مجيد هو استخدام الأسطورة ( معادلا موضوعيا) و جماليا للنظام ولترتيب الفوضى التي يحسها والذي كلن لها الأثر البعيد والعميق في شعراء الحداثة . وكما درج شعراء الحداثة العرب بتاثير من الشعر الأوربي الى الأسطورة كنظام جمالي او 'معادل موضوعي ' للتعبير عن الرؤية الشعرية في القصيدة وذلك لما تتمتع به الأسطورة من قدر عال من التجريد مما يجعلها قابلة للتحرر من سياقها التاريخي . وقد انتقلت الرمزية الى الشعر العربي على يد عدد من الشعراء من بينهم بدر شاكر السياب ، محمود درويش، صلاح عبد الصبور، عبد الوهاب البياتي، عبد الرحمن شكري ، احمد زكي ابو شادي،و فدوى طوقان . ان الشعراء الرمزيون يعبرون عن افكارهم الشعرية عبر توظيف الأساطير ومنها العنقاء ، والسندباد وشهر زاد كما استلهموا كثير من القصص في أشعارهم من بينها قصة ' صقر قريش' ' واصحاب الكهف ' 'وستدوم ' وغيرها. كما نالت الأساطير الإغريقية الشهيرة مثل 'فاوست وسيزيف ' وبعض المفاهيم الدينية في المذاهب والأديان الاخرى نصيب من الاهتمام وقد لجأ بدر شاكر السياب الى الرمزية في قصائده (4) مشيرا الى ان القيم السائدة لا شعرية والكلمة العليا للمادة فيها لا للروح ولهذا عاد الشاعر ليعبر عن اللاشعور عنده الى الأساطير و الخرافات لانها محتفظة بحرارتها ولانها ليست جزءا من هذا العالم (الفيا، 2019), (5). فالشاعر الحديث عندما يلجأ الى التناصص فهو لا يهدف الى تكراره بل بغرض اعادة إنتاجية بشكل جديد مختلف الرؤى يكمن فيها اهم أغراض البلاغة وبذات الفلسفة الجمالية التي نظر بها إليوت الى القيمة الفنية من توظيف الأسطورة في الشعر أشار الشاعر العربي بدر شاكر السياب الى ان بعض الشعراء العرب المجيدين لم يكتفوا باجترار الأساطير التي سبقهم اليها الشعراء الغربيون بل ابتكروا أساطيرهم الخاصة ومن هؤلاء محمد عبد الحي الذي انفرد بتوظيف أسطورة " السمندل" وكثيرا ما يأتي ذكر "السمندل " مقترنا بالنار في أشعاره وفي قصيدته " العودة الى سنار " ، " والسمندل يغني " ، " والسمندل ملك النهار" في ديوانه حديقة الورد" ( الفيا، 2019) (6)الشعر او الزج بالأسطورة في القصيدة بل تجاوز ذلك الى استغلال طاقاته الإيحائية حتى وان النص المقتبس او الأسطورة تختفي لتبقى في الذاكرة كلوحة خلفية تجمل النص كما في قصيدتة ' السمندل في حافة الغياب ' حيث مزج مزجا جميل مستحسنا بين أسطورة' اوليس ' بطل ملحمة الإلياذة الإغريقية لهوميروس ' ، وقصة السندباد البحري الذي ضاع في البحر بسبب إغواء حوريات البحر بغنائهن البديع فان عظامه سوف تظل باقية أبدا لتتشكل منها حدائق مرجانية والآلي تضيئ سواحل البحار وتكون منارة تهدي البحَّارة الى بر الأمان ، وأسطورة ' السمندل ' التي نحتها محمد عبد الحي من جهة اخرى ، فاستهل قصيدته ' السمندل في حافة الغياب ب:
" لو ضاع في نزوعه البحري، فالعباب/ عبر زمان البحر- والملح سينحتان عظامه المبلورة/ حدائق من صدف تضئ في صيف الليالي المقمره/ على رمال ساحل الغياب."(7) وفي قوله : " العباب والملح سينحتان من عظامه المبلورة حدائق من صدف" فيها تناصص من قول شكسبير في مسرحية ( العاصفة) (the tempest ) والتي تغني فيها احد شخصيات المسرحية لعزاء فرديناند أمير نابولي الذي ان أباه قد مات غرقا في احدى العواصف البحرية وتحولت عيناه الى لؤلؤتان وكل شئ فيه تحول بفعل البحر والملح الى شئ نفيس ونادر" (8 )
ان حلم الانسان بالحياة الابدية والخروج على سلطان الزمن والانتصار على الموت فقد عبر عن هذا الحلم الجميل المستحيل محمد عبد الحي :" حين انكسرت انية الخزف الصينية/ كانت فارتنا تسكن فيها/ هل ظنتها رحم الابدية؟
وفي لحظة نشوة يتماهى الشاعر مع السمندل ويحس بانه انتصر على الموت وصار نديمة :" هنا أنا والموت جالسان/ في حافة الزمان/ وبيننا المائدة الخضراء/ والنرد والخمر والدخان/ من مثلنا هذا المساء" ( الفيا، 2019) (9).
الأسرار النورانية في الخليقة والتكوين والأساطير البابلية :
فالتناص او الاقتباس فهو تضمين الشعر او النثر شيئا من القران او الحديث او بعض الاقوال المأثورة وقد ارتقى محمد عبد الحي عن الاقتباس بصورة مباشرة الى الإيحاء به دون ذكر اسم أسطورة من الأساطير او شخصية في اسطورة من الأساطير(الفيا، 2019) (10) , كذلك اتبع شاعر قصيدة ' ضنين الوعد ' ذات النهج في التناصص من القران وايضاً من الأساطير البابلية فكان الإيحاء والتناص الذي ألقى بظلال جمالية علي النص الشعري وخلق خلفية جمالية للتأمل في فضاء النص الشعري. فالومضة تجسد حلم الشاعر باستمرارية الحياة من خلال التكوين والأجنة وبهذا تمثل " المعادل الموضوعي" فعلى ذات الفلسفة الجمالية نجد التناصص من القران والصياغة الإيحائية لمعجزة ولادة سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام التي انتبذت به مكانا قصيا وكان حفيا كما ورد في الآية الكريمة (22):" فحملته فانتبذت به مكانا قصيا" فكان حفيا وطلب منها :" هزي اليك بِجِذْع النخلة تساقط عليك رطبا جنية" (25). "فكلي واشربي وقري عيننا فإما ترين من البشر احدا قولي أني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا " (26 ).
'فالومضة تجسد حلم الشاعر باستمرارية الحياة من خلال التكوين والأجنة وبهذا تمثل ' المعادل الموضوعي ' لاستمرارية الحياة وتطورها والتي لم يسميها صراحة وهي بذات فلسفة " السمندل " عند محمد عبد الحي في قصيدته " العودة الى سنار" حيث أشار الى طائر ' السمندل ' ولم يذكره بصريح العبارة :" ابصر كيف مره اول ألطيور فوقنا/ ودار دورتين قبل ان يغيب في عتمة النور وفي حديقة المغيب " , وتتضاعف رمزية السمندل في ديوانه
" حديقة الورد الاخيرة" مركزا في قصيدة " السمندل ملك النهار" ، حيث يقول الشاعر محمد عبد الحي: " أنا السمندل/ يعرفني الغابر والحاضر والمستقبل/ مغنيا مستهترا بين مباني العالم المندثرة/ وزهرة دامية في بطن أنثى/ في الدجى منتظرة" ، فكان السمندل معادلا جماليا لحلم الذات الشاعرة بالصيرورة الزمنية والخلود ( الفيا، 2019) (11), والفنيق وأسطورة اله الجنس والخصوبة عند البابليين والسوريين ، وادونيس وهي صفة ماخوذة من اللفظ السومري " أدوّن" " او " أدوناى" بمعنى الرب او الآلة ( الفيا،2019) , كما وان أفروديت آلهة الحب و الجنس الإغريقية محاكاة لقصة تموز وعشتار البابلية( الفيا، 2019) (12)
وعندما يستريح الشاعر احيانا في فسحة الذات بعد طول توهج يأتِ بما تجيش به دواخله ومن أمثلة شعراء الرمزية او الشعر الحر كان ادونيس قائلا: " هذا أنا: لا لست من عصر الأفول / أنا ساعة آلهتكم العظيم/ أتت وخلخلة العقول/ هذا انا- عبرت سحابة/ حبلى بموقعة الجنون/ والتحية يمرق تحت نافذتي ، يقول الاخرين( يرعى قطيع نجومه/ يصل الغرابة بالغرابة)/ أرخت: فوق المئذنتين/ قمر يسوس الأحصنة/ وينام بين يدعى تميمة/ وذكرت: بقعد الهزيمة / جسد العصور/ وهذان مثل الكازمية / ودمشق وبيروت العجوز/ صحراء تزداد الفصول، / دم تعفن- لم تعد نار الرموز/ وتلد المدائن والفضاء، ذكرت لم تكن البقية/ الا دما هرما يموت ويموت بقعة الهزيمة/ جسد العصور/ في خريطة تمتد الخ،( ادونيس ، 1970.(13)
اما الأسطورة البابلية تكمن في أحشائها "أسطورة الخلق" او " أنوما اليش "مانحة فلسفة جمالية للتكوين والخليقة والتي تعلقت باهمية اله بابل الرئيسى " مردوخ" لإعطائه أهمية على غيره من إلهه بلاد الرافدين فهذه الملحمة ليست ترنيمة بل كتبت كمربعات شعرية . وقد ارتبطت بالاحتفالات التي تقام في شهر ابريل/ مايو في التقويم الميلادي اي
( نيسانو ) من الشهر البابلي حيث يحتفل هذا المهرجان بإعادة خلق الارض والمستوحاة من قصة الخلق ' أينوما إيلش' والتي مركزها" الاله مردوخ " (14). وهذا ما إشارة آليه الشاعر صديق مدثر في قصيدتة ضنين الوعد :
" وأبث الليل اسرار الهوى/ واصوغ الصبح ذوبا بابليلة" .؟ لم يكتفي الكابلي بذلك ولم يترفق بِنَا عندما ترفق الشاعر بتلك "الومضة" حينها تفنن في ملئ المفردة كما هائلا من الرقة مدللا على احساس الشاعر 'بترفقه بها' وقد شبهها ضمنيا ' بالجنين' حيث نسج الشاعر أمشاج الخيال لرؤيته للومضة بداية للتخلق الجنيني في إطار محاكاة التكوين الجنيني فتولد نغمة شجية مطربة للاذن.
و بهذا المفهوم فان ولادة القصيدة تحمل في طياتها أحاسيس وهوى ورؤى الشاعر في لحظة محددة من عمر الزمن
لم يغفل الكابلي ذلك وقد تأكد ذلك في أدائه لوصف الشاعر لما صار لتلكم الومضة .
قدم الكابلي أكروبات بصوتة الشجي الاسر فتارة في القرار واُخرى في الجواب وثالثة ابراوي وبين هذه وتلك يرسل إلاهات فيعكس حقيقة 'المنولوج الداخلي ' للشاعر , وأكاد اجزم ان في هذا التنوع من الأصوات والاداء اعتقد انه اضاف الى منجزه الابداعي في الأداء ما يجعله يحتل الصدارة في الخارطة الغنائية السودانية و بهذا التميز يجعل 'ضنين الوعد ' علامة فارقة في اداءه الغنائي ومنجزة الابداعي.
------------------------------
( 1) الفيا، عبد المنعم عجب ( 2019 ). في الأدب السوداني الحديث، الناشر دار مدارات، الطبعة الثانية ص 236
(2) الفيا، عبد المنعم عجب 2019) . مصدر سابق ص(31)
(3) الفيا، عبد المنعم عجب (2019) مصدر سابقا ص 272
( 4)الأسطورة في الشعر الرمزي الحر... بدر شاكر السياب انموذجا
(22Jan2022)
www.alriyadh.com (available: 24 Feb 2023)
(22Jan2022)
(5)الفيا، عبد المنعم (. 2019). مصدر سابق (ص (273
6 )الفيا، عبد المنعم (2019). مصدر سابق ص (277)
(7) الفيا، عبد المنعم (2019 )مصدر سابق ص ( 289
(8)الفيا، عبد المنعم(2019) مصدر سابق (ص286)
( 9)الفيا، عبد المنعم (. 2019 ً) مصدر سابق ص (275)
(10)الفيا،، عبد المنعم،)2019) , مصدر سابق284)
(11) (الفيا، عبد المنعم 2019) مصدر سابق ص (275
(12)الفيا، عبد المنعم (2019) مصدر سابق ص (273
(13)ادونيس، 1970 . مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف، ( الديوان )( aldiwan.net
,available : dated Feb 24/ 2023
(14)htt//www:.noor book.com
available dated: Feb 24/2023
kargwell65@yahoo.co.uk