رداً على مقبل خليل إبراهيم (الأخيرة)
حسن الجزولي
14 March, 2023
14 March, 2023
نقاط بعد البث
إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير أحسن تربيتنا!.
أواصل ردي على القارئ مقبل صديق صفحتي الذي طلب مني التعليق على ما أورده الأستاذ أمادوا حول كتاباتي ومساهماتي المتواضعة،
أشرت إلى أن كتاب (إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير) يعد مساهمة متفتحة أصبح بها الكتاب أحد أهم أدبيات الحزب في كيفية تعامل وابتعاد كوادر الحزب الشيوعي عن السلبيات التي عادة ما تلازم العضوية في جبهة العمل التنظيمي والجماهيري في الشارع.
وحول معالجة الشهيد عبد الخالق لقضية " ضرورة تمسك الكادرالجماهيري بفكر الطبقة العاملة وأيدولوجية الحزب الماركسية"، فقد قدم (تحليلاً دقيقاً لهذه الظاهرة بين المزارعين، فقد كان من المتوقع تحويلهم إلى شيوعيين جيدين وقادة، ولكن ما حدث فقد صار الكادر مسخاً لا ينتمي لا للقرية ولا للمدينة. والنتيجة، فهو يأخذ من المدينة قشور العادات ويصبح فيلسوفاً يحب الأفندية، وقد حدث هذا بالفعل عام 1958 في مشروع الجزيرة حيث انعزل بعض الشيوعيين المزارعين وأصبحوا يحاكون كادر المدينة ويحبون الأفندية"!.
وعليه ،،
نظرت في مساهمة قيمة بعنوان (دور الثوار في القرن 21) لبابلو أكليسياس السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسباني "بوذيموس" وأستاذ العلوم السياسية، والمرشح لاكتساح الانتخابات الاسبانية, يطرح فيها بعض الأفكار لتطوير آليات العمل السياسي، "والتي من شأنها أن تساعد اليسار على التعامل مع الواقع الحالي، وتؤهله للانتصار". وقد رأيت فيها أنها تمثلني خير تمثيل وتجعلني أتبناها جملة وتفصيلاً باعتبارها تعبر عني فيما أطرح حول الجزئية المتعلقة بكتاباتي المتواضعة.
يقول الرفيق أكليسياس ضمن مساهمته:ـ
(أعلم جيداً أن مفتاح فهم تاريخ الخمسمأة سنة الماضية يكمن في ظهور أشكال اجتماعية محدّدة، هي "الطبقات الاجتماعية". لذلك سأروي لكم طرفة: عندما بدأت حركة "15 مايو" من خلال " الاحتجاجات الإسبانية عام 2011" في بويرتا ديل سول، قام بعض طلاب قسم العلوم السياسية الذي أُدرِّس فيه، وهم طلابٌ مُسيّسون للغاية - قرأوا ماركس، وقرأوا لينين- بالمشاركة لأول مرة في حياتهم بمظاهرات مع الناس العاديين، فكانت النتيجة أنهم علّقوا بأسى: "إنهم الناس العاديون لا يفهمون شيئاً! نقول لهم أنتم عمال، حتى وإن كنتم لا تعرفون ذلك! فينظر إلينا الناس كما لو أننا من كوكب آخر، وعاد الطلاب إلى منازلهم في إثر ذلك يائسين قائلين: “إنهم لا يفهمون شيئا!”
كنت أرد عليهم: " ألا ترون أن المشكلة فيكم أنتم؟ ألا ترون أن السياسة لا علاقة لها بكونكم ‘على صواب’، بل هي مرتبطة بالنجاح؟” يمكن للمرء مثلاً أن يمتلك أفضل أدوات للتحليل، ويفهم مفاتيح التطور السياسي منذ القرن السادس عشر، ويعلم أن المادية التاريخية هي أساس فهم الصيرورات الاجتماعية، لكنه ماذا سيفعل بكل ذلك؟ أيصرخ في وجه الناس: “أنتم عمال حتى ولو كنتم لا تعلمون ذلك”؟!.
العدو لا يريد شيئا أكثر من الاستهزاء بنا. يمكننا ارتداء قميص ينطبع عليه رسم "المطرقة والمنجل"، يمكننا أيضاً أن نحمل علماً ضخماً، ثم نعود إلى بيوتنا حاملين ذاك العلم، والعدو يضحك علينا، لأن عامّة الناس، والعمّال، يُفضّلون العدو، يُصدّقونه، ويَفهمونه عندما يتحدّث؛ لكنّهم لا يفهموننا. ربما كنا على حق! وربما سنطلب من أولادنا أن يكتبوا على شاهدة قبرنا ـ بعد أن نموت ـ :ـ "كانوا دائماً على حق، لكن أحداً لم يعرف ذلك"!.
عند دراسة حركات التغيير الاجتماعي الناجحة، سنلاحظ أن مفتاح نجاحها هو خلق هوية توائم بين التحليل وبين ما تشعر به الأغلبية، وهذا أمر صعب جداً لأنه يتطلب منا مواجهة العديد من التناقضات.
هل تعتقدون أن لدي مشكلة ايديولوجية مع الاضرابات العفوية غير المنظمة، ذات الثماني والأربعين أو الاثنتين والسبعين ساعة؟ على الإطلاق لا! المشكلة أن تنظيم أي إضراب لا يرتبط بمدى رغبتي أنا أو رغبتكم أنتم في حصوله؛ بل هو مرتبط بمدى قوة النقابة، والتي لا نملك لا أنا ولا أنتم أي تأثير فيها.
(أنا وأنتم نستطيع أن نتمنى أن تكون الأرض جنة لكل البشرية؛ نستطيع أن نتمنى أي شيء وأن نطبعه على قمصاننا؛ لكن السياسة ترتبط بالقوة، لا بما نتمناه أو نقوله في المجالس المختلفة. في إسبانيا ثمة نقابتان فقط قادرتان على تنظيم إضراب عام: نقابة اللجان العمالية واتحاد العمال العام. هل يعجبني ذلك؟ لا. لكن هذا هو الواقع، والواقع أن تنظيم أي إضراب عام هو أمر صعب جداً.
لقد شاركت ضمن خطوط الإضراب أمام محطات الباص في مدريد. أتعرفون ماذا كان عامّة الناس الموجودين هناك، فجراً، يريدون؟ كانوا يريدون الذهاب إلى أعمالهم. لم يكونوا من "خائني الإضراب"، لكنهم كانوا سيُطردون من أعمالهم بسبب عدم وجود نقابات تدافع عن حقوقهم. العمال الذين يستطيعون الدفاع عن انفسهم - مثل عمّال الموانئ وعمال المناجم- بظهرهم نقابات قوية تدافع عنهم؛ لكن الشبّان الذن يعملون في التسويق الهاتفي، أو مطاعم البيتزا، والفتيات العاملات في متاجر التجزئة، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم دون نقابات.
سيفقد هؤلاء الشبان أعمالهم في اليوم التالي للإضراب، ولن تكونوا أنتم هناك، ولن أكون أنا هناك أيضاً، كما لن تكون أي نقابة هناك كي تجلس مع صاحب العمل وتُعلمه بأن عليه ألا يطرد شخصاً من عمله لممارسته حقه في الإضراب، وتحذّره أن القيام بذلك سيكلفه غالياً. هذا لن يحصل، بغض النظر عن مدى حماستنا للقضية.
السياسة ليست شيئاً على مزاجنا، إنها على ما هي عليه فعلاً في الواقع، فظيعة؛ ولهذا علينا أن نتحدث عن الوحدة الشعبية، وعلينا أن نكون متواضعين. في بعض الأحيان علينا أن نتحدث مع أشخاص لا يحبون المصطلحات التي نستخدمها، ولا تعنيهم المفاهيم التي نستعملها لتفسير الأمور؛ فماذا يعني لنا ذلك؟ يعني أننا كنا مهزومين لسنوات عديدة، والهزيمة المستمرّة لكل ذلك الوقت تعني بالضبط شيئاً واحداً:ـ أن ما يعتبره الناس "أمراً منطقياً" يختلف عما نعتقد نحن بصحته. هذا ليس أمراً جديداً، فالثوريون لطالما عرفوا أن النجاح مرتبط بإمكانية تحويل "الفهم العام" باتجاه التغيير.
سيزار رندويليس، وهو بالمناسبة شخص ذكي جداً، يقول أن معظم الناس ضد الرأسمالية دون أن يعوا ذلك، ومعظم الناس يُدافعون عن الحركة النسوية دون أن يقرؤوا جوديث بتلر أو سيمون دو بفوار. إن أباً يقوم بتنظيف الصحون أو يلعب مع ابنته؛ أو جَدّاً يعلّم حفيده مشاركة ألعابه مع الآخرين؛ هو تحوّل اجتماعي أكثر إيجابية من كل الأعلام الحمراء التي يمكننا حملها في أية مظاهرة. إن لم ندرك أن هذه أمورٌ مُوّحدة لحركتنا، سيظل الخصوم يهزؤون بنا.
هكذا يريدنا الخصوم: صغيرو الحجم، نتحدث بلغة غير مفهومة؛ أقلية تختبئ خلف رموزها التقليدية. هم مسرورون جداً بذلك، لأنهم متأكدون أننا إذا استمرينا في هذا النهج، فلن يكون لنا أي تأثير. يمكننا أن نقدّم خطاباً متطرفاً، و نقول أننا سننظّم اضرابات عامة، ونتحدث عن تسليح الشعب، نُلمّع رموزنا، ونحمل صور الثوريين العظام في مظاهراتنا.. سيكون خصومنا مسرورين! سيضحكون علينا. لكن عندما نجمع مئات، أو آلاف، الأشخاص؛ وعندما نبدأ بإقناع أغلبية الناس، حتى أولئك الذين صوّتوا للخصم- عندها فقط سيشعرون بالفزع. هذا هو ما يُسمى "سياسة"، وهذا ما يجدر بنا تعلّمه.
ثمة زميل تحدث سابقاً عن مجالس العمال السوفييتية خلال عام 1905. كان هناك رجل أصلع عبقري* فهم التحليل الجذري لظرف حاسم. في خضم الحرب، عام 1917، وبعد سقوط النظام في روسيا، قال مقولة بسيطة جداً للروس، سواء أكانوا جنوداً أم عمالاً أم فلاحين، قال: "الخبز والسلام".
عندما قال "الخبز والسلام"، ـ وهما الشيئان اللذان أرادهما الجميع، إنتهاء الحرب والحصول على طعام كافٍ - ورغم أن الكثير من الروس لم يكونوا يعرفون إن كانوا "يساريين" أو "يمينيين"، لكنهم كانوا يعرفون أنهم جوعى؛ قالوا: "ما يقوله الرجل الأصلع صحيح". وكان أداء الرجل الأصلع جيّداً. لم يحدثهم عن "الماديّة الجدلية"، بل عن "الخبز والسلام"، وهذا واحد من أهم دروس القرن العشرين.
إن محاولة تغيير المجتمع من خلال محاكاة التاريخ، أو تقليد الرموز، أمر سخيف. لا يمكن تكرار خبرات الدول الأخرى أو الظروف التاريخية السابقة. الأساس هو تحليل الصيرورات ودروس التاريخ، وأن نفهم بأن "الخبز والسلام" - إن لم يكن متصلاً مع ما يشعر ويفكر به الناس - هو محض تكرار، على شكل مهزلة، لانتصار تراجيدي من الماضي).
(إنتهى)
***
+ قبل الختام أود التعليق على الأستاذ أمادو الذي مضى يقول "بعد وفاة محمد إبراهيم نقد، صاحب البصيرة والأفق الواسع، أهم صوت يساري حالياً هو الأستاذ حسن الجزولي" أؤكد هنا أنه ورغم أن الغرور لن يصيبنا في شئ بأحاسيس الرجل المهم في الحزب، ولكنك يا أستاذ أمادو بالغت في ذلك أشد المبالغات كونك تقارننا برجل في مقام أستاذنا الراحل محمد إبراهيم نقد، مع أن حزبنا يكتظ بمن هم أطول قامة منا بما لا يقاس!. مع وافر الاحترام.
ـــــــــــــــ
* لجنة التفكيك كانت تمثلني وستمثلني لاحقاً أيضاً.
hassangizuli85@gmail.com
إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير أحسن تربيتنا!.
أواصل ردي على القارئ مقبل صديق صفحتي الذي طلب مني التعليق على ما أورده الأستاذ أمادوا حول كتاباتي ومساهماتي المتواضعة،
أشرت إلى أن كتاب (إصلاح الخطأ في العمل وسط الجماهير) يعد مساهمة متفتحة أصبح بها الكتاب أحد أهم أدبيات الحزب في كيفية تعامل وابتعاد كوادر الحزب الشيوعي عن السلبيات التي عادة ما تلازم العضوية في جبهة العمل التنظيمي والجماهيري في الشارع.
وحول معالجة الشهيد عبد الخالق لقضية " ضرورة تمسك الكادرالجماهيري بفكر الطبقة العاملة وأيدولوجية الحزب الماركسية"، فقد قدم (تحليلاً دقيقاً لهذه الظاهرة بين المزارعين، فقد كان من المتوقع تحويلهم إلى شيوعيين جيدين وقادة، ولكن ما حدث فقد صار الكادر مسخاً لا ينتمي لا للقرية ولا للمدينة. والنتيجة، فهو يأخذ من المدينة قشور العادات ويصبح فيلسوفاً يحب الأفندية، وقد حدث هذا بالفعل عام 1958 في مشروع الجزيرة حيث انعزل بعض الشيوعيين المزارعين وأصبحوا يحاكون كادر المدينة ويحبون الأفندية"!.
وعليه ،،
نظرت في مساهمة قيمة بعنوان (دور الثوار في القرن 21) لبابلو أكليسياس السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسباني "بوذيموس" وأستاذ العلوم السياسية، والمرشح لاكتساح الانتخابات الاسبانية, يطرح فيها بعض الأفكار لتطوير آليات العمل السياسي، "والتي من شأنها أن تساعد اليسار على التعامل مع الواقع الحالي، وتؤهله للانتصار". وقد رأيت فيها أنها تمثلني خير تمثيل وتجعلني أتبناها جملة وتفصيلاً باعتبارها تعبر عني فيما أطرح حول الجزئية المتعلقة بكتاباتي المتواضعة.
يقول الرفيق أكليسياس ضمن مساهمته:ـ
(أعلم جيداً أن مفتاح فهم تاريخ الخمسمأة سنة الماضية يكمن في ظهور أشكال اجتماعية محدّدة، هي "الطبقات الاجتماعية". لذلك سأروي لكم طرفة: عندما بدأت حركة "15 مايو" من خلال " الاحتجاجات الإسبانية عام 2011" في بويرتا ديل سول، قام بعض طلاب قسم العلوم السياسية الذي أُدرِّس فيه، وهم طلابٌ مُسيّسون للغاية - قرأوا ماركس، وقرأوا لينين- بالمشاركة لأول مرة في حياتهم بمظاهرات مع الناس العاديين، فكانت النتيجة أنهم علّقوا بأسى: "إنهم الناس العاديون لا يفهمون شيئاً! نقول لهم أنتم عمال، حتى وإن كنتم لا تعرفون ذلك! فينظر إلينا الناس كما لو أننا من كوكب آخر، وعاد الطلاب إلى منازلهم في إثر ذلك يائسين قائلين: “إنهم لا يفهمون شيئا!”
كنت أرد عليهم: " ألا ترون أن المشكلة فيكم أنتم؟ ألا ترون أن السياسة لا علاقة لها بكونكم ‘على صواب’، بل هي مرتبطة بالنجاح؟” يمكن للمرء مثلاً أن يمتلك أفضل أدوات للتحليل، ويفهم مفاتيح التطور السياسي منذ القرن السادس عشر، ويعلم أن المادية التاريخية هي أساس فهم الصيرورات الاجتماعية، لكنه ماذا سيفعل بكل ذلك؟ أيصرخ في وجه الناس: “أنتم عمال حتى ولو كنتم لا تعلمون ذلك”؟!.
العدو لا يريد شيئا أكثر من الاستهزاء بنا. يمكننا ارتداء قميص ينطبع عليه رسم "المطرقة والمنجل"، يمكننا أيضاً أن نحمل علماً ضخماً، ثم نعود إلى بيوتنا حاملين ذاك العلم، والعدو يضحك علينا، لأن عامّة الناس، والعمّال، يُفضّلون العدو، يُصدّقونه، ويَفهمونه عندما يتحدّث؛ لكنّهم لا يفهموننا. ربما كنا على حق! وربما سنطلب من أولادنا أن يكتبوا على شاهدة قبرنا ـ بعد أن نموت ـ :ـ "كانوا دائماً على حق، لكن أحداً لم يعرف ذلك"!.
عند دراسة حركات التغيير الاجتماعي الناجحة، سنلاحظ أن مفتاح نجاحها هو خلق هوية توائم بين التحليل وبين ما تشعر به الأغلبية، وهذا أمر صعب جداً لأنه يتطلب منا مواجهة العديد من التناقضات.
هل تعتقدون أن لدي مشكلة ايديولوجية مع الاضرابات العفوية غير المنظمة، ذات الثماني والأربعين أو الاثنتين والسبعين ساعة؟ على الإطلاق لا! المشكلة أن تنظيم أي إضراب لا يرتبط بمدى رغبتي أنا أو رغبتكم أنتم في حصوله؛ بل هو مرتبط بمدى قوة النقابة، والتي لا نملك لا أنا ولا أنتم أي تأثير فيها.
(أنا وأنتم نستطيع أن نتمنى أن تكون الأرض جنة لكل البشرية؛ نستطيع أن نتمنى أي شيء وأن نطبعه على قمصاننا؛ لكن السياسة ترتبط بالقوة، لا بما نتمناه أو نقوله في المجالس المختلفة. في إسبانيا ثمة نقابتان فقط قادرتان على تنظيم إضراب عام: نقابة اللجان العمالية واتحاد العمال العام. هل يعجبني ذلك؟ لا. لكن هذا هو الواقع، والواقع أن تنظيم أي إضراب عام هو أمر صعب جداً.
لقد شاركت ضمن خطوط الإضراب أمام محطات الباص في مدريد. أتعرفون ماذا كان عامّة الناس الموجودين هناك، فجراً، يريدون؟ كانوا يريدون الذهاب إلى أعمالهم. لم يكونوا من "خائني الإضراب"، لكنهم كانوا سيُطردون من أعمالهم بسبب عدم وجود نقابات تدافع عن حقوقهم. العمال الذين يستطيعون الدفاع عن انفسهم - مثل عمّال الموانئ وعمال المناجم- بظهرهم نقابات قوية تدافع عنهم؛ لكن الشبّان الذن يعملون في التسويق الهاتفي، أو مطاعم البيتزا، والفتيات العاملات في متاجر التجزئة، لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم دون نقابات.
سيفقد هؤلاء الشبان أعمالهم في اليوم التالي للإضراب، ولن تكونوا أنتم هناك، ولن أكون أنا هناك أيضاً، كما لن تكون أي نقابة هناك كي تجلس مع صاحب العمل وتُعلمه بأن عليه ألا يطرد شخصاً من عمله لممارسته حقه في الإضراب، وتحذّره أن القيام بذلك سيكلفه غالياً. هذا لن يحصل، بغض النظر عن مدى حماستنا للقضية.
السياسة ليست شيئاً على مزاجنا، إنها على ما هي عليه فعلاً في الواقع، فظيعة؛ ولهذا علينا أن نتحدث عن الوحدة الشعبية، وعلينا أن نكون متواضعين. في بعض الأحيان علينا أن نتحدث مع أشخاص لا يحبون المصطلحات التي نستخدمها، ولا تعنيهم المفاهيم التي نستعملها لتفسير الأمور؛ فماذا يعني لنا ذلك؟ يعني أننا كنا مهزومين لسنوات عديدة، والهزيمة المستمرّة لكل ذلك الوقت تعني بالضبط شيئاً واحداً:ـ أن ما يعتبره الناس "أمراً منطقياً" يختلف عما نعتقد نحن بصحته. هذا ليس أمراً جديداً، فالثوريون لطالما عرفوا أن النجاح مرتبط بإمكانية تحويل "الفهم العام" باتجاه التغيير.
سيزار رندويليس، وهو بالمناسبة شخص ذكي جداً، يقول أن معظم الناس ضد الرأسمالية دون أن يعوا ذلك، ومعظم الناس يُدافعون عن الحركة النسوية دون أن يقرؤوا جوديث بتلر أو سيمون دو بفوار. إن أباً يقوم بتنظيف الصحون أو يلعب مع ابنته؛ أو جَدّاً يعلّم حفيده مشاركة ألعابه مع الآخرين؛ هو تحوّل اجتماعي أكثر إيجابية من كل الأعلام الحمراء التي يمكننا حملها في أية مظاهرة. إن لم ندرك أن هذه أمورٌ مُوّحدة لحركتنا، سيظل الخصوم يهزؤون بنا.
هكذا يريدنا الخصوم: صغيرو الحجم، نتحدث بلغة غير مفهومة؛ أقلية تختبئ خلف رموزها التقليدية. هم مسرورون جداً بذلك، لأنهم متأكدون أننا إذا استمرينا في هذا النهج، فلن يكون لنا أي تأثير. يمكننا أن نقدّم خطاباً متطرفاً، و نقول أننا سننظّم اضرابات عامة، ونتحدث عن تسليح الشعب، نُلمّع رموزنا، ونحمل صور الثوريين العظام في مظاهراتنا.. سيكون خصومنا مسرورين! سيضحكون علينا. لكن عندما نجمع مئات، أو آلاف، الأشخاص؛ وعندما نبدأ بإقناع أغلبية الناس، حتى أولئك الذين صوّتوا للخصم- عندها فقط سيشعرون بالفزع. هذا هو ما يُسمى "سياسة"، وهذا ما يجدر بنا تعلّمه.
ثمة زميل تحدث سابقاً عن مجالس العمال السوفييتية خلال عام 1905. كان هناك رجل أصلع عبقري* فهم التحليل الجذري لظرف حاسم. في خضم الحرب، عام 1917، وبعد سقوط النظام في روسيا، قال مقولة بسيطة جداً للروس، سواء أكانوا جنوداً أم عمالاً أم فلاحين، قال: "الخبز والسلام".
عندما قال "الخبز والسلام"، ـ وهما الشيئان اللذان أرادهما الجميع، إنتهاء الحرب والحصول على طعام كافٍ - ورغم أن الكثير من الروس لم يكونوا يعرفون إن كانوا "يساريين" أو "يمينيين"، لكنهم كانوا يعرفون أنهم جوعى؛ قالوا: "ما يقوله الرجل الأصلع صحيح". وكان أداء الرجل الأصلع جيّداً. لم يحدثهم عن "الماديّة الجدلية"، بل عن "الخبز والسلام"، وهذا واحد من أهم دروس القرن العشرين.
إن محاولة تغيير المجتمع من خلال محاكاة التاريخ، أو تقليد الرموز، أمر سخيف. لا يمكن تكرار خبرات الدول الأخرى أو الظروف التاريخية السابقة. الأساس هو تحليل الصيرورات ودروس التاريخ، وأن نفهم بأن "الخبز والسلام" - إن لم يكن متصلاً مع ما يشعر ويفكر به الناس - هو محض تكرار، على شكل مهزلة، لانتصار تراجيدي من الماضي).
(إنتهى)
***
+ قبل الختام أود التعليق على الأستاذ أمادو الذي مضى يقول "بعد وفاة محمد إبراهيم نقد، صاحب البصيرة والأفق الواسع، أهم صوت يساري حالياً هو الأستاذ حسن الجزولي" أؤكد هنا أنه ورغم أن الغرور لن يصيبنا في شئ بأحاسيس الرجل المهم في الحزب، ولكنك يا أستاذ أمادو بالغت في ذلك أشد المبالغات كونك تقارننا برجل في مقام أستاذنا الراحل محمد إبراهيم نقد، مع أن حزبنا يكتظ بمن هم أطول قامة منا بما لا يقاس!. مع وافر الاحترام.
ـــــــــــــــ
* لجنة التفكيك كانت تمثلني وستمثلني لاحقاً أيضاً.
hassangizuli85@gmail.com