من الشوق ألوان وأنماط عتاق ما ندر ولا يخطر على عقل بشر

 


 

 

عزيزي القاريء الموقر ، رمضان كريم وأدعوك معي رفقة سياحية خلال هذه الأيام المباركة وقد أكرمنا الله بنعمة العيش والحياة وصوم تحقق حتى فى هذا العام الهجري “1444” الفريد من نوعه تميزا في تقويم الزمن. حتى من منظور حسابي أجده يتكون من أربعة أرقام مجموعها يصغر مجتمعا في الرقم 13 وهذا بدوره أجد مجموع أرقامه هو الرقم أربعة (4=3+1). عام الأربعة هذا سوف لن يتكرر مثله رقم مميزا جديدا إلا بعد مرور 111 سنة من يومنا هذا.

ربما أكون قد ذكرت فى مناسبة عَدَّتْ أن أحد القراء الكرام قد بعث لي مرة رسالة قصيرة كانت فى حدود الأدب والإحترام يصفني بأنني "مريض غربة" وقد أجبته بنفس قدر الود والإحترام. السبب أنه لاحظ رغم نعيم الدنيا الذي نعيشه تكرار حنيني وأشواقي للوطن والأهل والسكن "وإن كان فى بادية من بوادي الشمال أو الشرق أو الغرب وجنوب البلاد" ذكرى تتعدد وكل يوم تتجدد. لا غرابة فى توجهي هكذا لأن تلك الأماكن فى إعتباري وإحساسي المكنون كلها وطن لي بحكم زياراتي لها وما تركته لي فيضاً لا ينضب معينه من الذكريات الجميلة والصور التي لا يخبو توهج ألقها، كانت مع رفقة وصحبة طيبة، لكن هيهات خلود المستحيل أو تحقق كل الرغبات الإنسانية أو العودة إلي تكرار ماضي مضى .

العنوان أعلاه لا يخلوا من الدوران في فلك النوستالجيا لكن هذه المرة أعني به الشوق في ثوب آخر وهو لأحباب أرواحهم تسبح في تخوم البرزخ الذي يُعجز خيالنا وتفكيرنا كونه عالم غيب لا يمكننا تصوره ومن المستحيل الغور في البحث عن ما يدور فيه . لذلك قد يبدو غريباً مثل هذا الشوق والحنين إلي الراحلين عنا وهم اليوم في عالم آخر، وفى الواقع بيننا كثيرون يعانون من هذا الشوق صباحاتهم ولياليهم وحتى ربما خلال أحلام نومهم. فى هذا المضمار قد تجلى قديماً سلطان العاشقين " إبن الفارض" عليه رحمة الله رقة وبلاغة فى القول والوصف وحنينه لحبيب قد لحق بالرفيق الأعلى " قط لم يراه من قبل" وإن كان ذلك منذ قرون عديدة "بالطبع هو محمد المصطفي صلى الله عليه وسلم " وكذلك حنينه لأماكن في الحجاز وبواديه وشعابه والمدينة فكلها كانت تذكي شجونه .فى القصيدة المرفقة أدناه قمة التجليات الروحانية في نظري خاصة البيت الذي فيه يقول:
"وأبيت سهرانا أمثل طيفه
للطرف كي ألقى خيال خياله"
ما أتعبها معاناة الحب ومعاناة السهر ليس لرؤية شخص الحبيب بعينه بل حتى التحسب للقيا خيال الخيال ! بهذه البلاغة الرائعة في تعبير الشوق إلي رؤية المحبوب قد سبق بقوة ابن الفارض كل من أتى من بعده فكان كالفنان الماهر الذي ينحت من الصخر العصي تمثالا جميلا يكاد ينطق. وفي السودان مثال ذلك تعبير ورد في أغنية قصيدة الشاعر أبوصلاح التي فيها يقول "أرحم يا سمير قلبي الما نساكا ـ أسمح لي بنظرة ـ ولو في الطيف عساكا". وأنا مثل المرحوم أبو صلاح أمثل دائما في الطيف خيال أهلي وأحبابنا الذين رحلوا عنا وأجد في ذلك راحة ومؤانسة خلال لحظات أخلع فيها رداء الدنيا الغشاش الذي لا يستر من برد ولا حرور. وفي هذا المجال كنت مرة في حوار ممتع مع أخي السيد حسن تاج السر الذي قال لي بحسرة " والله صرنا قلة، أهلنا وأحبابنا تركونا نعاني الوحدة ووحشة الفراق والفراغ الذي تركوه" حتي الديار من بعدهم حزنت وتشلعت أبوابها وشبابيكها وتكسرت حيطانها فصارت خرابا. قلت له أنا أشعر بالراحة عندما أزورهم حتى في برزخهم اتونس معهم في النوم والصحيان واستعيد الذكريات الجميلة وكل الأفراح والليالي الملاح التي كانت تجمعنا فأشعر براحة نفسية تبرد نار البعد والغربة وحزنها الحارق وتحيل دنياي إلي نعيم غير مادي لكنه بحمد الله هو عندي خير المكسب، وكلنا رغم معاناة هذا النوستالجيا للراحلين فإننا حتما على موعد بأننا اليوم أو غدا سنلتقي والله بإذنه راض عنا بكرمه وجوده ورحمته إذا سلكنا الطريق الصحيح .وكما قال الكاتب الراحل غسان كنفاني في روايته عالم ليس لنا "الغزلان تحب أن تموت عند أهلها، الصقور لا يهمها أين تموت". إننا والله نحن الغزلان التي ليست فقط تحب وطنها بل في الواقع هي متيمة حتى بحب الراحلين الكثيرين، اليوم هم تحت الأرض وتحت رحمة عزيز مقتدر ، و٫حن نعيش عالم ليس لنا ، لا للصقور التي لا تؤمن بوطن ولا لجمال ريشها ولا ما تأكل حلالاً أم غير ، ولا ننزعج متى وأين تموت. نعوذ بالله من أكل الصقور وموت الصقور. الرحمة يارب لموتانا وموتى المسلمين

ختاماً متعة السياحة الروحانية العرفانية مع سلطان العاشقين ، عليه رحمة الله:
ما بين ضال المنحنى وظلاله
عمر بن الفارض

ما بَيْنَ ضَالِ المُنْحَنى وظِلاَلِه
ضَلّ المُتَيَّمُ واهتدى بضلالِهِ
وبذلِكَ الشِّعبِ اليَماني مُنْيةٌ
للصبّ قد بَعُدَتْ على آمالِهِ
يا صاحبي هذا العقيقُ فقِفْ به
مُتَوالِهاً إن كُنْتَ لستَ بوالِه
وانظُرْهُ عنّي إنّ طرْفي عاقني
إرسالُ دمعي فيه عن إرْساله
واسْأَلْ غزالَ كِنَاسِهِ هل عندهُ
عِلْمٌ بقَلبي في هواهُ وحاله
وأظُنّهُ لم يدْرِ ذُلّ صَبابتي
إذ ظَلّ مُلْتَهِياً بعِزّ جَماله
تَفْدِيهِ مُهْجَتيَ التي تلِفَتْ ولا
مَنٌّ عليه لأنّها مِنْ ماله
أَتُرى درى أنّي أحِنّ لهَجْرِهِ
إذ كنتُ مُشْتَاقاً لهُ كوِصاله
وأَبِيتُ سَهراناً أُمَثّلُ طَيفَه
للطّرْف كي ألقى خَيالَ خَياله
لا ذُقْتُ يوماً راحةً من عاذلٍ
إنْ كنتُ مِلْتُ لقِيلهِ ولِقاله
فَوَحَقّ طيبِ رضَى الحبيب ووَصلِهِ
ما مَلّ قلبي حُبّهُ لمَلاله
واهاً إلى ماء العُذَيْب وكيفَ لي
بحَشَايَ لو يُطْفَى بِبَرْدِ زُلاله
ولقدْ يَجِلّ عن اشتياقي ماؤه
شَرَفاً فَوَاظَمِئي لِلامعِ آله

aa76@me.com

 

آراء