الحرب والفيتو والحل السياسي

 


 

 

أن الحرب الدائرة في السودان بين الجيش و مليشيا الدعم السريع، هي نتيجة لمشكل تحكمه أجندة سياسة، عجزت النخب مدنية و عسكرية حله عبر الحوار، باعتبار أن الأغلبية تبنت نظرية السلطة، أي القبض على مفاصل السلطة دون السماح لمشاركة الآخرين، و القوى التي تتصارع تنقسم إلي أربعة مجموعات هي الأبرز في الصراع، هناك البعض الذين لديهم أجندة وطنية ساعية إلي حلول جذرية للمشكلة من خلال حوار جامع سميه مؤتمر عام مؤتمر دستوري، المهم أن الحوار هو وحده الطريق للحل، و بعض القوى أجندتها ذاتية ليس لها علاقة بالوطنية أنما هي أجندة حزبية و شخصية، و هذه المجموعة لا ترى في المسرح غير ظلها، و البعض الأخر ليس له أجندة و لكنه يعتبر جسرا لنفوذ خارجي له أجندة خاصة مرتبطة بثروات السودان و كيفية استغلالها، و المجموعة الأخيرة يمثلها الشعب السوداني الذي دائما يصنع الورات و الانتفاضات و يغيب بعد سقوط انظمة الحكم الشمولية عن المسرح بسبب عدم تنظيه في كتلة واحدة تتسيد الموقف.
. هذا الرباعي تتعمق خلافاته و لا يوجد بينهم مشتركات يمكن البناء عليها.، الأمر الذي لا يجعل هناك أملا في حوار وطني يخرج البلاد من هذه الأزمة. وستظل معركة الصراع السياسي دائرة امن يستطيع الوصول للسلطة دون الآخرين، أما شعارات الحرية و التحول الديمقراطي و غيرها تستخدم بهدف المناورة، ألان الحرب الدائرة تتحكم فيها أجندة خارجية واضحة للكل، إلا الذين في أعينهم غذى. و الخروج من هذه الأزمة في غاية الصعوبة لأنه محكوم بالفيتو، من الأغلبية، كل جانب يرفض مشاركة الجانب الأخر عندما يعتقد أن زمام الأمر أصبح في يده. أي كل يريد إقصاء الأخر و عزله من ساحة العمل السياسي. في هذه الأجواء التي تريد أن تفرض معادلات صفرية، تكثر فيها الفزاعات لآن كل جانب يعتقد أي رأي أخر مضاد يجب قمعه. لذلك لا تجد أن هناك مجموعة تستطيع أن تفكر خارج الصندوق. بعد وقوع هذه الحرب العينة التي دمرت البنية التحتية للدولة، و ممتلكات المواطنين في العاصمة و أقاليم دارفور و أيضا جزء من كردفان. لابد أن يبرز تيارا جديدا لا يؤمن بحق الفيتو بل لكل مجموعة صوت واحد يتساوى معه الآخرين.
في ظل هذه الأجواء الغاتمة قرأت مبادرة قدمها أربعة أشخاص لهم علاقة بالهم الوطني و ناشطين في الساحة السياسية هم ( الدكتور الباقر العفيف و الدكتور بكري الجاك و الدكتور سليمان بلدو و الأستاذ نور الدين ساتي) و المبادرة بعنوان ( وثيقة توافق بين القوى المدنية من أجل العمل الوطني المشترك... فاعلون مدنيون سودانيون يتحدثون بصوت واحد) من حيث المبدأ في جو الحرب أي مبادرة تنقل الناس لحوار مسألة مطلوبة و مقبولة، و الانتقال من الحرب باعتبارها الأداة السياسة الأشد عنفا إلي السياسة الناعمة بهدف التعامل مع العقل دون السلاح أيضا مسألة مقبولة، لكن المبادرة أيضا واقفة في حدود تجعلها تعبر عن كتلة سياسية معينة، و هي الكتلة التي تتفق على المباديء التي جاءت في ( إعلان الحرية و التغيير) الذي كان قد تم توقيعه من قبل العديد من القوى السياسية و المدنية قبل سقوط النظام في يناير 2019م، لكنه لم يرع للتطورات الجديدة التي حدثت بعد سقوط النظام حتى اليوم،
لأنه يخاطب قوى حددها و يعتبر الحوار محصورا و غير مفتوح لمعالجة الأسباب الجذرية التي قادت للحرب. تعرف الوثيقة القوى التي تريد مخاطبتها هي " القوي المدنية التي تؤمن بالتغيير المدني الديموقراطي وتعمل من أجله، وبمبادئ وأهداف ثورة ديسمبر المجيدة بمختلف تكويناتنا المهنية والفئوية والسياسية والاجتماعية " بالإضافة إلي " لجان المقاومة في المدن والقري والأحياء، ومنظمات المرأة والشباب ومنظمات المجتمع المدني والتنظيمات النقابية في كافة أنحاء السودان والتي يقوم أفرادها متطوعين بالاستجابة لحالات الطوارئ الطبية وكافة الاحتياجات الأخرى التي تتعلق بالإغاثة والإيواء والبنيات الأساسية منذ اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023." إلي جانب " الكيانات المؤسسة التي تم إنشاؤها قبل أو بعد اندلاع النزاع المسلح من قادة الفكر ومروجي مبادرات الوساطة المحلية لتفادي الأزمة وإنهاء الصراع المسلح بمجرد اندلاعه وتوحيد كلمة المدنيين لاستعادة مسار السودان إلى انتقال ديمقراطي بقيادة مدنية." أن تحديد القوى تؤكد أن المبادرة لا تريد أن تفتح كل الجرح، و هذه تعود للاجواء التي خلقها الصراع أن تجعل كل مجموعة أو حتى الأفراد لا يستطيعون عبور الجسر يكتفون فقط بالوقف على الضفة و مغازلة الجانب الأخر. و ايضا حالة الجمع في المخاطبة هي أيضا إشكالية المثقفين الذين تربوا في حضن اليسار و اليمن (القوى الأيديولوجية) أنها دائما تستلف لسان العامة و تتحدث بأسمه حتى لا تتعرض لعملية تجريح من إحدى الجانبين.
و تجد المبادرة تقول في خاتمتها " تم اعداد هذه الوثيقة لتكون أساسا للتفاهم والتشاور بين الجهات الموقعة عليها للاتفاق حول آليات وقيادات العمل المشترك. وهذه الوثيقة ملك للجميع، ولا تدعي أية جهة أو أي شخص ملكيتها أو الأسبقية أو الفضل في صياغتها، بل هو عمل وطني خالص لجمع الشمل وتوحيد الإرادة والكلمة والعمل المشترك." و كان يمكن أن يقدم الأربعة مبادرة وطنية قليلة التوصيف، بأنها مقدمة لكل السودانيين الذين يؤمنون بعملية التحول الديمقراطي. و معلوم أن عملية التحول الديمقراطي تعني إبعاد الجيش تماما من العمل السياسي. لكن المشكلة التي تواجه أي مبادرة و تعيقها أن تؤدي أهدافها... أن كل مجموعة تريد أن تفرض ما تؤمن به في عملية التحول الديمقراطي على الأخرين، رغم أن الديمقراطية تحتاج لتوافق قطاع عرض اجتماعي حتى تتحصن به. ففرض الأراء و الشروط هو عمل يحد من الحوار.
و المبادرة نفسها لم تتحدث عن أهم قضيتين اساسيتين، تعتبران حجز الزاوية في الأزمة السودانية، و أي تحرك دون إيجاد حلول لكليهما محكوم عليه بمواجهة تحديات كبيرة. الأولى قضية مليشيا الدعم السريع هل ستظل المليشيا باقية بكل عتادها العسكري أم تدمج في القوات المسلحة؟ المسألة الثانية قضية ( الإسلاميين) كيف تتعامل معها المبادرة؟ تتجاهلها أم تحكم عليهم بالإعدام جميعهم، أم تفتح حوارا معهم؟ هذه أسئلة مهمة و هي تشكل تحديات لعملية التحول الديمقراطية في البلاد، لأن هناك رأي يعتقد تجاهلهم و يترك الأمر للمجتمع الدولي للتعامل معهم، و هذا رأي لا اعتقد فيه أي قيمة وطنية. أن أي مبادرة يجب أن تجاوب على الأسئلة الصعبة و تطرحها دون حرج، فالمحاولة تجاهلها يؤزم المشكلة و يعقدها أكثر. و البعض يتخوف من سهام بعض مجموعات من اليسار، الذين نضب خيالهم و أصبحوا هم أنفسهم يشكلون عقبة أمام أي مبادرة وطنية تحاول أن تبحث عن مخرج من الأزمة.
أن العمل من أجل تقديم مبادرة في ظروف الحرب تعتبر تحديا للعقل السياسي السوداني و حتى لمجموعات المثقفين، و يجب التعامل معها بكل إيجابية دون الجنوح لحالات المعادة التي اصبحت سمى بارزة في المجتمع. و على مقدمي المبادرة يجب أن تكون صدورهم واسعة و عقولهم مفتوحة، في بيئة حالة الخصام تجاوزت المعقول. لكن دائما هناك ضوء في نهاية النفق. المبادرة تحتاج لحوارات مفتوحة و نقاش حولها، رغم أنني لا اعرف الحدود المسموح بها في الحوار من قبل أصحابها. عليه لهم التحية و التقدير. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com
/////////////////////////

 

آراء