في تذكر الكابيتان عبدالعال
د. عبد الوهاب الأفندي
30 June, 2023
30 June, 2023
بالأمس، في يوم عيد النحر، والحجيج آيبون من عرفات بعد يوم الحج الأكبر بالمغفرة والرضوان وجبال من الثواب، طرق عبدالعال الشريف إدريس باب السماء راجياً رحمة الغفور، بعد معاناة طويلة مع المرض، ندعو الله أن تكون كفارة من كل كبيرة وصغيرة. كان رحمه، ضحية للوضع الحالي في السودان، الذي فاقم وضعه الصحي، نسأل الله لأهلنا الفرج، وأن يكف يد المجرمين البرابرة.
من بين تلك الثلة من بضعة وعشرين شاباً سودانياً تجمعوا معاً في صيف عام 1976 في حرم مدرسة أكسفورد للطيران الملحق بمطار مدينة كارلايل في شمال غرب بريطانيا، كان عبدالعال يتألق بموهبة طبيعية في الفكاهة غير المتكلفة. كان هادئاً خفيض الصوت (إلا حين يعتدل مزاجه، فيتحفنا من حين لآخر بخطبة عصماء في إدانة سياسة السادات الانفتاحية أو ذم الرأسمالية)، ولكن يكاد كل تعليق يتفوه به يجعلك تنفجر في ضحك لا إرادي. في أول جولة لنا في صيف بريطانيا (وكان صيفاً حاراً أصاب بريطانيا فيه جفاف غير مسبوق، ما عدا منطقتنا المعروفة بمنطقة البحيرات، فقد نجت منه) طوفنا فيها بشمال شرق انجلترا وغربها وبعض نواحي اسكتلندا، وقفنا على تلة خضراء تشرف على مدرسة ابتدائية. وبينما كنا نتأمل المنظر، خرج الأطفال للعب، بملا بسهم الملونة وصخبهم المحبب، وهم في غاية السعادة والتألق. عندها اتجه نحونا عبدالعال قائلاً : "علي بالطلاق إذا لم يقم كل منكم برفع قضية ضد أسرته بمجرد عودتنا إلى السودان، فلن أكلمه بعدها أبداً. فهل هذه طفولة وطفولتنا هناك كانت طفولة؟"
لم تكن تلك فترة سهلة، فقد كان تلك أول مرة يغادر فيها الجمع الوطن والأسرة لفترة كهذه، وقد كان الحنين جارفاً للأهل في تلك السن اليافعة، حتى أن بعضنا مرض منه. وكان هناك التخوف من الفشل، فمهنة الطيران متطلبة وليس فيها تسامح. ولعل كل هذا ما ساهم في تعمق حبال الود بين تلك المجموعة، التي ما تزال متينة بين أفرادها التي كانت تمثل كل أصقاع السودان: دارفور وكردفان وجبال النوبة والجزيرة ومدن الخرطوم والشمالية، وانضم إلينا لاحقاً الكابتن سبت من الجنوب.
ورغم أنني تركت المهنة مبكراً وتحولت إلى الحياة الأكاديمية والعمل الإعلامي، فقد زاد توثق علاقتي بالمجموعة أكثر. فمنذ انتقالي إلى لندن في مطلع الثمانينات، كنت على موعد مع طائرة سودانير (سقى الله تلك الأيام التي كان لبلادنا فيها شركة طيران) مرتين على الأقل كل الأسبوع، حيث كان جرس الهاتف يرن بالتحية من أحد زملائنا الذي كان يقود الطائرة. وغالباً ما كان يحمل رسائل ومتعلقات من الأسرة، فأخف إلى فندق المطار، حيث كنت في السنوات الأولى أسكن على بعد عشرين دقيقة من المطار، فأصحبه إلى المنزل. ولعلها كانت مصادفة أن أول هاتف وصلني بعد أسابيع من استقراري في بريطانيا جاء من عبدالعال. وكنا كثيراً ما نلتقي بحضور صديقنا وزميلنا في مدرسة الطيران محمد نصر من أبناء لقاوة، الذي بقي في لندن وعمل هناك.
وفي إحدى زياراته إلى لندن مع أسرته خرجنا من المنزل وكان يدفع أحد أطفاله في عربة، فأخذ الطفل يبكي، فقال: غريب أطفال هذا الزمان! أنا لم أكن أبكي أبداً عندما كانت والدتي تدفعني بالعربة في طرق شندي! وكان عبدالعال قد فقد كلا والديه مبكراً، وهو فقد لا بد أن يكون أثر عليه. ولكن حتى هذا كان يتخذ منه موقع تندر، فكنا إذا أقبلنا على طعام أو شراب، يقول: يا جماعة، زيدوني قليلاً، فأنا يتيم قبرين!
كان رحمه الله قد فجع مبكراً في زوجته وأم أطفاله زينب، التي كان عماد حياة الأسرة، فأصابه من ذلك حزن لا يبلى، وقد ساهم الاكتئاب في تدهور حالته الصحية. مع ذلك فإنه تعامل بصبر وجلد مع هذا الفقد الجلل، وأكب على العناية بأطفاله. وفي آخر مرة التقيته فيها في الخرطوم منذ بضع سنوات في عزاء صديق طيار، كان فكهاً كعادته. وقد تندر معي وزوجتي حول شكوى زوجته الثانية من أنها لم ترزق بأطفال، فداعبها قائلاً: وهل رأيت أبنائي وبناتي يتسابقون على إقطاعي جناحاً في فندق الهيلتون؟
كنا قد فقدنا قبل ذلك من هذه الثلة الكابتن عمر نصر (كباكا)، الذي أسقط متمردو الحركة الشعبية طائرته بركابها بصاروخ في عملية إجرامية مقصودة في صيف عام 1985 قرب ملكال، ثم الكابتن جعفر عثمان، الذي سقطت به طائرة مروحية كان يقودها في شرق السودان بعد ذلك بقليل، ثم بعد ذلك كابتن الجيلي الذي رحل في جدة. وأخيراً الكابتن عوض بلال جاد الله، ود المقدم (وهي رتبة دينية في الطريقة القادرية، وليست رتبة عسكرية) الذي كان يقود طائرة الخطوط الجوية التي سقطت في بورتسودان في يوليو من عام 2003، ولم ينج منها سوى طفل حماه حضن أمه. رحمهم الله جميعاً.
وبدوره فإن أخانا عبدالعال كان أحد ضحايا مصائب السودان الكثر وجرائم مجرميه، وقسوة قلوب المسؤولين العرب. فقد حمله أبناؤه بعد أن اشتد عليه المرض، إلى معبر أرقين لتلقي العلاج في مصر، إلا أنه بقي أكثر من شهر في الانتظار بدون أدنى اعتبار لحالته الحرجة، وأعيد بعد أن تقطعت السبل إلى منزله في أم درمان حيث لقي ربه.
اللهم إن عبدك عبدالعال قدم إليك في هذه الأيام من أيام نفحاتك، وقد بسطت فيها يد المغفرة للطالبين، وأغدقت الأجر للعاملين، وقبلت التوبة من التائبين، وقد أصيب بما أنت به عليم، وضاقت عليه وعلى أهل بلده السبل، فقبضته إليك بمشيئتك. اللهم فأسبغ عليه من مغفرتك ورضوانك ما أنت به جدير، واجعل ما أصابه كفارة لكل ذنب، وتقبله في التائبين المقبولين. اللهم ألهم أسرته وذريته وأحبته الصبر، وأحسن عزاءهم وعظم أجرهم، إنك أنت البر الرؤوف الرحيم.
نقلا من صفحة الدكتور عبدالوهاب الافندي على الفيس بوك
من بين تلك الثلة من بضعة وعشرين شاباً سودانياً تجمعوا معاً في صيف عام 1976 في حرم مدرسة أكسفورد للطيران الملحق بمطار مدينة كارلايل في شمال غرب بريطانيا، كان عبدالعال يتألق بموهبة طبيعية في الفكاهة غير المتكلفة. كان هادئاً خفيض الصوت (إلا حين يعتدل مزاجه، فيتحفنا من حين لآخر بخطبة عصماء في إدانة سياسة السادات الانفتاحية أو ذم الرأسمالية)، ولكن يكاد كل تعليق يتفوه به يجعلك تنفجر في ضحك لا إرادي. في أول جولة لنا في صيف بريطانيا (وكان صيفاً حاراً أصاب بريطانيا فيه جفاف غير مسبوق، ما عدا منطقتنا المعروفة بمنطقة البحيرات، فقد نجت منه) طوفنا فيها بشمال شرق انجلترا وغربها وبعض نواحي اسكتلندا، وقفنا على تلة خضراء تشرف على مدرسة ابتدائية. وبينما كنا نتأمل المنظر، خرج الأطفال للعب، بملا بسهم الملونة وصخبهم المحبب، وهم في غاية السعادة والتألق. عندها اتجه نحونا عبدالعال قائلاً : "علي بالطلاق إذا لم يقم كل منكم برفع قضية ضد أسرته بمجرد عودتنا إلى السودان، فلن أكلمه بعدها أبداً. فهل هذه طفولة وطفولتنا هناك كانت طفولة؟"
لم تكن تلك فترة سهلة، فقد كان تلك أول مرة يغادر فيها الجمع الوطن والأسرة لفترة كهذه، وقد كان الحنين جارفاً للأهل في تلك السن اليافعة، حتى أن بعضنا مرض منه. وكان هناك التخوف من الفشل، فمهنة الطيران متطلبة وليس فيها تسامح. ولعل كل هذا ما ساهم في تعمق حبال الود بين تلك المجموعة، التي ما تزال متينة بين أفرادها التي كانت تمثل كل أصقاع السودان: دارفور وكردفان وجبال النوبة والجزيرة ومدن الخرطوم والشمالية، وانضم إلينا لاحقاً الكابتن سبت من الجنوب.
ورغم أنني تركت المهنة مبكراً وتحولت إلى الحياة الأكاديمية والعمل الإعلامي، فقد زاد توثق علاقتي بالمجموعة أكثر. فمنذ انتقالي إلى لندن في مطلع الثمانينات، كنت على موعد مع طائرة سودانير (سقى الله تلك الأيام التي كان لبلادنا فيها شركة طيران) مرتين على الأقل كل الأسبوع، حيث كان جرس الهاتف يرن بالتحية من أحد زملائنا الذي كان يقود الطائرة. وغالباً ما كان يحمل رسائل ومتعلقات من الأسرة، فأخف إلى فندق المطار، حيث كنت في السنوات الأولى أسكن على بعد عشرين دقيقة من المطار، فأصحبه إلى المنزل. ولعلها كانت مصادفة أن أول هاتف وصلني بعد أسابيع من استقراري في بريطانيا جاء من عبدالعال. وكنا كثيراً ما نلتقي بحضور صديقنا وزميلنا في مدرسة الطيران محمد نصر من أبناء لقاوة، الذي بقي في لندن وعمل هناك.
وفي إحدى زياراته إلى لندن مع أسرته خرجنا من المنزل وكان يدفع أحد أطفاله في عربة، فأخذ الطفل يبكي، فقال: غريب أطفال هذا الزمان! أنا لم أكن أبكي أبداً عندما كانت والدتي تدفعني بالعربة في طرق شندي! وكان عبدالعال قد فقد كلا والديه مبكراً، وهو فقد لا بد أن يكون أثر عليه. ولكن حتى هذا كان يتخذ منه موقع تندر، فكنا إذا أقبلنا على طعام أو شراب، يقول: يا جماعة، زيدوني قليلاً، فأنا يتيم قبرين!
كان رحمه الله قد فجع مبكراً في زوجته وأم أطفاله زينب، التي كان عماد حياة الأسرة، فأصابه من ذلك حزن لا يبلى، وقد ساهم الاكتئاب في تدهور حالته الصحية. مع ذلك فإنه تعامل بصبر وجلد مع هذا الفقد الجلل، وأكب على العناية بأطفاله. وفي آخر مرة التقيته فيها في الخرطوم منذ بضع سنوات في عزاء صديق طيار، كان فكهاً كعادته. وقد تندر معي وزوجتي حول شكوى زوجته الثانية من أنها لم ترزق بأطفال، فداعبها قائلاً: وهل رأيت أبنائي وبناتي يتسابقون على إقطاعي جناحاً في فندق الهيلتون؟
كنا قد فقدنا قبل ذلك من هذه الثلة الكابتن عمر نصر (كباكا)، الذي أسقط متمردو الحركة الشعبية طائرته بركابها بصاروخ في عملية إجرامية مقصودة في صيف عام 1985 قرب ملكال، ثم الكابتن جعفر عثمان، الذي سقطت به طائرة مروحية كان يقودها في شرق السودان بعد ذلك بقليل، ثم بعد ذلك كابتن الجيلي الذي رحل في جدة. وأخيراً الكابتن عوض بلال جاد الله، ود المقدم (وهي رتبة دينية في الطريقة القادرية، وليست رتبة عسكرية) الذي كان يقود طائرة الخطوط الجوية التي سقطت في بورتسودان في يوليو من عام 2003، ولم ينج منها سوى طفل حماه حضن أمه. رحمهم الله جميعاً.
وبدوره فإن أخانا عبدالعال كان أحد ضحايا مصائب السودان الكثر وجرائم مجرميه، وقسوة قلوب المسؤولين العرب. فقد حمله أبناؤه بعد أن اشتد عليه المرض، إلى معبر أرقين لتلقي العلاج في مصر، إلا أنه بقي أكثر من شهر في الانتظار بدون أدنى اعتبار لحالته الحرجة، وأعيد بعد أن تقطعت السبل إلى منزله في أم درمان حيث لقي ربه.
اللهم إن عبدك عبدالعال قدم إليك في هذه الأيام من أيام نفحاتك، وقد بسطت فيها يد المغفرة للطالبين، وأغدقت الأجر للعاملين، وقبلت التوبة من التائبين، وقد أصيب بما أنت به عليم، وضاقت عليه وعلى أهل بلده السبل، فقبضته إليك بمشيئتك. اللهم فأسبغ عليه من مغفرتك ورضوانك ما أنت به جدير، واجعل ما أصابه كفارة لكل ذنب، وتقبله في التائبين المقبولين. اللهم ألهم أسرته وذريته وأحبته الصبر، وأحسن عزاءهم وعظم أجرهم، إنك أنت البر الرؤوف الرحيم.
نقلا من صفحة الدكتور عبدالوهاب الافندي على الفيس بوك