شعارات كبيرة في القيم وضمور شديد في الممارسة

 


 

 

abudafair@hotmail.com

ساحات النضال وحب الأوطان علمتنا، أن نودع الشهداء بقدر قليل من الدموع، البكاء لحظة الفراق ليست وفاءاً للغاية التي قدمت دونها المهج والارواح، قلة الدموع ليست خيانة ولا نسيان، بل دافع نهزم به ضُعفنا القومي ونبدد به حزننا على ثورة لم نستطيع الحفاظ عليها، شباب هزموا الخوف من الموت والرعب من زئير الرصاص، استشهدوا بثبات واثقين باننا سنُكملُ المشوار ونحقق الحلم، لا لِنجعلُ من استشهادهم أرقام في دفتر يومية الشهداء، بل نبني به جسور من محبة وامل تصل بنا إلى بر الامان، ايمانا منا بأن ساحة المجد تسع الجميع، لصناعة المستحيل سنظل على العهد سائرون، حتى لا تطفئ الدموع لهيب الذكريات.

شعار حرية، سلام وعدالة مهما كان نبيلاً إن لم يمتلك أدوات تحقيقه، لم يتجاوز محطة الانتقام، فتتحول مهمة الثوار من مراقبة التحول المدني لاستدامة التنمية وتوطين السلامة، يصبح الهدم مبرراً بديلاً للبناء. عندما تفشل النخب في التحول المدني الديمقراطي، أول ما يجب فعله مراجعة منهج قيادات التغيير ومحاكمة الفعل والفاعل، لعب الدافوري السياسي على ميادين النضال من الانتهازيين، يعتبر من أبشع مظاهر العنف السياسي الذي يطلق الميول الغريزية من عقالها، ويعتبر الارتجال ارقى أسلوب لادارة الأزمات وافضل قالباً للتغيير، فيفسح المجال لكل من هب ودب، جاهلاً كان ام سماراً على موائد الفساد والإفساد ليصبح مفتياً سياسياً للديار، فاذا كنا لا نسمح لطيب هاو ان يعبث بالاجساد فكيف نسمح لخريجي مدرسة الدايات السياسية، ضعاف النفوس اصحاب العقول الفارغة ان يعبثوا بمصير الاجيال؟ وجود ساسة محترفين وملمين بأدوات التغيير من اهم شروط النجاح، فالمريض العاقل لا يسلم نفسه لاي طبيب.

لكل مرحلة ادواتها قد نقبل بكاء الطفل الصغير لتلبية طلبه ولكن لا نقبله من رجل راشد مهما اجتهد في العويل والبكاء، فالمدرب المقتدر يغيير طريقه لعبه على حسب امكانيات الخصم، كذلك القائد الفذ لا يؤسس نهضة وطنه على افكار تجمدت لعقود وسنوات، بل يكون قادرا على اختيار اللعيبة وادوات اللعبة، ويتمتع بمقدرة عالية على التفرقة بين مرتدي الروب الابيض اهو طبيب ام جزار!! بدون التخصصية والعلمية في التطبيق تصبح الشعارات رمزية تاريخية. فالمستقبل حصاد فعل اليوم وجهده الامس، البكاء على الماضى المظلم، لا يفيد بقدرما العمل لصناعة ادوات تجعل من الشعارات واقعاً ملموساً تضع حداً للعبث بمقدرات الاوطان، بدلاً من التشبث بالماضي ومحاولة ترميمه. فالنظر للماضي مثل مرآة النص في العربة فقط يمكنك لرؤية من خلفك، لا ان تفرض طريقة سيرك على الناس. فاعلاء منهج العقل في الفكر الإنساني، وترك منهج الاباء والسادة، واهمية قبول التنوع وإدارة الحوار منهجاً مع المختلف وقبول النقد الذي يرتقي بالإنسان من اهم مرتكزات النحاج الذي يؤدي إلى تسوية تصون كرامة الانسان.

فهمنا للسياسة فهم مبتسر يعجز عن تحقيق الاستقرار والسلام، معظم النخب ركزوا على الشعارات بدون تطبيقها، مما ابعدنا عن فهم دورنا الاساسي تجاه حق المواطن الذي يفضي إلى تسوية تاريخية تؤمن دستورية الحقوق صوناً لكرامة الانسان. تحويل الشعارات إلي واقع تحتاج إلى انتاج رؤية ثاقبة تمتاز بمعمار مفهومي بديع من حيث تماسكه وتنظيمه ومرونته، فالهتاف غير كافٍ مهما كانت الشعارات عظيمة، مالم تتجسد في الممارسة تطبيقاً، فمعظم الاحزاب اصبحت بؤراً للمهازل السياسية والتعرية الفكرية، مما اظهرت ان مشاريعها الفكرية خاوية على عروشها، خانت اشواق الجماهير، باطروحات شاعرية رومانسية، خالية من فلسفة فكرية لتأسيس دولة مواطنة متساوية تفتح آفاقاً للتنمية المتوازنة، وتحقق العدالة المستدامة وتؤلف المصالح المتنافرة التى خنقت ابتسامات الكنداكات في مهدها وخطفت حلم الاطفال في بداية مشوارها. فأصبح حكماً كحكم من ينتظر من الذئب والحمل ان يتعاونا على البر والتقوى لا على الاثم والعدوان.

قيام الثورة من اجل الحرية لا تنتج إلا المزيد من الدموع والدماء، فلماذا لا نترك مساحة الحرية البسيطة تعمل من اجل تحقيق الديمقراطية، مثل ما يفعل رجل الاعمال الناجح الذي يجعل المال يشتغل من اجله، عكس الموظف والعامل الذي يشتغل من اجل المال، يظل دوماً رهينة لسداد الفواتير والاقساط، ويتحسر عند المعاش، حيث يجد نفسه يعمل من اجل ان يغنى غيره، فالقائد الذي لا يقبل التنوع كمصدر للثراء يسوس به البلاد يصبح دكتاتوراً، والفقيه الذي لا يقبل رأي غيره (ولا يزالون مختلفين ولذلك خلقهم) شعار له، ويعتبر رأيه حقيقة مطلقة يصبح ارهابي، والمفكر الذي لا يقبل النقد الهادف ولا يعترف بالفوارق الفردية يصبح شمولي، والمسجد الذي ينادي بأسم الله في مآذنه ويقتل الإنسان تحت ابنيته يصبح غرفاً واحجار، والقاري الذي يحفظ القرآن من اجل حفنة من المال ولا يحفظ كرامة الإنسان يصبح دجال والعالم الذي يحفظ كتب غيره كشريط مسجل يعيد سهرة من الامس دون تدبر يصبح طاغية طبال، والثوري الذي يعتبر المختلفين معه اعداء، ويكرس الرأي الواحد وينغلق على ذاته بالتعصب والاقصاء يصبح متطرفاً، فالاجدر بنا ان نترك مساحة الحرية تعمل من اجل وطن يسع الجميع ويضمن الحقوق والواجبات، ويستوعب مكوناته السياسية والاجتماعية بمختلف تجلياته العرقية والإثنية والدينية والثقافية ويصون حقوق الأفراد ضمن عقد اجتماعي يحميه من الاختلالات التي تقتل روح الانتماء للوطن، فالمواطنة ليست مجرد اكتساب اوراق ثبوتية، بل هي شعور وانتماء لمجتمع تتقاسم معه الكثير من المبادئ والأفكار بصورة تحفظ كرامة الإنسان وتجعل الولاء للوطن يسمو فوق كل الولاءات الجهوية، القبلية، العرقية والمذهبية.

لماذا عجزنا ان نكون مثل النيل، لا يهمه نزول المطر في اي بقعة كان، لكن نقطة الالتقاء واحدة. رحلة الشعوب من عالم الحروب والهدم والانتقام إلى عالم النور والبناء والتسامح ومن عالم الجهل إلى عالم الادراك والمعرفة، تحتاج قوة إرادة وحكمة وقدرة على التسامي فوق الجراح وتسامح عن صغائر الاشياء وصمود رجال يفكرون في التنمية والبناء بدلاً من الانتقام، ينشرون الاخاء والمحبة حتى نتعلم كيف نصنع البهجة والإحساس بالسعادة من صلب المعاناة وكيف نوقد جذوة نارٍ في الدواخل تحرق المشاعر السالبة وتضيء دياجير الظلمات، وتحرير عقل الانسان من الكهنة الذين يصفون الناس دوماً بالخروج من ملة الله ولكن هم انفسهم يخرجون من ملة الناس.

abudafair@hotmail.com
//////////////////////

 

 

آراء