السودان: لقد آن الأوان لكي تحط القافلة لرحالها !!

 


 

د. حسن حميدة
10 August, 2023

 

نشر في سودانايل بتاريخ 7 نوفمبر 2021م

تكرار الخطأ وتكرا ر المقال - وما أشبه ليلتنا ببارحتنا!!

المقال:

يأتي هذا المقال الطويل “كلام كتير، يلزم قوله” مختلف عن نوع مقالاتي المعهودة، وربما خرج كثيرا عن طور المألوف من كتابات أو موضوعات سبق نشرها. لذا أرجو أن يتلقاه القاريء بصدر رحب، وأن يتقبله كل من وجه إليه بطول بال وشدة حال – من أجل وطن واحد. وإذا شاءت الأقدار بأن يتشظى هذا الوطن، الذي لم يزل يكافح من أجل طي صفحات الإنقسامات والضياع، فعلينا أن نخم الرماد من بعدها، ونسأل المولى عز وجل من بعد لنا ولغيرنا حسن القبول. وفي الخاتمة، عندما تصل القافلة لنهاية الرحلة، بناهية بلد كان إسمه السودان، بمساحته الشاسعة وأهله الطيبين، وثرواته المتدفقة – عندما ترفع الأقلام، وتطوى الصحف، بإعلان تشظيه وتلاشيه – والسلام. هنا أستمحيكم عذرا قبل البدء في الركل، لتسديد الموجع منه، ولكل من يرى نفسه بأنه وصي على هذا البلد المسكين والقيام على بناءه في وقت ضائع. البلد الذي عودونا أبناءه الأوفياء، بالشروع في هدمه بأيديهم قبل أن يتم بناءه. عزائي الوحيد هنا، أن يكون ركلي هذا أخف وطأة من عواقب الإنقسام والتشظي، وأن يكون مقالي هذا هو آخر الركلات في شباك كل ما يرى نفسه بأنه موصى “باكات وسيرباكات المسرح السياسي في البلاد” بمستقبل هذا البلد “، جمل الشيل الصابر على كل ثقيل. المعني هنا كل من يتولى زمامه أمره حاكما أو مسؤولا أو موظفا في مرفق سياسي أو إقتصادي أو عدلي حساس في الدولة. المعني هنا كل من سمى أو يسمى نفسه معارض، متمرد، مفاوض، ناشط، متعاون، مراقب، مستشار، صديق، داعم، مصلح، حكيم أو جزء لا يتجزأ من مؤسسات العون الداعم أو المجتمع المدني بكل صوره.

الخطر:

يأتي هذا المقال الذي لم يسهل علي أمر كتابته إطلاقا، في صورة، ربما لا ترضي الجميع في محتواه الطاعن. هذا لا يهمني، وما يهمني هو أن كل هذا الجهد “الذي ربما أعتبره البعض الآخر كلام خارم بارم”، كلام للتذكير بواقعنا المر، وقبل أن يتشظى ويتلاشى ما تبقى لنا من هذا البلد في حطام وركام، ويأخذ العالم الفاتحة عليه، وأهله يتململون بداخله، مشاكسين ومختلفين في أمورهم إلى آن يبعثون. نحن أنفسنا: إذا لم نكترث للخطر القادم علينا وعلى بلادنا، فليس هناك من يكترث لذلك. ومن بعدها سوف لن يكن هناك حاجز يفصلنا من أن نكون دولة فاشلة، ودولة مروجة للسلاح والإتجار بالبشر، من بين دول العالم الكبير. ها نحن الآن على أسلم الطرق المعبدة لذلك، بثرواتنا المحسودين عليها، وبإختلافنا وتقاتلنا فيما بيننا، وبتسترنا على الظواهر البائسة التي تحصل في بلادنا وعند إشراق شمس كل صباح – الفقر والجوع والفساد وشراء وبيع الذمم على حساب المواطن المنتج، الذي كاد أن يكون عالة على نفسه ليتكفف الآخرين، أصدقاء وجيران. – كل هذا الإخفاق يأتي بسبب من يبعثون بأنفسهم، ويعبثون بنا وببلادنا من أبناء طالحين.

الأمانة:

هناك من نفوس التي تتدفق حقد وحنق تجاه هذا الوطن، وهناك من وجوه تشع بؤس وعبوس أمام مواطنه في كل يوم وليلة. الوجوه المضللة التي أتي بها فزع، لتصير وجع علينا وعلى بلادنا. ولا يمكن أن يخفي علينا كل مرة، أمر الناس المرتصين صفوف لوضع اليد اليمنى على مصحف أو إنجيل كريمين. أيدي يشبحونها تشبيحا، وينطقون بأصوات ممهمهة بذبذبة، تفصح عن تقوى لا توجد في أنفسهم. يحلفون برب عظيم، وكتاب كريم، بأن يكنوا لهذا الوطن الولاء كل الولاء، في غفوتهم ونومهم، وفي دأبهم وعملهم. لا أدري حقيقة ما بالصندوق المغلف. أهو كتاب كريم، أم هو صندوق توفير؟ ولا يفتأ أن يتبوأ هؤلاء المقام، وإلا شرعوا في فعل كل ما هو ممنوع ومحرم بتحليفهم. تجدهم غارقي الأيدي للكوعين في الرشوة والمحسوبية والغنى الفاحش وإستنزاف موارد وخيرات البلاد من أراضي ومزارع وشركات وحسابات بنكية وعقارات في الخارج. كل هذا على حساب الإنسان الضعيف، الذي يزرع أو يربي ماشيته، ليأتي كل منها بأكله بعد حول. ربما كان هو السبب المعذبنا “حلف الكتاب بالزور”. الشيء الذي يوضح بأننا شعب منحوس وملحوس بالحلف على كتب مقدسة ومهما طاب لنا المقام. الشيء الذي يبين لنا بأننا منكوبين في كل خطوة نحاول أن نمشيها. وكل خطوة أسست على الزور، تدخل علينا هنا بالساحق والماحق. لقد حان الوقت للنظر في موضوع التحليف، مع عدم حفظ العهود والولاء للوطن.

الانتقال:

ماهو الشيء الذي يمكن أن يتبقى لنا عندما نحمل بلادنا بأيدينا، على نعش نسميه بأنفسنا “نعش الدولة الفاشلة”؟ لا شيء يمكن أن يتبقى لنا من بعد ذلك، شعب وحكومة وحركات معارضة. ما هو الشيء الذي جناه هذا البلد من أبناءه؟ الإجابة لا شيء تمكن من جنيه على مر السنين – أجيال فاشلة، في حقب حكم أكثر فشلا. هذا مثله عندما يكون إنجاب وتربية الجنى على والديه حسرة. وهذا إذا بات البلد الحدادي والمدادي، يتخبط من نظام فاشل، إلى نظام آخر أفشل. كل هذا بفعل أبناءه وإختلافهم في كل شيء يجلسون للتباحث فيه. ولتهدئة اللعب قليلا، وتخفيف الركل في نطاق هذا المقال الصريح: ليس لنا أن نعيب على الحكومة الإنتقالية عملها، أو نتدخل فيه بعنفوان الجهلاء، ولكن لنا من الحق أن ندعو للحوار الهادف – ومن دون تطويل الحبال، وأن ندلو برأينا الحر، كمواطنين، لتصحيح مسار الحكومة الإنتقالية بطريقة تواكب العصر، وتصون لنا الهدف المنشود “الحكم الديمقراطي”. وكل هذا حتى تنجح هذه الفترة الحساسة والمهمة في حياتنا ومستقبلنا ومستقبل بلادنا. الفترة الإنتقالية التي نراها الآن طويلة، ولكن كما هو الحال في دأب الأيام: سوف تنقضي هذه الفترة بسرعة، وكأنها شيء لم يكن. هنا لا بد لنا من إكتساب الوقت وعدم تضييعه فيما لا يلزم من إخفاقات ومهاترات، في أن نتجاوب مع الواقع الحاكم على الساحة بعقل كبير، لكي تصل القافلة الشادة لرحالها للهدف المنشود بسلام – للإنتقال والتحول الديمقراطي المرجو، في ظل صون العدل والمساواة بين أفراد هذا الشعب. الشعب الذي تلظى نار الظلم والحرمان، لأكثر من ثلاثين عام قاتمة الظلمة – وكان آنذاك: لا أحد مكلف، ولا أحد مسؤول عن أمره.

المجرمين:

كيف لنا لأن نصل لهذا الهدف المنشود، من جموع الشعب الوفية؟ لا بد من الكف عن تعطيل مسار القافلة المنطلقة بقوة الشباب المتفجرة، وبمساندة العاملين الحادبين على مصلحة هذه البلاد. الأوفياء والمحنكين من أبناء هذا البلد، الذين تطغي عندهم المصلحة العامة على مصالحهم الخاصة. النزهاء والبسطاء منهم، الذين يعملون تحت ظروف قاسية من عزلة وفقر وحرمان ومرض. معاناتهم التي لا يراها المتمعن لهم في جلابيبهم وبدلهم المكوية لتوها، من أجل وطن واحد. الوصول لبر الأمان يعني العمل والإيفاء بالعهود. هذا الشيء يأتي بصور مبسطة، في عدم نسيان الآتي ذكره: الشروع في تنفيذ كل وعد وعدته الحكومة الإنتقالية للمواطن وبدون إستثناء، بعد الثورة والإطاحة بالنظام الطالح. تسليم كل المتورطين في التطهير العرقي بالبلاد للمحكمة الدولية بدون مجاملة، سواء كانوا أفراد من الحكومة السابقة أو من أفراد الحركات المسلحة – “هنا للتذكرة: كلما كبر عدد المجرمين المسلمين للمحكمة الدولية، كما طاب لهم المقام هناك”. والشيء بالشيء يذكر: هذا حتى يكفوا عن المحاولات الكيدية البائسة التي يشرعون فيها تواليا، من أجل إفشال الفترة الإنتقالية، وحتى يغوصوا بقواربهم المتهتكة في القاع أكثر، وليتركوا لهذه الحكومة الإنتقالية المجال للقيام – الشيء الذي يضمن لها العمل، ويؤمن لها السعي بخطى ثابتة، من أجل تنفيذ برنامجها الحوكمي، سياسيا وإقتصاديا وعدليا، محليا ودوليا.

المحاصصة:

ولنذكر هنا فقط: يجب على الحكومة الإنتقالية الإبتعاد عن المحاصصات النفعية “ألا تكشف حالها بنفسها”. المحاصصات التي تتجاهل الإنسان المؤهل، وتفضل عليه الإنسان الغير مؤهل. وقتها يتبوأ الإنسان الغير كفؤ مرتبة لا تليق به، بل لا يستحقها أساسا، من بعدها يأتي ويتنبر على هذا الشعب الأبي، بأنه كان متمرد عليه بسلاحه، والآن يحكمه بشطارته، في عصر إنتهى فيه حكم الشعوب بقوة السلاح، وإنتهت فيه الشطارة على على من يحكم في بلد على المحكموين. يجب أن تفضل الحكومة الإنتقالية في عملها أي كان نوعه الإنسان المؤهل عن غيره، وحتى ولو لم يكن للشخص المؤهل تاريخ سياسي يذكر. يعتبر تفضيل المحاصصين على غيرهم من الأكفاء شيء يخجل له الإنسان النزيه أيما خجل، وهذا لقبولهم بنفوس رحيصة ودنيئة، لمرافق إدارية لا يستحقونها أصلا. ولو كان الشخص النزيه في مكانهم وبنفس مقوماتهم التأهيلية، لرفض هذه العروض الجوفاء برضاء نفس وكرامة إنسان. وهذا من أجل مصلحة مواطن، ومن أجل مصلحة وطن – في ظل وجود الإنسان الأكثر كفاءة ونزاهة.

الإقتصاد:

موضوع الإقتصاد موضوع صعب، وإحداث طفرات إقتصادية من العدم فيه في هذه الظروف التي تمر بها الدولة هو الأصعب، ولكن: لا بد للحكومة الإنتقالية من قفل الأنبوب المسرب والمسبب للمشاكل الإقتصادية في البلاد. سبب من أسباب فشل البرنامج المؤسس من عندها للخروج بالبلاد من مآذقها يتمثل في الآتي: وضع حد حاسم للعمل التجاري الربوي، الذي يبني سواعده على عاتق الضعفاء من المزارعين والرعاة، ويقوم على أكتاف المنهكين من العمال والموظفين. نحن بلد زراعي ورعوي في المقام الأول، مع شيء من الثروات المعدنية الغير مستخدمة بعد. لا بد هنا من وضع حد حاسم لتسلط تجار النظام البائد على الإقتصاد الداخلي والخارجي، الذي يبني على مواردنا الزراعية، ومنتجات ثروتنا الحيوانية. هؤلاء التجار والمصدرين، الذين يؤسسون عملهم الربحي على الرشوة والمحسوبية، وإستغلال الفئة المنتجة في البلاد، بهدف تحويلها بمرور الأيام إلى فئة فقيرة هم سبب الأسباب. وبه يتهيأ للمضاربين الجو المناسب، لتهريب ثروات السودان، كقطر غني ومنتج، إلى خزائن سوداء، تأوي المال الفاحش بمساعدة جهات، ما زالت تعوس في أرضنا فسادا، وتتحكم في أسواقنا ومنتجاتنا داخليا وخارجيا.

الفساد:

هنا وعلى هذا الصعيد: لا بد لهيئة إزالة التمكين المفوضة من قبل الحكومة الإنتقالية من مباشرة عملها أكثر وأكثر، وبكل حياد ومسؤولية، بل لها أن تعطى من قبل الحكومة الإنتقالية أكثر حريات وصلاحيات، لتنفيذ عملها بدون قيود مكبلة، ولوضع حد حاسم للموقف الذي صار مذري ومعيب عدليا وتنفيذيا – الثورة لها الآن عام من العمر، ولو كانت طفل، لشاء له أن يحبو. فهي حتى الآن لم تزل تتلكأ في بداية المحاكمة، لمجرمين لا يختلفون نوعا وفعلا عن بعضهم البعض – الإجحاف في حقوق شعب بأكمله، وكأنه لا ينتمي للسلالة البشرية بصلة. محاكمات تؤجل أو تلغى من حين لآخر ومن غير أسباب – وفي آخر تطور، التأجيل الأبدي: تأجل محاكمة أبوهم الذي علمهم السحر لأجل غير مسمى – كل هذا التلكؤ يأتي من قبل هيئة الدفاع للمتهمين في قفص الإتهام. الشيء الذي يلبس هذه الهيئة إتهام مطابق للمتهمين، في تجاهلهم للمصلحة العامة للوطن وللمواطن. هنا لا بد من وضع الهيئة الدفاعية للمعتقلين في قفص الإتهام أيضا. فهم لا يمثلون، وحسب شهادة الشعب إلا أنفسهم لمنفعة يبتغونها. وكلهم جزء لا يتجزأ من النظام البائد “هم منه وإليه”، ولا بد من تسليمهم جميعا للمحكمة الدولية في لاهاي، كمتهمين متلبسين في هيئة دفاع، وكل الدلائل موجودة.

المحاكمة:

لا بد أيضا من تسمية ومحاكمة كل من شرع في أمر المجزرة البشرية، وما خص فض إعتصام القيادة العامة، وأدى لمقتل مئات من المعتصمين الأبرياء بيده. المعتصمين من الشباب المسالمين، الذين خرجوا من أجل المناداة بحقوقهم الإجتماعية والإنسانية. أريق دمهم بكل برود، وكان ذنبهم الوحيد، أنهم كانوا يرددون كلمة ” سلمية، سلمية”. هذه المحاسبة إذا لم يتم تنفيذها بحياد وعدل من قبل الحكومة الإنتقالية والجهات المسؤولة، سوف تشعر المواطن بأنه مخادع من جهات تقوم على أمره، ولا تنصف له حقوقه عدليا، وسوف لن يكن هناك حاجز يقف في طريق ذوي الدم، والشباب، للخروج للشارع مرات ومرات، للمطالبة بالعدالة المنصفة للحقوق. الشيء الذي يمكن أن يستغله جانب الآخر “العدو اللدود”، والشيء الذي يمكن أن يمهد للإنزلاق في رصيف الدولة الغير آمنة والدولة الفاشلة، ويكون الثمن باهظ على الجميع، بأن ينأى الحكم الديمقراطي، ويصير الحلم به بعيد المنال.

التريث:

هنا نقول لأنفسنا كشعب واعي – ترجيا دون تشفي: علينا أن نعطي حكومتنا الإنتقالية بعض من الوقت للبث في الأمر والفصل فيه. ونقول لحكومتنا الإنتقالية: عليها أن تتعجل بتنفيذ الموعود على أرض الواقع، وليراه هذا الشعب الصابر على شيء أحر من الجمر، في معاقبة المجرمين بعدل. كما لا بد للحكومة الإنتقالية أن تنظر في آداء طواقمها المتولية لزمام الأمور من الوزير الكبير إلى الموظف الصغير. يجب مراقبة الثراء الحرام لكل الطواقم العاملة في الحكومة، وزراء، سفراء، ولاة، وموظفين. وهذا لا يعني فقط الثراء عبر المال العام، بل أيضا الثراء عبر التوظيف والمنح الخارجية والتمكين عبر التفضيل. من يتلقى أرفع الوظائف الحكومية، من يبعث بمنحة لخارج البلاد، ومن يمكن ذويه في وظيفة من الوظائف؟ هنا لا بد من أن يكون المؤهل العلمي هو الحد الفاصل في الإقرار والتنفيذ الإداري.

يجب ألا يكون الهم الأول والأخير للمسؤول أو المفوض في الدولة، هو شراء الذهب لزوجته أو لزوجاته، أو تملك الأراضي المميزة له ولأسرته، أو شراء الشقق والبيوت المفروشة له في خارج البلاد، ومن حر مال الشعب. من هنا يبدأ الفساد، الإداري، عندما يتجاهل الإنسان قيمة بلده كإنسان مسؤول أو مفوض، ويكون همه الأول والأخير، مغادرة هذا البلد المعطاة إلى بلد آخر للعيش فيه إذا جاءت ذات يوم الطامة الكبرى. بيد أنه هذا البلد هو الذي يوفر له رزقه كل يوم، ويعني له في قرارة نفسه اللا شيء في وقت الشدة.

الارتزاق:

كما يجب على البلاد شعبا وحكومة أن تفرق بين من هو الإرتزاقي، ومن هو المصلح. لقد إكتظت البلاد في الآونة الأخيرة بالمعارضين وحملة السلاح والرباطين وقطاع الطرق. وكثير منهم فئة من الخونة والفاشلين، الذين نعرف بكل حق وحقيقة من أين أتوا، وهذا مع بعدنا كل البعد عن السياسة ومسارحها. أناس تلقوا ملاذهم في دول مجاورة أو دول مهيمنة، تحرضهم على بلادهم الأم عرقيا ودينيا وإجتماعيا. كل هذا يبدأ بتقديم طلب للجؤ السياسي، الذي ينظر في أمره سريعا مع القبول المؤمن، ثم يتلوه شراءهم لهؤلاء “مستعبدي أنفسهم لأنفسهم بأنفسهم” بأبخس الأثمان – وفي غالب الأمر يكون السعر المجزي للشراء، هو عبارة عن حذاء جديد من ماركة أديداس، أو فانلة جديدة من ماركة لاكوست. وبه يبدأ الترنم بالأغنية الحبيبة للنفس، والتي لا تعرف الإنقطاع أو الإنتهاء ” الإضطهاد والإستعباد لنا في بلادنا ومن أهلنا وذوينا – نحن المساكين بينهم ونحن المغلوبين على أمرنا – وهم الأسياد وتجار الرقيق” – الإستعباد على الطريقة السودانية في القرن الحادي والعشرين.

حقيقة ليس هناك رجاء من أمثال هؤلاء الخونة والفاشلين، سواء كان رجاء من أنفسهم لأنفسهم أو لأهلهم أو لبلادهم. للكل أن يعرف جيدا، مضطهد أم غير مضطهد، أننا كلنا في البلاد التي نحن غريبين على أهلها، والبلاد التي هي غريبة علينا “بلاد غير بلادنا”: نحن كلنا في الهواء سواء، ولا نحسب سوى أفارقة “زنوج”. وهذا إذا أتينا من حلفا، أو من نملي، إذا أتينا من القلابات أو من الجنينة. كلنا في عيون الغير “نيقرز” لا غير، وليس هناك فرق بين زنجي فاتح، متوسط أو غامق اللون. فلما كل هذا العناء، ولما كل هذا الغباء؟ فالنسمي الأشياء بأسماءها أولا، وإذا لم نتقبل أنفسنا بأنفسنا، فكيف للغير أن يتقبلنا؟ – وثانيا: لا داع للإصتياد في الماء العكر، الذي يكون ضحيته أولا وأخيرا، مواطن هذا البلد الصابر على حرها وبردها. والذي لم يبارحها أبدا، مهما جبرته قساوة الزمن – راضي بغناها أو مرتضي بفقرها – آو لمكانه، معزز ومكرم.

الحركات:

ولحديث الساعة من نبأ: لا بد للحركات “التي كانت مسلحة” المتفاوضة في جوبا الآن، من التعجل في تنفيذ الإتفاق من أجل سودان واعد بخيراته لإنسانه ولأجياله المقبلة. ما هو الشيء الذي يمكن أن يستفيده المواطن، في آن يرقد ويتمرغ فيه المتفاوضين في فنادق جوبا الفخمة لأسابيع، بل لشهور؟ لقد كان الرقاد والتمرغ من قبلها في فنادق الدوحة وأديس أببا ولشهور، بل لسنين – والعالم في الداخل وفي الخارج ينتظر مخرجات الحوار “النتيجة” على أحر من الجمر. كل هذا التمويل، لهذه الملتقيات والحوارات من خير المواطن البسيط وإنتاجه المتواضع من كل حول وموسم. المواطن الذي ينتظر أن تأذن لهذه الحركات الصافرة، التي تمسك عليها بيدها، بل تضعها في فمها، لتصفر للإنطلاق لآفاق سياسية وإقتصادية ناجحة، ترفع من مقام مواطن ومن مقام وطن. الحركات التي تقف الآن وجه لوجه مع الأطراف الأخرى، متأهبة للمصافحة والعناق، في موقف يسطره لها التاريخ بأحرف من نور، لوقوفها كتف لكتف مع حكومة وشعب السودان. كما يجب ألا تنسى هذه الحركات ما يلي الإتفاق من تحديات بقدر تراب الأرض، تنتظروتتطلب أيضا وقتا لا يستهان به لتنفيذ البنود المتفق عليها، والعمل من أجل مستقبل البلاد وأجيالها بيد واحدة. تحديات كبيرة تنتظر وتتطلب التحزم للعمل والتنفيذ المباشر، بفكر وعقل وقلب. الشيء الذي يأذن باكرا بإنتهاء التمشي على هولات الفنادق ذهابا وإيابا، أو الجلوس المضني للحوار والنقاش بلا نتائج. يجب على هذه الحركات أيضا أن تكون على يقين، بأن لا شيء يمكن أن يفوت على المواطن، مهما كان بسيط فكر أو مغلوب حيلة. المواطن الذي يمكنه الزج بالخونة والفاسدين في السجون، حتى ولو فاق طال حكمهم الثلاثون عام. فمن يكن بمقدوره أن يتولى زمام أمر الإصلاح للخروج بالبلاد لبر الأمان فاليفعل، ومن لم يكن بمقدوره ذلك، فهو حر طليق، وغير مجبور على ذلك – السجون موجودة، والزنازين موجودة لمن يستحقها من الناس، إذا طال الزمان أم قصر.

الجيش:

ولنتوقف هنا قليلا مع الجيش: فهو صمام أمان البلاد، الذي وظيفته هي حماية المواطن، حماية الوطن، وصون عرضه والحفاظ على حدوده مع دول الجوار. وللنظر للحياة التي عاشها الجيش في غضون الثلاثون عام ونيف المنصرمة، نجد أن الجيش قد تمتع بكل الصلاحيات، بحياة أفضل من حياة المواطن بكثير. هذه الثورة التي يحتفل ويبتهج بها الجيش الآن لم تأتي به، بل أتت بجهد الثوار أنفسهم، الذين خرجوا في مظاهرات سلمية لأسابيع وشهور متتالية من أجل نيل حقوقهم. أتى من بعدها التغيير، بعد أن سفك دم الثوار في مجازر شنيعة، تم فيها رميهم في ماء النيل، أو حرقهم في الخفاء، وهم أحياء. وبكل هذا لقن الثوار العالم درس لا ينسى في الأخلاق، درس في طرق الكفاح السلمي – الكفاح الغير مسلح الذي تبنته بقية شعوب مهضومة حقوقها فيه. هذه المجازر الوحشية لا يمكن للعالم أن ينساها أبدا “ذاكرة العالم الخفية”، خصوصا وهي حصلت بوجود الجيش وملحقاته من قوات أخرى. يأذن الوقت للجيش الآن، وغير يوم باكر، في أن يلتفت للأمور المفوض من أجلها في البلاد. هذه الأمور تتمثل في وقوفه جنبا لجنب مع المواطن في أيما حال “في الحارة وفي الباردة”، في إستتباب الأمن في قرى السودان التي صارت تحترق، وفي إفشاء الأمن في مدنه التي صارت تشتعل. كل هذا من بفعل فاعل، لا يهم من هو “الكل يعرف من هو!!”، بل يهم أن يوضع المعني في حدوده. ومن واجبات الجيش، صون حدود الوطن، والحفاظ على ترابه الغالي “في عصر التناحر والتطاحن الدولي من أجل تأمين الثروات”.

الجوار:

تأتي سانحة أخرى: لا يمكن أن نحتفل برؤساء بلدان، يتلقون بنشاطهم السياسي في بلادنا جوائز عالمية، وفي آخر الرحلة يكيدوا لنا الصاع صاعين، بالسطو على حدود بلادنا ومواطنيها المسالمين بأسلحة ثقيلة، تشريد المزارعين والرعاة بالآلاف من قراهم وبواديهم، في ظل وجود الجيش السوداني. بإمكاننا مكدنيين أن نشن حملات شعواء، تطالب بإسترجاع هذه الجوائز الكاذبة لمن أتت منهم، بعدم إيفاء المحتفى بهم بالجائزة لإحلال سلام في المنطقة، هم أنفسهم غير حريصين على صونه، حتى مع دول الجوار. أي كذب وأي نفاق هذا من قبل مجتمع العالم الذي يعني بأمور السلام. أتمنى أن تكون هذه مقدمة لجيشنا، في الأمكانيات المتاحة له، ليثني الآخرين “دول” على قراراتهم، التي تدأب على جبره على الركوع لها أكثر وأكثر – ولنذكر من يحاول أن ينسانا أو يتجاهلنا من جيران: السودان بلد كريم بأهله، ويكن لجيرانه “دول وشعوب” كل الإحترام والتقدير. وبالدليل على ذلك، إيواء السودان لشعوب كثيرة من دول الجوار، وكأنهم عين الشعب السوداني.

الكبار:

ولنزد الطين بلة قبل في موضع آخر: ليس في التقدم في العمر والكبر من عيب، ولكن العيب أن يتناسى الكبار والمتقدمين عمرا، مستقبل الأجيال التي خدمتهم في وقت الحوجة، وهاهي الآن تمشي تحتهم، إكبارا وإجلالا لهم بفارق العمر، وإحترامهم للشيوخ والكبار. وليس في الحقائق وقول كلمة الحق في باطل من حرج أبدا: هؤلاء الشيوخ والكبار يطأون ومنذ أمد بعيد حقوق الشباب المحفوظة لهم، من دون مراعاة ومن دون مبالاة “أهو إستهوان، تجاهل، نسيان، أم هو فقدان للذاكرة والخرف”. يتجاهلونهم، ويتناسونهم، وكأنهم لا ينتمون لهذا المجتمع بصلة. هنا تسعنا السانحة بكرم لأن نقول للواقفين على أمر هذه البلاد من جهات شتى: بأنه لا بد لأن يأخذ الشباب نصيبهم في التشكيلات الإدارية والتنفيذية ومن غير محاصصات. المحاصصات المخجلة، والمجاملات الثقيلة التي ليس لها مكان في الحقوق والعدالة. يجب أن يخجل الشيوخ الواقفين صفوف للحكم من أعمامنا، والذين هم الآن في أعمار ليست هي بأعمار للعطاء، “يكفي أن يفيدونا بالنصح الحكيم”. يأتي للأسف الشديد الوقوف بشفقة، وليس إشفاقا على إنسان هذا الوطن، بل إشفاقا على أنفسهم وإرثهم. الوقوف في محاولة لتسلق سلالم الحكم العالية والمتعرجة نوعا، ومهما كلف الأمر. كما يجب أن يختشي كبار الكبار الواقفين طابور من جدودنا” ذا أولدست أولد”، من العمل على السطو على مرامي الحكم في عرش مرتفع بثواره الكادحين. أبدي أسفي لمثل هذا القول، ولكنها الحقيقة التيتأتي مندفعة من أعماق النفس ولا تعرف المداهنة: في مثل هذا العمر يحرص الإنسان العاقل على كيفية التحكم على مخرجاته الطبيعية، وليس الحرص على كيفية السيطرة على المخرجات السياسية “مخرجات الحوار”. نقول مرة أخيرة، ولا نأمل في ترديدها أكثر وأكثر، وإكراما وإجلالا للكل: لقد حان الوقت ليخلد هؤلاء الحكماء العظماء أسماءهم بحروف من نور في صفحات أرشيفنا الحافل بالبذل والعطاء – تخليد لا تنساه لهم هذه البلاد وطنا ومواطنا – ويكون كل ما قدموه من عمل سياسي مفيد، ثواب لهم وفي ميزان حسناتهم.

التعويض:

ولنفسح هنا المجال للتحدث بواقعية عن موقع السودان خارجيا، ما يطلب منه، وما يريد الآخرون منا تنفيذه في ظروف قاحلة وطاحنة. أهو إستبداد، أهو قرصنة، أهو إستبذاذ أم هو إستخفاف بنا؟ لقد علمتنا الحياة في الغرب، بأنه ليس هناك فلوس بدون عمل. أن تأتيك الفلوس وأنت جالس في مكانك. من أراد أن تضحك لك الفلوس، عليه أن يعمل. عن التعويضات التي تطلب من مواطن البلاد المسكين: فهي ليس لها مجال من في أرض الواقع، بأن يتبنى السودان كدولة فقيرة دفع 330 مليون دولار كتعويض للمتضررين من فعل إرهابي قام به تابعي للنظام السابق والمندثر. ولكل من رأى أن هناك جهة أخلت بحقوق الإنسان وإنتهكتها، يمكن لهذه الجهة أن تطلب مرتكبي الجرم، وتأخذهم ليحاكموا بعدل وإنصاف. الشيء الذي يحفظ للكل حقوقه. فلا يعقل أن تزداد ديون الدول النامية على المواطن بسبب مجازر إرتكبتها حكومات وأتباعها، ويأتي الحساب أخيرا لمعاقبة المواطن الذي ليس له يد في ذلك.

والدولة التي تدخل في مثل هذا التلاعب، سوف لن تقم لها قائمة أبدا بالخنوع لغيرها من دول. فعلينا أولا أن نكون قدر جبتنا، وألا نشرع في كسوة الآخرين، ونبدى لهم عاريي الأبدان. كل هذا في عصر القرصنة والنصب على الشعوب الفقيرة، من اجل تمويل الحملات الإنتخابية للفاشلين في حكمهم ووحدة شعوبهم. لا بد أن ترفض البلاد مثل هذه المقايضات، التي تدمر إقتصاد البلاد بطريقة منظمة. فيجب ألا نقبل بمثل وسائل الضغط هذه، ويجب أن نحاسب كل عميل حاول أو يحاول تحقيق مثل هذه المكاسب لدول تأتي به، وتتوجه كمسؤول لتمرير مثل هذه القرارات التي تضعف البلاد أكثر. كما علينا ألا نتخوف من التهديدات بحصار أي كان نوعه. هناك من الدول التي مازالت تحارب ومنذ أكثر من نصف قرن، على سبيل المثال كوبا وإيران. ما هو الشيء الذي لحق بهما؟ لا شيء بإعتماد الدولتين على مواردهما الذاتية، لتخطي كل الحواجز التي وضعت أمامهما. إذا كان الموضوع يتجه للقرصنة والإستبذاذ للسودان دولة وشعب، فاليظل الحصار يعلق علينا لمئة عام أخرى. ولأهل المليارات الذين يستخسرون فينا الحرية التي دنت لنا لتوها، أن يحتفظوا بها، فلنا من الماء والأرض والثروات ما يكفي لعيشنا. وهناك كثير من دول القارة الأوروبية والآسيوية التي ترغب في كسب ود هذه السودان الواعد بثرواته وسوقه بجدية وصدق، وبعيدا عن القرصنة والإستبذاذ.

التطبيع:

فيما يخص التطبيع، وما أدراك ما التطبيع: لقد أتى قرار الحكومة الإنتقالية في محله، وهو أن أمر التطبيع أمر يخص الشعب، وليس الحكومة الإنتقالية، التي أبدت بأنه ليس لها الصلاحية في حسم أمر التطبيع. في هذه الخطوة المهمة، لا بد للشعب من الإدلاء بصوته فيها كما فعل الأشقاء في جنوب السودان، فيما خص موضوع الإنفصال. فإذا رجحت كفة التطبيع من جانب المصوتين، فاليكن تطبيعا بحرية الشعب، في ظل إحترام الإختيار الديمقراطي وأصوله فيما يفيد البلاد. كما لا بد من أن يكون لهذه البلاد مجلس للحكماء الخبراء، للحسم في مثل هذه القرارات المهمة. مجلس ليس من أهل السياسة، يجمع بين طياته فئة من الأكاديميين الأكفاء وذوي الخبرة الطويلة والمواكبة للتطورات العالمية. هنا على سبيل المثال، عمداء كليات الجامعات والمعاهد العليا، لإعطاء رأيهم بصورة محايدة في إتخاذ القرار النهائي لأهمم الخطوات التي تمس كينونة البلاد. القرار الذي يأتي مدروس ومقنن من أهل العلم والمعرفة، سواء كانت كليات سياسية أو إقتصادية أوقانونية أو زراعية أو بيطرية أو طبية او غيره، لا يندم على إتخاذه. الجهات التي تعني بأمر المواطن على المدى البعيد في شتى مجالات ومن دون مآرب سياسية. وهنا للذكر فقط: في كل كل الدولة المتقدمة توجد لجان عمل، تدرس خلف الكواليس أبعاد كل قرار تشرع فيه الحكومات، ومن ثم ترفع تقريرا مبدئيا يبين أبعاد القرار الذي يود أن يشرع في إتخاذه. هنا على سبيل المثال وببساط : كتقديم دعوة لزعيم من الزعماء الأفارقة ليتحدث أمام برلمان الدولة ونوابه. بجانب كل هذا يظل السؤال المهم قائم: ما هو الشيء الذي يمكن للسودان أن يجنيه من التطبيع مع دول الجوار القريبة والبعيدة؟ إذا رجحت الفائدة المنتظرة من التطبيع، مع مرعاة حقوق الآخرين، فليس هناك ما يقف في طريقه غير رضاء الشعب والتصويت تجاهه. كما لا تفوت علينا السانحة في إفشاء تطبيع شامل وكامل بين أبناء هذا الوطن أولا، قبل الشروع في محاولات تطبيع يكتب لها الفشل بغياب الأول. هذا الشرط لا بد أن يكون من أهم الشروط، للشروع في التطبيع الخارجي، والذي يؤمن له عبر ذلك النجاح وعلى المدى البعيد.

السلام:

ولنقول لأنفسنا أخيرا: لقد فرطنا من قبل في فقدان أكبر قرعة في أفريقيا، بتفريطنا في جنوب السودان “شق القرعة اللين”، فيجب علينا ألا نفرط في الشق الآخر “الشق الناشف للقرعة” – نفقده ونتحسر على فقدانه. وهذا حتى لا نأتي ذات يوم لبقية دول العالم في ملمها، ونقول لها بصوت مرجرج: “قريعتنا راحت”. وتكون الإجابة منهم ولكل منا – وبكل إستخفاف: ما شفنا ليكم قريعة، أمشوا شوفوا وين محل قريعتكم الرايحة!

العمل:

ولنكف عن الحديث المطول “نترك العجين لخبازه”، نترك الآفاق لحكومتنا الإنتقالية لأن تعمل بجد وإجتهاد، ولحركاتنا الأليفة لأن تقرر بتوقع إتفاق سلام عادل وشامل ويكون واقعنا مرضي لنا ولغيرنا في بلادنا، التي ما زالت تنتحب، منتظرة للأحتفال بالسلام – وقتها نحتفل إحتفال “حلو” أو نسميه الإحتفال “بالعبد لله”، ونقول للعالم أجمع: لقد وقعنا سلام دائم.

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

 

آراء