طريق السودان إلى الكارثة ولماذا نلقي باللائمة على عبد الخالق محجوب وحزبه الشيوعي؟
صلاح حسن أحمد
31 August, 2023
31 August, 2023
هذا المقال تلخيص سريع لبعض أهم النقاط في دراسة عن ديناميكيات الحركة السياسية السودانية. وهو يتناول ضياع البلاد داخل حلقة مفرّغة مؤلفة من الديمقراطية الزائفة والدكتاتورية العسكرية، وكيف أضاع جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من الشباب التقدمي بقيادة عبد الخالق محجوب فرصة حقيقية لكسر هذه الحلقة وتغيير مسار التاريخ السوداني إلى طريق أفضل عشرات المرات من الذي أوصلنا إلى حالنا اليوم.
الحلقة المفرّغة
بدأ تشكيل الحلقة المفرّغة التي ألقت بالسودان إلى التهلكة عندما ذهب راعي حزب الأمة ورئيس الوزراء عبد الله خليل بقدميه في نوفمبر 1958 إلى الفريق ابراهيم عبود وترجّاه أن يتسلم الجيش حكم البلاد. وفي 17 من الشهر نفسه ورد في بيان عبود رقم 1 أن الجيش "تدخل بعد أن ساءت الأحوال وتدهورت الأمور وأوشكت البلاد على الانحدار إلى هوة لا يعلم مداها إلا الله" ("صناعة الحكومات في السودان – محمد سعيد محمد الحسن، ص 29).
من يومها ابتلينا بالحلقة المفرغة التي ظلت سمة لحكوماتنا منذ الاستقلال: نصفها الأول حكومة مدنية منتخبة ولكن على أساس طائفي. هذه ديمقراطية كاذبة لأن كلا من الطائفتين كان يخوض الانتخابات وفي جيبه أصوات أتباعه. فلم ير أي منهما ضرورة لوضع برنامج عملي - اقتصادي خصوصا - يبني عليه برنامجا للدولة الحديثة. بل انه لم يبذل جهدا لوضع إحصاءات دقيقة كانت أو فضفاضة لموارد البلاد المتيسرة والكامنة وكيفية استغلالها، لأن أصوات الأتباع المضمونة أغنته عن كل هذا. وبذلك صارت الانتخابات العامةمجرد عملية لمعرفة أي من الطائفتين سيحكم البلاد وإن كان يفتقر إلى معرفة حقيقية بكيفية إدارة الدولة.
والنصف الثاني هوالدكتاتورية المسلحة. فعندما تنتقل الأوضاع في ظل الحكم الطائفي من سيئ إلى أسوأ، يغتصب العسكر الحكم بدعوى "الإنقاذ" أو "التصحيح" أو "الإصلاح" لأن البلاد "انحدرت إلى هوة لا يعلم مداها إلا الله" كما قال عبود. ويكفي القول إن العسكر يغتصبون السلطة في رمشة عين. لا انتخاب ولا قاعدة شعبية ولا تفويض وإنما حاكم يختال كالطاووس في زيه العسكري البرّاق ويسيّر البلاد على هواه بمراسيمه الرئاسية. وهذا رغم انه لا يوجد في الكتب السماوية أو الأرضية نص صريح أو إيحاء مبطّن يبيح له سرقة حق الناس في اختيار من يحكمهم وحقهم في التمتع بالحريات الأساسية.
ولكن لا بد من القول إن الأنظمة العسكرية والطائفية على السواء وجدت اوكسجين بقائها في تدني نسبة المتعلمين والوعي وبالتالي تخبط معظم أهل البلاد - بمن فيهم المتعلمون غير المستنيرين – في ظلام الأميّة الفكرية عموما والجهل بماهية الديمقراطية الحقيقية خصوصا.وقد علّمنا التاريخ القريب أن تخلصنا من دكتاتورية الجيش لا يعني - للأسف -سوي نجاتنا من فك عسكري مفترس لنقع في فك طائفيى مفترس. استجارة من الرمضاء بالنار والعكس.
هناك بالطبع اللاعب الثالث المهم: تجار الدين الذين يتخذون من هذه الحلقة المفرغة منصة الوثب المثالية الى السلطة الفعلية وهم يرفعون راية الإسلام المزيّف. هؤلاء استكشفوا خبايا اللعبة فعلموا أن الخطر الحقيقي عليهم لا يأتي من الشارع وأحزابه، وإنما من الجيش. فراحوا يتسللون إلى صفوف قياداته حتى سيطروا عليه بالكامل. ولأنهم لا يتمتعون بالعقلية العسكرية، كونهم تجار دين ودنيا شغلهم الأساسي هو الإمساك بزمام السلطة وامتصاص الدم من شرايين البلاد الاقتصادية، فقد أهملوا الجيش بالكامل وأوكلوا مهامه القتالية لميليشيا سموّها "قوات الدعم السريع". وعندما تصادمت مصالح المربّي والربيب، انتهى الأمر بالوطن إلى حرب بين جيش بلا أسنان عاجز عن الدفاع عن نفسه ومواطنيه وبين الميليشيا الربيبة التي وجدت الساحة خالية بالكامل فعاثت في الأرض فسادا... في دارفور أولا حيث مارست أسوأ أنواع التطهير العرقي بالإبادة الجماعية، والآن في العاصمة نفسها حيث شرّدت أهلها من ديارهم وأحالتهم أجمعين لاجئين مشردين لا معين لهم.
المخرج
بدا واضحا أن الحلقة المفرغة (الطائفية ثم العسكر ثم الطائفية، محاطان على الدوام بالطفيلية الدينية) صارت قدرنا ومصيرنا بلا مخرج. ولكن، صدق أو لا تصدق، أن المخرج ظل موجودا منذ الأربعينات عندما ولدت الأحزاب الطائفية نفسها وبنحو 12 سنة قبل أن تقدم هذه الأحزاب نفسها الدعوة للعسكر للإمساك بالحكم لأنها لم تدر كيف تدير البلاد.
إليك "الجبهة المعادية للاستعمار" التي خرجت من رحم"الحركة السودانية للتحرر الوطني".مؤلفة من شقين أحدهما في العاصمة السودانية من طلاب كلية غردون ومدرسة وادي سيدنا الثانوية والآخر من الطلاب السودانيين في القاهرة والعائدين منها. وكانت الحركة السودانية للتحرر الوطني" قد تشكلت على غرار "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" (المصرية) وسبب وجودها الأول مكافحة الاستعمار، متبنيّة قضايا العمال والفلاحين والفئات المهمّشة المفتقرين إلى التعليم وبالتالي إلى المقدرة على نيل حقوقهم، عبر تحول تدريجي إلى الاشتراكية.
وكلمة "التدريجي" هي المهمة هنا لأنها صارت محور صراع قصير الأمد لكنه وجودي بين جيلين و أسلوبين. وكان أحد طرفي هذا الصراع الرعيل القديم، يقوده عبد الوهاب زين العابدين ومن بعده عوض عبد الرازق. وكان كلا الرجلين يدعو للتمهل والتدرج والاعتدال واستمالة القواعد الطائفية (وسط الفلاحين والعمال خصوصا) بالرفق واللين. وفي الطرف المقابل كان هناك جيل الشباب الداعي للحسم بالتغيير الثوري يقوده الطلاب العائدون من مصر وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب الذي تمكن من إزاحة عبد الرازق والحلول مكانه في منصب الأمين العام.
"الحركة السودانية للتحرر الوطني/الجبهة المعادية للاستعمار" كانت هي الكتلة السياسية الأكبر والأهم خارج النطاق الطائفي والجهة الوحيدة المؤهلة للجلوس على كفة الميزان المقابلة وترجيحها تدريجيا بالقيادة الحكيمة المدعومة بتنامي تيار التعليم في البلاد. بعبارة أخرىكان بمقدورها نقل السودان من القبضة الصوفية المهدية – الختمية - العسكرية إلى آفاق جديدة مبشرة بالديمقراطية الحقيقية ورفاه السودانيين.
وعندما تسلم عبد الخالق الأمانة العامة كان عمره لا يتجاوز الثانية والعشرين. وكان محتما لفتى في أوج فورة الشباب الملوّنة بمختلف درجات التفكير الطوباوي والمفتقرة بالكامل إلى خبرة الحكم والمعارضة أن يناطح الصخر. فبدأ عهده بأكبر خطأين في تاريخ السودان السياسي الحديث وهما:
1- تغيير اسم الجبهة إلى "الحزب الشيوعي".
2- إعلان التزام الحزب الجديد بالماركسية اللينينية.
بل ان محجوب، بغرض استمالته المزارعين لزعزعة الأساس الذي تقوم عليه الطائفية، "شن هجوما ضاريا على زعيمي الطائفتين الكبيرتين واتهمهما باستغلال الجماهير السودانية وبالعمالة للاستعمار الانجليزي - المصري" (محمد نوري الأمين – الحركة الشيوعية السودانية – 3 – ميدل ايست ستديز 1997).
ما هو حصاد الحزب الشيوعي؟
تلوّث الحزب وفقد مصداقيته بانقلابين عسكريين: انقلاب حعفر النميري في مايو 1969 وانقلاب الحزب على النميري نفسه في يوليو 1971. وأطاح هذا الفعلان الشنيعان مصداقية الحزب وأدبياته الرنانة عن الديمقراطية والحرية الخ... لكن عواقبهما عادتا وبالا على الأمة جمعاء خاصة بعد 1971. وكان أسوأ هذا الوبال (على سبيل المثال وليس الحصر):
أولا، وفّر الذريعة لنميري بعد 1971 لتدمير قاعدة السودان الصناعية في عطبرة ومعها شبكة خطوط السكك الحديدية (الصمغ الوحيد الذي يجمع أطراف البلاد) وقاعدته الزراعية في الجزيرة والمناقل (سلة غذا العالم العربي وأفريقيا) فقط لافتراضه ان العمال والفلاحين بأكملهم معارضة شيوعية تسعى لإسقاطه. أي ان النميري، في سعيه لأخذ ثأره من الحزب الشيوعي، دمّر الاقتصاد السوداني من أساسه إلى سقفه.
ثانيا: فتح الباب على مصراعيه أمام تجار الدين الإسلاميين لتسلم زمام السلطة الفعلية والسيطرة التدريجية على المؤسسة العسكرية. ولهذا وحده يمكن القول إن حرب السودان الدائرة الآن بين قادة الجيش الإسلاميين وربيبتهم قوات الدعم السريع إنما هي إفراز مباشر لهذا التطور.
ثالثا: رفع سعر الدولار تحت مظلة الإسلاميين من أقل من 40 قرشا في منتصف السبعينات إلى 62 ألف جنيه مع سقوط نظام عمر البشير في 2019. وبينما أُفقر المواطن العادي إلى درجة العوز، اغتنى تجار الدين إلى حد الفحش في مجتمع صار أقرب شيء إلى الإقطاعي.
مختصر الكلام هو أنه بين عشية وضحاها نقل عبد الخالق وأنصاره من جيل الشباب الجبهة المعادية للاستعمار من كتلة سياسية قادرة على صنع التاريخ الجديد المشرق تحت قيادة بصيرين هما عبد الوهاب زين العابدين ومن بعده عوض عبد الرازق إلى حزب شيوعي ماركسي لينيني هو المسؤول عن وضع البلاد على طريق الكارثة.
أسئلة مشروعة
لا يهم ما إن كان الحزب الشيوعي قد كرّس نفسه حقيقة لإنصاف العمال والفلاحين والفئات الدنيا والمهمّشة ولنشر العدالة والمساواة والحرية وإقامة دولة الرفاه ثم المدينة الفاضلة ثم الجنّة نفسها على الأرض. هذا ليس مهما وإنما المهم هو: في أمة تتخذ خيوط نسيجها من الإسلام وتبني عليه هويتها الاجتماعية والثقافية والفكرية وقوانينها الوضعية والعرفية، كيف صار لحزب أن يعلن نفسه شيوعيا ملتزما بالماركسية اللينينية ولا يتوقع أن يصنّف أعضاؤه في خانة الملحدين الكفرة؟ كيف يتوقع حزب كهذا أن يصل إلى سدة الحكم بالتفويض الجماهيري؟ وماذا يتوقع منه الناس إذا انتخبوه ليقودهم؟ أن يعلي راية الإسلام والهدى أم ينحرف بهم إلى "الضلال المبين" ويوردهم مورد التهلكة في الدنيا ويذيقهم عذاب النار في الآخرة؟ لماذا أعلن هذا الحزب للناس أنه شيوعي وسوادهم الأعظم يساوي بين الشيوعية والإلحاد؟ لماذا قدم لخصومه السياسيين المشروعية الدينية (أقوى الذرائع في مجتمعنا) لتصفيته بالقول إنه حزب الملحدين في بلاد مسلمة؟ لماذا كتب نهايته السياسية بيده فقط لاختياره الاسم الخطأ بين عدد لا يحصى ولا يعد من الأسماء؟ وأي ماركسية لينينية ظن أنها مخرج السودانيين من الظلمات إلى النور؟
وخذ المتعلمين والمستنيرين والنافرين من حكم الجهلاء والساعين لكسر حلقة الطائفية وتجار الدين والعسكر ، اولئك الباحثين عن منبر يلائم تطلعاتهم التقدمية. هؤلاء كانوا سيشكلون عمود الحزب الفقري الصلد لولا انه أعلن للعالم أجمع أنه الحزب "الشيوعي" أو "الحزب الملحد" كما يراه الناس، فنفروا منه وإن كان جلّهم يعلم أنه ليس كذلك. لكن الاسم هو الاسم. وبالطبع فهناك العديد من القيود التي كبلت الحزب بخلاف تسمية "الشيوعي"، لكنها قيود قد تعنى بها أقلية الانتلجنسيا بينما الذين يهمنا في هذا المقام هو عقلية رجل الشارع العادي.
وحتى اولئك الذين واتتهم الشجاعة للسباحة عكس التيار بالانخراط في صفوف الحزب، ماذا جنوا غير الملاحقة والاعتقال والسجن والمراقبة وقطع الأرزاق والاختباء في الجحور وحتى الإعدام بالرصاص والمشانق، وبدون تعاطف جماهيري يخفف عنهم وحشة العزلة دعك من حملهم على الظهور إلى كراسي السلطة؟ والمحزن هو: من منا يستطيع القول إن هؤلاء كانوا ملحدين؟ من منا يستطيع القول إن عبد الخالق محجوب نفسه عاش ومات ملحدا؟
وماذا عن الذين تعاقبوا على زعامة الحزب بعد محجوب؟ هؤلاء للأسف أبقوا على الوضع كما هو، إما لأنهم لم يروا خطأ الاستراتيجية والمسار في المقام الأول أو لأنهم استحوا أو تخوفوا من التصحيح، باعتبار أن الذي ورثوه هو حزب عبد الخالق محجوب (البقرة المقدسة) وليس تصورهم الخاص له ولمستقبله.
لهذا كله تحول الحزب الشيوعي السوداني إلى كتلة سياسية جامدة لا تؤثر في ما حولها ولا تتأثر به. من فاعل إلى مفعول به. وهذه مفارقة مدوّية لأن الحزب صار فريسة لنفس الشيء الذي تأسس للنضال ضده. ولا غرو، فعلى مدى تاريخه - مثله مثل الأحزاب الطائفية - لم يملك الحزب في أي يوم وحدة للأبحاث تعينه على وضع استراتيجيته للحكم، دعك من برنامج اقتصادي محدد بالأرقام يبني عليه الدولة الحديثة. وهذا لأنه انصرف بالكامل، وحتى اليوم، إلى المعارضة الكلامية. فأتقن النقد المعلّب وضخ الكلمات الرنانة مثل الحرية والمساواة والعدل والشعارات على شاكلة عاش كفاح الشعب السوداني والمجد لأمتنا إلى آخره من منتجات مطاحن الكلام التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
خسارة فادحة
لا يخطئن أحد فيجحف في إعطاء عبد الخالق محجوب قدره وحقه. ففي أمة تفتقر إلى العقول المفكرة وتقتل ما طفا منها إلى السطح (كما فعلوا بمحمود محمد طه الذي ارتقى بالصوفية السودانية إلى مرتبة الفلسفة)، كان محجوب بين الأدمغة الأسطع. لكنه عندما تسلم مسؤولية بحجم الوطن كان ثائرا طوباويا سنّه الغضة لا تسمح له بالرؤية العريضة والتروّي كما أُتيح لسلفيْه زين العابدين وعبد الرازق. ولم يكتسب لاحقا نوع الدهاء السياسي الذي تمتع به حسن الترابي، أو فن البراغماتية الذي أتقنه ساسة مفكرون مثل اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب وأحمد سليمان وجعفر بخيت. وما لا شك فيه هو ان حلم عبد الخالق محجوب كان بحجم الوطن. لكنه أضاعه منذ اللحظة الأولى عندما غلّب المصادمة الثورية الشرسة على ما عداها فجاءت الأثمان فادحة عليه شخصيا وعلى حزبه وأمته. ولذلك فهذه دمعة مني على الوطن المُضاع.
الحلقة المفرّغة
بدأ تشكيل الحلقة المفرّغة التي ألقت بالسودان إلى التهلكة عندما ذهب راعي حزب الأمة ورئيس الوزراء عبد الله خليل بقدميه في نوفمبر 1958 إلى الفريق ابراهيم عبود وترجّاه أن يتسلم الجيش حكم البلاد. وفي 17 من الشهر نفسه ورد في بيان عبود رقم 1 أن الجيش "تدخل بعد أن ساءت الأحوال وتدهورت الأمور وأوشكت البلاد على الانحدار إلى هوة لا يعلم مداها إلا الله" ("صناعة الحكومات في السودان – محمد سعيد محمد الحسن، ص 29).
من يومها ابتلينا بالحلقة المفرغة التي ظلت سمة لحكوماتنا منذ الاستقلال: نصفها الأول حكومة مدنية منتخبة ولكن على أساس طائفي. هذه ديمقراطية كاذبة لأن كلا من الطائفتين كان يخوض الانتخابات وفي جيبه أصوات أتباعه. فلم ير أي منهما ضرورة لوضع برنامج عملي - اقتصادي خصوصا - يبني عليه برنامجا للدولة الحديثة. بل انه لم يبذل جهدا لوضع إحصاءات دقيقة كانت أو فضفاضة لموارد البلاد المتيسرة والكامنة وكيفية استغلالها، لأن أصوات الأتباع المضمونة أغنته عن كل هذا. وبذلك صارت الانتخابات العامةمجرد عملية لمعرفة أي من الطائفتين سيحكم البلاد وإن كان يفتقر إلى معرفة حقيقية بكيفية إدارة الدولة.
والنصف الثاني هوالدكتاتورية المسلحة. فعندما تنتقل الأوضاع في ظل الحكم الطائفي من سيئ إلى أسوأ، يغتصب العسكر الحكم بدعوى "الإنقاذ" أو "التصحيح" أو "الإصلاح" لأن البلاد "انحدرت إلى هوة لا يعلم مداها إلا الله" كما قال عبود. ويكفي القول إن العسكر يغتصبون السلطة في رمشة عين. لا انتخاب ولا قاعدة شعبية ولا تفويض وإنما حاكم يختال كالطاووس في زيه العسكري البرّاق ويسيّر البلاد على هواه بمراسيمه الرئاسية. وهذا رغم انه لا يوجد في الكتب السماوية أو الأرضية نص صريح أو إيحاء مبطّن يبيح له سرقة حق الناس في اختيار من يحكمهم وحقهم في التمتع بالحريات الأساسية.
ولكن لا بد من القول إن الأنظمة العسكرية والطائفية على السواء وجدت اوكسجين بقائها في تدني نسبة المتعلمين والوعي وبالتالي تخبط معظم أهل البلاد - بمن فيهم المتعلمون غير المستنيرين – في ظلام الأميّة الفكرية عموما والجهل بماهية الديمقراطية الحقيقية خصوصا.وقد علّمنا التاريخ القريب أن تخلصنا من دكتاتورية الجيش لا يعني - للأسف -سوي نجاتنا من فك عسكري مفترس لنقع في فك طائفيى مفترس. استجارة من الرمضاء بالنار والعكس.
هناك بالطبع اللاعب الثالث المهم: تجار الدين الذين يتخذون من هذه الحلقة المفرغة منصة الوثب المثالية الى السلطة الفعلية وهم يرفعون راية الإسلام المزيّف. هؤلاء استكشفوا خبايا اللعبة فعلموا أن الخطر الحقيقي عليهم لا يأتي من الشارع وأحزابه، وإنما من الجيش. فراحوا يتسللون إلى صفوف قياداته حتى سيطروا عليه بالكامل. ولأنهم لا يتمتعون بالعقلية العسكرية، كونهم تجار دين ودنيا شغلهم الأساسي هو الإمساك بزمام السلطة وامتصاص الدم من شرايين البلاد الاقتصادية، فقد أهملوا الجيش بالكامل وأوكلوا مهامه القتالية لميليشيا سموّها "قوات الدعم السريع". وعندما تصادمت مصالح المربّي والربيب، انتهى الأمر بالوطن إلى حرب بين جيش بلا أسنان عاجز عن الدفاع عن نفسه ومواطنيه وبين الميليشيا الربيبة التي وجدت الساحة خالية بالكامل فعاثت في الأرض فسادا... في دارفور أولا حيث مارست أسوأ أنواع التطهير العرقي بالإبادة الجماعية، والآن في العاصمة نفسها حيث شرّدت أهلها من ديارهم وأحالتهم أجمعين لاجئين مشردين لا معين لهم.
المخرج
بدا واضحا أن الحلقة المفرغة (الطائفية ثم العسكر ثم الطائفية، محاطان على الدوام بالطفيلية الدينية) صارت قدرنا ومصيرنا بلا مخرج. ولكن، صدق أو لا تصدق، أن المخرج ظل موجودا منذ الأربعينات عندما ولدت الأحزاب الطائفية نفسها وبنحو 12 سنة قبل أن تقدم هذه الأحزاب نفسها الدعوة للعسكر للإمساك بالحكم لأنها لم تدر كيف تدير البلاد.
إليك "الجبهة المعادية للاستعمار" التي خرجت من رحم"الحركة السودانية للتحرر الوطني".مؤلفة من شقين أحدهما في العاصمة السودانية من طلاب كلية غردون ومدرسة وادي سيدنا الثانوية والآخر من الطلاب السودانيين في القاهرة والعائدين منها. وكانت الحركة السودانية للتحرر الوطني" قد تشكلت على غرار "الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني" (المصرية) وسبب وجودها الأول مكافحة الاستعمار، متبنيّة قضايا العمال والفلاحين والفئات المهمّشة المفتقرين إلى التعليم وبالتالي إلى المقدرة على نيل حقوقهم، عبر تحول تدريجي إلى الاشتراكية.
وكلمة "التدريجي" هي المهمة هنا لأنها صارت محور صراع قصير الأمد لكنه وجودي بين جيلين و أسلوبين. وكان أحد طرفي هذا الصراع الرعيل القديم، يقوده عبد الوهاب زين العابدين ومن بعده عوض عبد الرازق. وكان كلا الرجلين يدعو للتمهل والتدرج والاعتدال واستمالة القواعد الطائفية (وسط الفلاحين والعمال خصوصا) بالرفق واللين. وفي الطرف المقابل كان هناك جيل الشباب الداعي للحسم بالتغيير الثوري يقوده الطلاب العائدون من مصر وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب الذي تمكن من إزاحة عبد الرازق والحلول مكانه في منصب الأمين العام.
"الحركة السودانية للتحرر الوطني/الجبهة المعادية للاستعمار" كانت هي الكتلة السياسية الأكبر والأهم خارج النطاق الطائفي والجهة الوحيدة المؤهلة للجلوس على كفة الميزان المقابلة وترجيحها تدريجيا بالقيادة الحكيمة المدعومة بتنامي تيار التعليم في البلاد. بعبارة أخرىكان بمقدورها نقل السودان من القبضة الصوفية المهدية – الختمية - العسكرية إلى آفاق جديدة مبشرة بالديمقراطية الحقيقية ورفاه السودانيين.
وعندما تسلم عبد الخالق الأمانة العامة كان عمره لا يتجاوز الثانية والعشرين. وكان محتما لفتى في أوج فورة الشباب الملوّنة بمختلف درجات التفكير الطوباوي والمفتقرة بالكامل إلى خبرة الحكم والمعارضة أن يناطح الصخر. فبدأ عهده بأكبر خطأين في تاريخ السودان السياسي الحديث وهما:
1- تغيير اسم الجبهة إلى "الحزب الشيوعي".
2- إعلان التزام الحزب الجديد بالماركسية اللينينية.
بل ان محجوب، بغرض استمالته المزارعين لزعزعة الأساس الذي تقوم عليه الطائفية، "شن هجوما ضاريا على زعيمي الطائفتين الكبيرتين واتهمهما باستغلال الجماهير السودانية وبالعمالة للاستعمار الانجليزي - المصري" (محمد نوري الأمين – الحركة الشيوعية السودانية – 3 – ميدل ايست ستديز 1997).
ما هو حصاد الحزب الشيوعي؟
تلوّث الحزب وفقد مصداقيته بانقلابين عسكريين: انقلاب حعفر النميري في مايو 1969 وانقلاب الحزب على النميري نفسه في يوليو 1971. وأطاح هذا الفعلان الشنيعان مصداقية الحزب وأدبياته الرنانة عن الديمقراطية والحرية الخ... لكن عواقبهما عادتا وبالا على الأمة جمعاء خاصة بعد 1971. وكان أسوأ هذا الوبال (على سبيل المثال وليس الحصر):
أولا، وفّر الذريعة لنميري بعد 1971 لتدمير قاعدة السودان الصناعية في عطبرة ومعها شبكة خطوط السكك الحديدية (الصمغ الوحيد الذي يجمع أطراف البلاد) وقاعدته الزراعية في الجزيرة والمناقل (سلة غذا العالم العربي وأفريقيا) فقط لافتراضه ان العمال والفلاحين بأكملهم معارضة شيوعية تسعى لإسقاطه. أي ان النميري، في سعيه لأخذ ثأره من الحزب الشيوعي، دمّر الاقتصاد السوداني من أساسه إلى سقفه.
ثانيا: فتح الباب على مصراعيه أمام تجار الدين الإسلاميين لتسلم زمام السلطة الفعلية والسيطرة التدريجية على المؤسسة العسكرية. ولهذا وحده يمكن القول إن حرب السودان الدائرة الآن بين قادة الجيش الإسلاميين وربيبتهم قوات الدعم السريع إنما هي إفراز مباشر لهذا التطور.
ثالثا: رفع سعر الدولار تحت مظلة الإسلاميين من أقل من 40 قرشا في منتصف السبعينات إلى 62 ألف جنيه مع سقوط نظام عمر البشير في 2019. وبينما أُفقر المواطن العادي إلى درجة العوز، اغتنى تجار الدين إلى حد الفحش في مجتمع صار أقرب شيء إلى الإقطاعي.
مختصر الكلام هو أنه بين عشية وضحاها نقل عبد الخالق وأنصاره من جيل الشباب الجبهة المعادية للاستعمار من كتلة سياسية قادرة على صنع التاريخ الجديد المشرق تحت قيادة بصيرين هما عبد الوهاب زين العابدين ومن بعده عوض عبد الرازق إلى حزب شيوعي ماركسي لينيني هو المسؤول عن وضع البلاد على طريق الكارثة.
أسئلة مشروعة
لا يهم ما إن كان الحزب الشيوعي قد كرّس نفسه حقيقة لإنصاف العمال والفلاحين والفئات الدنيا والمهمّشة ولنشر العدالة والمساواة والحرية وإقامة دولة الرفاه ثم المدينة الفاضلة ثم الجنّة نفسها على الأرض. هذا ليس مهما وإنما المهم هو: في أمة تتخذ خيوط نسيجها من الإسلام وتبني عليه هويتها الاجتماعية والثقافية والفكرية وقوانينها الوضعية والعرفية، كيف صار لحزب أن يعلن نفسه شيوعيا ملتزما بالماركسية اللينينية ولا يتوقع أن يصنّف أعضاؤه في خانة الملحدين الكفرة؟ كيف يتوقع حزب كهذا أن يصل إلى سدة الحكم بالتفويض الجماهيري؟ وماذا يتوقع منه الناس إذا انتخبوه ليقودهم؟ أن يعلي راية الإسلام والهدى أم ينحرف بهم إلى "الضلال المبين" ويوردهم مورد التهلكة في الدنيا ويذيقهم عذاب النار في الآخرة؟ لماذا أعلن هذا الحزب للناس أنه شيوعي وسوادهم الأعظم يساوي بين الشيوعية والإلحاد؟ لماذا قدم لخصومه السياسيين المشروعية الدينية (أقوى الذرائع في مجتمعنا) لتصفيته بالقول إنه حزب الملحدين في بلاد مسلمة؟ لماذا كتب نهايته السياسية بيده فقط لاختياره الاسم الخطأ بين عدد لا يحصى ولا يعد من الأسماء؟ وأي ماركسية لينينية ظن أنها مخرج السودانيين من الظلمات إلى النور؟
وخذ المتعلمين والمستنيرين والنافرين من حكم الجهلاء والساعين لكسر حلقة الطائفية وتجار الدين والعسكر ، اولئك الباحثين عن منبر يلائم تطلعاتهم التقدمية. هؤلاء كانوا سيشكلون عمود الحزب الفقري الصلد لولا انه أعلن للعالم أجمع أنه الحزب "الشيوعي" أو "الحزب الملحد" كما يراه الناس، فنفروا منه وإن كان جلّهم يعلم أنه ليس كذلك. لكن الاسم هو الاسم. وبالطبع فهناك العديد من القيود التي كبلت الحزب بخلاف تسمية "الشيوعي"، لكنها قيود قد تعنى بها أقلية الانتلجنسيا بينما الذين يهمنا في هذا المقام هو عقلية رجل الشارع العادي.
وحتى اولئك الذين واتتهم الشجاعة للسباحة عكس التيار بالانخراط في صفوف الحزب، ماذا جنوا غير الملاحقة والاعتقال والسجن والمراقبة وقطع الأرزاق والاختباء في الجحور وحتى الإعدام بالرصاص والمشانق، وبدون تعاطف جماهيري يخفف عنهم وحشة العزلة دعك من حملهم على الظهور إلى كراسي السلطة؟ والمحزن هو: من منا يستطيع القول إن هؤلاء كانوا ملحدين؟ من منا يستطيع القول إن عبد الخالق محجوب نفسه عاش ومات ملحدا؟
وماذا عن الذين تعاقبوا على زعامة الحزب بعد محجوب؟ هؤلاء للأسف أبقوا على الوضع كما هو، إما لأنهم لم يروا خطأ الاستراتيجية والمسار في المقام الأول أو لأنهم استحوا أو تخوفوا من التصحيح، باعتبار أن الذي ورثوه هو حزب عبد الخالق محجوب (البقرة المقدسة) وليس تصورهم الخاص له ولمستقبله.
لهذا كله تحول الحزب الشيوعي السوداني إلى كتلة سياسية جامدة لا تؤثر في ما حولها ولا تتأثر به. من فاعل إلى مفعول به. وهذه مفارقة مدوّية لأن الحزب صار فريسة لنفس الشيء الذي تأسس للنضال ضده. ولا غرو، فعلى مدى تاريخه - مثله مثل الأحزاب الطائفية - لم يملك الحزب في أي يوم وحدة للأبحاث تعينه على وضع استراتيجيته للحكم، دعك من برنامج اقتصادي محدد بالأرقام يبني عليه الدولة الحديثة. وهذا لأنه انصرف بالكامل، وحتى اليوم، إلى المعارضة الكلامية. فأتقن النقد المعلّب وضخ الكلمات الرنانة مثل الحرية والمساواة والعدل والشعارات على شاكلة عاش كفاح الشعب السوداني والمجد لأمتنا إلى آخره من منتجات مطاحن الكلام التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
خسارة فادحة
لا يخطئن أحد فيجحف في إعطاء عبد الخالق محجوب قدره وحقه. ففي أمة تفتقر إلى العقول المفكرة وتقتل ما طفا منها إلى السطح (كما فعلوا بمحمود محمد طه الذي ارتقى بالصوفية السودانية إلى مرتبة الفلسفة)، كان محجوب بين الأدمغة الأسطع. لكنه عندما تسلم مسؤولية بحجم الوطن كان ثائرا طوباويا سنّه الغضة لا تسمح له بالرؤية العريضة والتروّي كما أُتيح لسلفيْه زين العابدين وعبد الرازق. ولم يكتسب لاحقا نوع الدهاء السياسي الذي تمتع به حسن الترابي، أو فن البراغماتية الذي أتقنه ساسة مفكرون مثل اسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب وأحمد سليمان وجعفر بخيت. وما لا شك فيه هو ان حلم عبد الخالق محجوب كان بحجم الوطن. لكنه أضاعه منذ اللحظة الأولى عندما غلّب المصادمة الثورية الشرسة على ما عداها فجاءت الأثمان فادحة عليه شخصيا وعلى حزبه وأمته. ولذلك فهذه دمعة مني على الوطن المُضاع.