نكهة (الاكلموي) على شاطيء نصف القمر

 


 

 

اذا ارتاح الطغاة الى الهوان
فذكرهم بأن الموت دان
وان راهنت ان الثأر ينسى
فانك سوف تخسر في الرهان
تحاصر من أخ أو من عدو
سنغلب وحدنا وسسيندمان
نموت فيكثر الأشراف فينا
وتختلط التعازي بالتهاني

تميم البرغوثي

تأسرني البحار أينما رأيتها بهدوئها وصخبها وغموضها وهي تتحطم مرهقة على الشواطيء أو تشتعل أمواجها في الأفق البعيد .. تأملت سحرها وذبت في جمالها في محطات متناثرة في حياتي منها لسان البحر الذي يتمدد شرق حي المشيل في سواكن..رمال شاطيء مرأيف (جنوب أشجار المانجروف في هيمول وأمانة (جنوب بورتسودان) .. شاطيء ميامي في الإسكندرية .. محطات تجرعت ذكرياتها قبل أيام وأنا أحتسي مع الرفاق فناجين قهوة (الأكلموى) على شاطيء نصف القمر 30 كيلومترا جنوب الدمام السعودية ولكن ما صدمني حقا هو ما أستقر في العين من على متن الباخرة (أمان) في ميناء سواكن من مشاهد رمادية حزينة على غير العادة .. مباني الجزيرة ..قلاع كتشنر..محلج البربري..سور الأنصاري وقد بدأت كلها رحلة الانكفاء على الأرض ربما تماهيا مع حال البلد .
(2)
بصدور قرار مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة بفتح تحقيق في الوضع الإنساني في البلاد يدخل السودان نفقا مظلما مماثلا للنفق الليبي والسوري واليمني بل ربما اكثر حلكة وسوادا من الانفاق الثلاثة لكونه أكثر تعبيرا لتمدد الكارثة وتطاولها اذ ان الفرقاء اختلفوا حتى على القرار (أيدته 19 دولة وعارضته 16 وامتنعت 12 عن التصويت ) فالجيش رفضه جملة تفصيلا بينما وافق به الدعم السريع دون شروط. وقد نقل على لسان ميشيل تايلور الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في مجلس الأمن (لا يمكن للمجتمع الدولي وضع ثقة عمياء في حسن نية جنرالين أظهرا لا مبالاة تامة بحياة المدنيين ) ..
(3)
هذا صحيح اذ لابد من البرهان أن يعض بنان الندم حيث لا يجدي الندم على دوره في رعاية حميدتي والنفخ فيه حتى أصبح غولا فوق السيطرة ولا أدري أي دور مرجو من خصمه والسؤال موجه لحميدتي وللذين يتعاطفون معه ..كيف يستقيم عقلا انتزاع شقاء عمر مدنيين عزل ثم اغتصاب بناتهم وزوجاتهم أمامهم بزعم تحقيق الديموقراطية .. هل هذا هو الطريق الى الحكم الرشيد ؟ ..
(4)
هذه جرائم موثقة أبطالها مليشيات عنصرية رعوية مدعومة بمرتزقة يضربون ضربتهم وينقلون غنائمهم من المال المسروق الى النيجر ومالي وبوركينا فاسو يستخدمها حميدتي الآن في الحرب فيما تغاضى البرهان عن القنبلة الموقوتة أيام شهر العسل ..لا شيء أكثر تعبيرا عن غباء العسكر الذين نكبوا السودان وأوصلوه الى مرحلة اللاعودة والفناء مما شهد به المؤلف الايرلندي جورج بيرناندشو حينما قال soldierlty is a sign of stupidity (الجندية رمز الغباء) .
(5)
لكن رغم ان العلاقة بين الجنرالين هي علاقة شحم ونار فان الذي يجمع بينهما هو الهرولة نحو العدو الإسرائيلي فالبرهان هو أول من دشن هذا الطريق بالطيران الى عنتيبي (يوغندا) للقاء نتينياهو لتأسيس شراكة استراتيجية تدعم موقفه وتحسن صورته أمام أمريكا (بوليس العالم) .. أما حميدتي فآخر ما تسرب من معسكره أنه استنكر بشدة تصدي حماس للمجازر الإسرائيلية باعثا برسائل تعزية لبني صهيون .
(6)
يقول ناصر الدين النشاشيبي وهو صحفي ومؤرخ فلسطيني تحدث يصف أحد مشاهد نكسة حزيران 67 فقال انه لم يشاهد في حياته مشهدا صادما للبصر والبصيرة سوى مشهد لرجل كان يركض عاريا كما ولدته امه هروبا من فرقة من الجيش الإسرائيلي كانت تطارده في احد شوارع القدس وقال ان اللوحة تستحق أن يكتب عليها (الهزيمة) أما أنا فقد رأيتها في الهزيع الأخير من الليل مجسدة في نساء أمهات وارامل افترشن الأرض والتحفن بالسماء حول مبنى السفارة في حي المطار في (بورتسودان) بأمل الحصول صباحا على تأشيرة هروب من البلد الغريق ..بل عشتها أنا ومعي آللآلاف من النساء والرجال بعضهم تجاوز عمر السبعين وأطفال في عمر الرابعة والخامسة نركض حاملين امتعتنا على رؤوسنا في ماراثون (يأكل فيه القوى الضعيف) للدخول الى الباخرة المغادرة الى جدة من ميناء الأمير عثمان دقنة بسواكن .
(7)
تتساقط تحت أقدامنا العبر والدروس ونحن لا نقرأها واذا قرأناها لا نفهمها وكأننا ننحدر من ملوك البوربون في أسبانيا ..ففي جنوب أفريقيا تأملت الأسطورة نيلسون مانديلا وهو ممسك بيد خصمه اللدود دي كليرك الذي أذاق شعبه أشد العذاب ثم أهانه وأذله في سجن انفرادي في جزيرة روبن داخل غرفة لا تتجاوز مساحتها 12 مترا على مدار 17 عاما وقال له متساميا على مراراته في لقاء متلفز على الهواء مباشرة
I Don't have any option than to put my hand into your hand
ليس لدي خيار آخر سوى أن أضع يدى في يدك .
(8)
في اثيوبيا الشقيقة على فركة كعب منا كان المشهد أكثر روعة فالتاريخ يقول ان الرئيس السابق للرئيس الحالي لأبي احمد وهو هايلي مريام ديسالين استعان بسلاح الطيران لدك القوات الاريترية لحسم نزاع قانوني في منطقة بادمي الحدودية رغم ان محكمة العدل الدولية أقرت بتبعية المنطقة لأريتريا ..حينما جاء أبي أحمد الى سدة الحكم توصل الى قناعة بأن الحرب دمار وان (الرابح فيها هو الخاسر) فأعاد الأرض الى أهلها فنال جائزة نوبل قبل أن يحصل من جارته أريتريا منفذا بحريا في ميناء مصوع .
(9)
الخلاصة النهائية أن أسمرة أيضا خرجت من الصفقة كاسبة فقد تحررت من شرنقة العزلة التي كانت تخنقها بفتح أديس أبابا حدودها لها لتطل على العالم الخارجي على قاعدة الكل رابح Win Win)) ولكن المشهد الأكثر جمالا ووعيا حينما انتصب أبي أحمد بقامته المديدة في قاعة أوسلو خلال مراسم تقديم جائزة نوبل للسلام وقال في خطاب مثير :
I told my friend ASSIAS AFORQI ( the problem between you and me is not a piece of land.. it's illiteracy ,poverty ,disease)
قلت لصديقي أسياس أفورقي (المشكلة بينك وبينك ليست قطعة ارض ..المشكلة هي الفقر والجهل والمرض )..فضجت القاعة بالتصفيق والذين صفقوا ليسوا غوغاء ورجرجة وأنصاف متعلمين مثلنا بل كانوا زبدة علماء العالم ومعظمهم حملة جائزة نوبل .
(10)
تقول ميشيل تايلور الممثلة الدائمة للولايات المتحدة في مجلس الأمن في تعليق لها على الوضع في السودان (لا يمكن للمجتمع الدولي وضع ثقة عمياء في حسن نية جنرالين أظهرا لا مبالاة تامة بحياة المدنيين ) . الذي تبقى هو ما قاله الشاعر أمل دنقل
لا تحلموا بعالم سعيد فخلف كل قيصر يموت
قيصر جديد
وخلف كل ثائر يموت
أحزان بلا جدوى ودمعة سدى


alrakoba@hotmail.com

 

آراء