صدي ذكري قديمة من عمودية كوري!
الخضر هارون
14 November, 2023
14 November, 2023
maqamaat@hotmail.com
هذه كتابة جاءت عفو الخاطرأردت بها تثبيت صورة من حياة القرية التي عاشها جيلنا تلاشت بفعل الزمن .قلت لعلي بهذ السطور التاليات أظفر بطرف منها أبقت عليه الذاكرة العجوز لعل الأجيال اللاحقة تلم بجزء منه . والكتابة بهذه الصفة التي ذكرت تحاشت ذكر الأسماء إلا بمن عرفوا بأدوار وقتها في خدمة الناس جزاهم الله خيرا ولم تحفل بذكر من تجاوز عطاؤهم القرية إلي خدمة الوطن الفسيح وفيهم وزراء وقضاة وعسكريون وأفذاذ في سائر المهن لا يكاد يحصيهم العد بفضل الله فخشينا أن نغفل ذكر بعضهم فنقع في المحظور. ومع ذلك نعتذر إن سقطت بعض الأسماء ممن عنينا بذكرهم في خدمة الأهل في البلد والله من وراء القصد قصد .
---------------
جلست وصاحبي ذات صباح غشيه الصبا البارد يحمل البشريات، علي الربوة المشرفة في شموخ علي النهر العظيم نتناوب الحديث عن ذكريات مشتركة عشناها معاً ولما أكثرت من ذكر النيل وجماله وعذوبة مائه ومتعة الرحلات علي متن البواخر التي كانت علي أيامنا تمخر عبابه غدواً ورواحاً بين كرمة وكريمة، أطرق صاحبي هنيهة ثم رفع رأسه ليقول لي:
أعلم أنه قد يسوؤك أن تعلم أن هذا النيل العظيم الذي يفتَر وجهه عن تبسم في نقاء الفضة المذابة عند الظهيرة وفي الليل البهيم إذا أكتمل الهلال بدراً منيرا يتوسط كبد السماء و يبدد البهمة الحالكة ويظل علي تلك الحال البهية غالب شهور العام ،تعتريه سورة غضب عارمة كما تعترينا فيختل مزاجه مثلما تعتكر أمزجتنا نحن بنو آدم ، كيف ونحن من ماء كما هو ،فيتمعر وجهه الصبوح الطيب الحبيب ويصير إلي لون التراب الداكن ليتخفي بألوان بشرتنا ! فلا نسمع له ركزاً حين يتجاوز ضفتيه مخاتلاً في طبع اللئام فيهدم العمران الذي ابتنيناه ، 'حدائقاً كأنها بقية من ذي يزن ,الحب فيها سكر والماء شهد ولبن 'من عذوبة مائه ودوراً من بلله . يفعل ذلك مرة في كل بضع سنين فلا تسلم الدور ولا البساتين من غضبته المضرية تلك ولا سبيل أمامنا لنرد الغضبة بمثلها فنستسلم صاغرين نلملم أطرافنا ونلعق جراحاتنا بهدؤ وربما بكينا علي مدخرات ابتلعها في أحشائه . وتتفاوت ردود الأفعال من غدر الفيضان بين البكاء علي ما ضاع والعتاب الذي لا يبلغ حد السباب وكيف يسب التعيس مصدر حياته المادية والمعنوية وملعون عند الله من سب أبويه فكيف بمن يسب قطب الرحي ومصدر العيش في حياته؟ واستطرد يروي عن أبيه عن واحدة من تلك الغدرات الشهيرات كأنه ينصحني أن محبة النيل عندي يلزم أن تكون هوناً ما , لا علي اطلاق, قال:
في ليلة من ليالي أغسطس من عام ١٩٤٦ والناس من كد النهار نيام تسمع لهم غطيطاً،هجم النهر هجومه الكاسح علي امتداد ضفتيه ففعل بالناس الأفاعيل.
وفي منطقتنا قبل إلغاء الادارة الأهلية امتدت عمودية كوري من ساب قرية كوري ( طرفها القصي) إلي قرية النافعاب . وتلك رقعة تضم عدة أسماء لقري صغيرة وكبيرة وبين أهلها جميعا وشائج وأرحام فهذا عصبته في ساب كوري وأرحامه في أقصي حدود الساقية في النافعاب ومع ذلك يفعل التنافس بينهم والعصبية احيانا فعل الأعداء فيشتجر الخلاف علي تسمية المدرسة والطاحونة ونقطة الغيار ,كل يروم الرفعة لقريته بالتسمية وهكذا كل السودان ولعل ذلك من أسباب عثراته المزمنة. ولو أنهم تجاوزوا الصغائر وعقدوا العزم مجتمعين وشمروا السواعد لآحالوا الصحراء المتربصة بدورهم وبساتينهم ومزارعهم بل بالنيل العظيم مصدر رزقهم ,إلي جنان وارفات تفيض بالخير الوفير والخضرة الباذخة قبل أن يسبقهم إلي ذلك غيرهم !والأرض الخصبة في العالم تتناقص في كل يوم تشرق فيه الشمس.
درسنا الأستاذ ابراهيم ياسين أطال الله عمره , مادة التاريخ في الأميرية الوسطي في ودمدني وفي سياق ذلك جاء علي ذكر قريتهم )ودربيعة )في قلب الجزيرة الخضراء ,حيا مروجها البهية الحيا ، يحدث عن انقسام تعانيه بين مكوناتها القبلية وهي تباينات في اسم القبيلة لاتري بالعين ولا تعني علي التحقيق شيئاً فالناس قد تصاهروا واختلطت منذ أزمان بعيدة بحيث يستعصي التمييز بينهم بلون أو ملمح . قال لكنها مع ذلك منقسمة ! دعنا نقول وقتذاك ,ستينيات القرن العشرين لعل الله قد آخي بين الحيين، لعلهما الخوالدة والجعليين أو الكواهلة وربما العركيين لا أدري علي وجه الدقة، قال منقسمة كما مدينة برلين! وللشباب الذين ولدوا بعد العام ١٩٩١ أن يعلموا أن برلين عاصمة ألمانيا ظلت منقسمة طوال فترة الحرب الباردة كما كانت ألمانيا نفسها مقسمة لشيوعية تعرف بألمانيا الديمقراطية ورأسمالية ذات نظام تعددي أطلقت علي نفسها اسم ألمانيا الاتحادية التي اتخذت من بون تلك المدينة الصغيرة الوادعة علي نهر الراين عاصمة لها وقد كان التقسيم احد نتائج الحرب العالمية الثانية. ومثل الذي ذكرنا عن ودربيعة تجده في كل مكان في السودان . قص عليً صديق من شمال ولاية الجزيرة , وفي شمال الجزيرة تعيش في وئام ومنذ قرون قبائل متعددة أهمها المحس ورفاعة وربما مسلمية ,اختلفوا في تسمية مسجد القرية ولما اشتد الخلاف اقترح أحد المحس تسمية وسطي لا تحمل اسماً لاحدي القبيلتين وهي أن يسمي مسجد الخزرج .(والمحس ينتسبون لأنصار المدينة المنورة ومنهم الخزرج ولعله اعتقد أن ذلك ينطوي علي الاخرين فإذا بشيخ من آولئك ينقر الأرض بعصاه ( يازول الخزرج ديل لا تطراهم لي) !
وتقسيم الكبير وقلة الصبر علي انصهار أجزائه المتباينة علي نار هادئة عبر الزمن إلتماساً لتجانس عجل, لا يحقق الاستقرار كما يتوهم بعض الناس هذه الأيام بل يحي الانقسام بين المكونات الصغيرة الناتجة عن القسمة فتكبر وتصبح معتركاً لقتال قد يطول وجراحات يستعصي برؤها..تأمل ما كان من أمر الجنوب بعد عامين فقط من انفصاله في العام ٢٠١٣ من مجازر بين قبيلتين من النيليين، الدينكا والنوير ويقال إنهما كانتا رتقا انفتق ،أي قبيلة واحدة تمزقت!
نعود لعمودية كوري و تبدأ قراها في أقصي الغرب علي الضفة الشرقية لنهر النيل (ولأن النيل منحن تختلط الاتجاهات وتصبح جنوباً وشمالاً ولكن دعونا نقول إن أي مسافة تقصر المسافة نحو الحدود المصرية تعد شمالاً) بقرية كوري وهي قرية كبيرة تضم عددا من السواقي بها سوق ومدارس للبنين والبنات ومتعلمون ومتعلمات ومنها جاء العمدة سليمان جانقبة خلفه عليها ابنه إبراهيم وشيخها كان عبد الله أبوكروق خلفه عليها ابنه عليً .وناظر الخط كان السيد أحمد أبوشوك من قنتي وهو جد البروفسور أحمد والأستاذ إبراهيم أبوشوك ومأذونها كان عثمان القاضي خلفه عليها ابنه المأذون الحالي نجله عبد الله متعه الله بالصحة ولا تزال تحتضن خلوة اشتهرت في زمانها أسسها الأزهري/ أحمد عبدالعاطي الشهير بود يابو تخرج علي يديه كثيرون في المنطقة وحرص أحفاده عبدالغفار ومحمد علي المحافظة عليها حتي اليوم لكن تضاءل أثرها وخفت بريقها , فالناس هداهم الله قد انصرفوا عن حفظ القرآن بعد انتشار التعليم الحديث وليتهم جمعوا بين الاثنين.وتنتهي كورى القرية بساقية صبير لتبدأ ناحية السدر وتضم عددا من السواقي من ساقية (حب الله ) فالعلوياب فساقية جدي عبدالرازق فساقية الخليفة وتنتهي الناحية بساقية العرب .
قلت أنا متناولا زمام الحديث من صاحبي عند ذكر ساقية عبدالرزق :
تلك قريتنا مسقط رأسي ورأس أجدادي أحمد وطه وياسين .إبراهيم ومحمد وعماتي وفيها ساقية جدي عبدالرازق الذي ولد في حي القبة ، قبة جده حسن ود بليل في قرية الركابية وله أنقاض حوش يعرف حتي اليوم بحوش عبدالرازق .وكانت بالسدر خلوة لتحفيظ القرآن الكريم قد سبقت في الوجود خلوة الشيخ أحمد عبدالعاطي وخرَجت كثيرين في زمانها ثم انتهي وجودها بوفاة جدي أحمد عبدالرازق. وحفظ علي بديه اعمامي ابنعوف وعبدالرحيم وحفظت عمتي بخيتة آجزاء من القران خمساً وهي جدة البروفسور أحمد خالد بابكر وشقيقه الأستاذ محمد لأمهما . وتلي السدر في اتجاه الشرق قرية موره وتضم قري في جوفها تبدأ بساقية موسي وتليها ساقية وديحي ثم ساقية ودعلي وتسمه هذه المنطقة بالرف فيه في طرف القريم الكبيرة مورة وقد كانت بالفعل قرية كبيرة ، محطة للبواخر النيلية تناوب علي نظارتها الشيخ عبداللطيف وعلي سعيد حفظ الله وكانت ذات سوق معروفة في المنطقة ومنها مشاهير يمنعنا حرج ذكر البعض دون البعض من إيراد الأسما ء ونكتفي بمن كانت لهم وظائف رسمية واجتماعية في القرية. و في أقصي شرقها قرية الركابية موطن أجدادي شيوخ الركابية عدا سراج أب حامدية ,حسن ود بليل وحاج عيسي فلا تزال قبابهم تقف شامخة أما سراج فهو إلي السدر أقرب لا تعلو قبره بناية بل تنتشر عنده قبور الموتي .
وقد جاء ذكر موره في رائعة اسماعيل حسن (يا حليلك يابلدنا ) التي يغنيها أحمد فرح :
ود بليل في موره معروف.
وفي موره خلوة عظيمة هي خلوة الشيخ أحمد صالح فضل ساهمت بقدر واف في تحفيظ القرآن ونشر العلم الشرعي ومحو الأمية.
ومن مشاهيرقرية الركابية نفر منهم الشيخ العالم حاج ماجد حاج موسي والحسين حاج موسي. والصايم حاج موسي . ولا بد لي من الترحم هنا علي خالتي فاطمة بت خُضر، زوجة عمنا بليل فقد تميزت في ذلك الوقت بأنها كانت تكتب وتقرأ وتحفظ شيئا من القرآن الكريم وكان ذلك نادرا بين النساء وهي شقيقة خالنا عبد الوهاب ود خُضر ووالدة سيد وعثمان بليل ولعلي ذكرت آنفاً عمتي بخيتة لذات السبب ولعل القابلة القانونية الوحيدة في سائر العمؤدية السيدة عزاز في كوري كانت هي الأخري قارئة.
كانت موره قرية عامرة بأهلها وبها مدرسة أولية كان ناظرها جعفر ابن العمدة سليمان جانقبة ولعل الشيخ عبد الحليم سوار من اللركي في عمودية جلاس والد أقربائي السفير عبد المحمود واخوانه الدكتور عبدالرحيم ومحمد الكامل وفي سوقها تتردد أسماء تجار عرفوا : مكي عبدالله وود شبو، ود قدورة ود العميوقة وأبوزيد النقي و يفد إليها في الأيام المخصصة (السبت والثلاثاء) للسوق من كوري حاج قمر الدين ومن السدر ابن عمنا محمد شريف والريح يعقوب وهؤلاء علي سبيل المثال لا الحصر وفي ساحة السوق نسوة يبعن القاعون والمقاد والترمس وفواكه الموسم ورغيف العيش الذي لم يكن سيد المائدة يومئذ.
وفي أقصي حد الساقية المتاخم لعمودية جلاس ، قرية النافعاب ومن مشاهيرها المبارك شيخ الزار المذكور في أغنية القمر بوبا .وتلزمني قيم العرفان أن أذكر بالخير أستاذنا في ثانوية مدني علي دبلوك .ولنا آصرة مصاهرة مع آل دبلوك وقرابة عبر بنت عمتنا بت قريش والدة السيد حمد دبلوك.
ولعل الدور كلها كانت في كنف وحماية النيل تستظل بغابات النخيل الكثيفة التي تسمع لها دوياً كدوي الرعد في موسم الفيضان أو تنوح باكية كما تلك التي يوم أن غمرت أرض النوبة مياه السد العالي فيما صاغه شعرا سليمان عبدالجليل وتغني به حمد الريح فخالها سليمان تبكي علي الراحلين إلي البطانة :
يا حليل الراحو وخلو الريح تنوح فوق النخل!
تري من الذي ناح؟ الريح أم النخل الحزين!
نعم استجمت سائر القرى واستعصمت بالنيل :الدور والمسجد والخلاوي. قال لي حاج ماجد رحمه الله كنا نسمع صوت المؤذن سليمان حمد عنان من جامع موره هناك في الركابية علي بعد فراسخ ينادي لصلاة الصبح. والصدي تحت ظلال النخيل أكثر ما يميز تلك الأيام. قلنا استعصموا بضفة النيل ومن مأمنه يؤتى الحذر! ألم يستعصم حكامنا بهذه المليشيات لحماية الأرض والعرض فكانت هي العدو الذي نحاذر منه؟
قال الفيضان بلسان الحال ( لا عاصم اليوم من أمر الله)!
تهاوت بيوت الطين القديمي وأصبحت أثرا بعد عين فلجأ الناس إلي الصحراء بعيدا يبنون الدور يخشون فجاءات النيل وغدراته في مقبل أيامهم.
سكبت إمرأة من موره أحزانها في ابيات من الرجز:
حليل موره حليل عمارا
حليل عبدالله جزارا
وحليل كيمان المرارة
وعلي ذكر عبدالله جزارا فهو عبدالله ود ادريس وفي المغرب العربي الجزارة هي القصابة والجزار هو القصاب وهي فصيحة وقد خلف عبد الله نجله عطا السيد وفي كوري بابكر وعمنا محمد عبد المجيد وفي السدر بن خالنا حسن يعقوب .
وبكت الشاعرة فاطنة بت ود خير في مقاشي ضمن ما ذهبت به مياه ذلك الفيضان:
بكيت بصيلاتي الغلاد في القيروانة!
بكاياً ما بكيتي علي الوالدانا
( بصلات كبيرة في صفيحة لا يعلو سقفها عود.)
وبكي شاعر الكرو سليمان ود حمد فيما رواه عنه شاعرنا محمد سعيد دفع الله قصيدة معبرة كأن وقائعها من تصوير ( كاميرا) حسنة:
مالك الساموري كاجر
ما بتوقع وضرب أشتر
وللعرايس حكم كجر
وديك يكوركو انكسر الجسر!
ومع ذلك جاءت الأبيات كالمعاتبة لا المغاضبة إذ أسند فجيعة الفيضان المدمرة لفساد الناس وضياع الذمم.
ونجيب عن تساؤل مواطننا محمد المهدي مجذوب في قصيدة المولد:
أيكون الخير في الشر انطوي
والقوي خرجت من ذرة هي حبلي بالعدم ؟!
نجيب بأن نعم! وكل ضارة ربما حملت في أحشائها الخير العميم وقد جاء في التنزيل ( وعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيراً.) النساء ١٩. ففي تلك العاصفة ولد أفذاذ كثر في شتي المجالات سعدت بهم أسر وعشائر وأوطان لا يحصيهم العد في بلدنا وفي غيرها من البلدات الواقعة علي النيل لم يضرهم أن ميلادهم كان في تلك الليلة الحزينة بل قرنوه بها فقالوا فلان وفلانة ولدوا سنة التساب! وما التساب سوي هذا الفيضان في لغة النوبة ،فكتبت للمتميزين منهم الخلود بما صنعوا وكتب الخلود كذلك لسنة التساب. وسأخص من أولئك ابن خالتي الدكتور عبد المجيد محمد كمبال الذي رحل بهدؤ لا يشبه صخب تلك الليلة من ليال التساب لأن المنية وافته في أيام نحسات أشعلت فيها القوي الباغية هذه الحرب اللعينة علي السودان في منتصف أبريل من هذا العام 2023 للميلاد. وكان الشاعر الجاهلي الحكيم زهير ابن أبي سلمي قد حدثنا عن أحوالها و أهوالها قبل أكثرمن ألفي عام خلت:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضْرَ إذا ضريتموها فتضرمِ
فتَعرُككم عرك الرحى بثقالها
وتلقح كشافا ثمّ تُنتجُ فتتئمِ
نعم لم يتسع صدر العاصمة الخرطوم الحانية لموقع يقام فيه سرادق للعزاء والعهد بها من قديم أن كانت مثابة لكل من رام في عرصاتها الإقامة والأمان. وكما قال ود حد الزين:
حتي الطير يجيها جعان
ومن أطراف تقيها شبع
وعن ناسها قال:
يبدلوا الغير علي ذاتن
ويقسموا اللقمة بيناتنا.
حلاة ناساً بل السكر!
وفي غزوة أحد استشهد عم النبي الأعظم وأخوه في الرضاعة حمزة بن عبدالمطلب ضمن سبعين شهيدا فانطلقت نساء الأنصار يبكين علي قتلاهن كما تفعل نساؤنا اليوم، فأحزن ذلك النبي فقال وأسي الغربة يعتصر دواخله وما أقسي موت الاحبة علي ذويه وهم في الغربة بعيدا عن الأوطان: ( وحمزة لا بواكي له) . قال أصحاب السير أن نسوة من نساء الأنصار نحن عليه.فقد كان المهاجرون قلة قليلة في المدينة في العام الثاني للهجرة .
لكننا بكينا بدواخلنا فجيعة فقدان الدكتور النابه الذي جاء الأول علي السودان في امتحانات الدخول للجامعة بداية ستينيات القرن العشرين فشرفنا أيما تشريف. وتنزلق الذاكرة لنابه مثله لعله ولد في تلك الليلة ،بعدها بقليل أو قبلها هو الدكتور الناصر عبدالله أبو كروق، ابن شيخ العمودية وقتذاك وقد سبقه عليها جدنا طه ود عبدالرازق وهو عم والدي وجد والدتي لأمها خلفه عليها ابنه علي. بارك الله في عمر الناصر ونفع به ، ففيه وفي عبدالمجيد تواضع جم ولين عريكة وتربط الناصر بالطرف وشيجة رحم مع آل سعيد نقاشي. كلاهما يتحدثان لهجة الإمالات كأنهما لم يغادرا البلد قيد أنملة ,تحس في حديثهما أصالة وحميمية وحسن طوية.
أم عبدالمجيد وأمي بنات عم ضمهما حي الطرف في موره. سألت عبدالمجيد في صباي عن أي ملوك يتحدثن مفتخرات فقد كان عمهما وولي أمرهما محمد الشيخ ينادي بالملك . وقد كان هذا الملك كفيلهما وولي أمرهما فقد نشأتا يتيمتين في كنفه. وعن الملوك قال لي: هم ملوك الدفار في جقنارتي وقنتي . من هناك جاءت عشيرة الملوك من نسل موسا لعله آخر ملوكهم.سمعت خالتي خادم الله تقول بإعتزاز إنها موسابية وبديرية دهمشية. تخرج عبدالمجيد طبيبا في الجامعة وأرسل ليعمل طبيبا في مستشفي مروي. وجاء مرة بالمركب النهري (المخصوص )يشق عباب النيل لطارئ في البلد فكان ذلك حدثاً يروي لسنوات فقد كان المخصوص الذي تضيئه الثريات من مظاهر المدنية القليلة في تلك البقاع وفي ذلك الزمان . كان ذلك قبل ابتعاثه لبريطانيا للتخصص ليعود للعمل في جامعة الملك سعود حتي تقاعده قبل سنوات.
يسوقني الخيال وحده بشهادة ما رأيت وأنا يافع في بداية النصف الثاني من عقد الخمسينيات. إلي الزعم الذي لا يبلغ عندي حد اليقين أن فيضان ١٩٤٦ الذي ولدت بعده بسنوات عدة , قد أبقي علي بعض الدور تحت ظلال النخل قريبا من النهر في البشيراب في كوري حيث خؤولة والدي رحمه الله فكانت شبيهة بقرية( البركل تحت) اليوم تستريح وتنعم تحت ظلال هذه الشجرة العجيبة التي اختارها بعضنا لتكون عمة له و للبشر أجمعين. تركها أقول لنعتبر بالحكمة من زوال النعم ودوامها ولله في الخلق شؤون.
وفي موره أجتوي النيل القرية بكاملها إلي تخوم الصحراء التي تفترس ما بقي من عمارها اليوم في عموم (التكر)بكل قسوة فأصبحت جل القرية التي كانت عامرة بأهلها تنبض بالحركة والحياة، تلالا من الرمال الحمراء.
والاجتواء جاء به البروفسور عبدالله الطيب في نقده لقصيدة التجاني:
يا درة حفها النيل واحتواها البر.
قال كيف يحتويها وقد لفظها البر بعيدا فظلت قابعة في وسط البحر؟ والبحر يصح أن يطلق علي النهر! قال ,لعله أراد أجتواها من الجوي.أي كره مقامها عنده فلفظها.
غلب في ظنى إذن أن بقيت الطرف قريبة من النيل وليست تحت ظلال نخيله.
أما السدر مسقط رأس جدي وأبي وأعمامي عليهم جميعاً أوسع الرحمات ،فكانت بادئ ذي بدء كسائر القري تتفيأ الظلال تكسوها الخضرة حتي أطلقوا عليها كما أبلغني عمي عبدالرازق ( كوع الجنة). ولعل معركتها مع الفيضان قد سبقت غضبته تلك بأعوام سابقات فألفيناها جرداء قاحلة إلا من بعض أشجار السدر الذي سميت به وكثير من أشجار الدوم. كان الشامتون في سياق الحزازات المناطقية، يستشهدون بما لحقها من ضر , بما قصه القرآن الكريم عن منطقة سد مأرب في اليمن: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16).
لكن الحال تبدل شيئا ما و النخل سمقت سيقانه فجمع السدر بين رمال ونخيل في لوحة لم تكتمل بعد ولكنها مبشرة ولله الحمد والمنة ( والعافية درجات). يقول الأشقاء في شمال الوادي للتأسي والبقاء في حواف الأمل والرجاء بعيدا عن جوار القنوط ، ( شدة وتزول!) وقد بدأت في الزوال ككل عسر يعقبه اليسر!
كنت قبل سني الطلب وقبل أن تبتلعنا البنادر باكراً ,أسعد كثيرا في البشيراب التي وصفت آنفاً مع ابن عمتي علي عثمان عبدالمجيد ودارهم كانت فسيحة بها نخلات عظيمة وبجوارهم ( مترة) وفي جوارهم من الناحية الغربية حوش عمر شمعون ومن الناحية الشرقية بقية أعمامي من العائلة المجيدية محمد وأحمد أبناء خال والدي عليهم جميعا تتقاطر رحمات ربي سبحانه وأبناؤهم عبداللطيف وعبدالمجيد وعبدالحليم وعبدالله وخضر وسليمان. وعبدالفتاح وعبدالرحمن . وكان لعمنا أحمد عبد المجيد جنينة سمقت فيها أشجار البان .بعد ذلك دكان ود محمد موسي وخيل إليً أن أباه موسي كان رجلاً طوالا فاتح اللون في لون ابنه إبراهيم. وأمام الدكان كنت تجد الجمال جاثية وحولها جوالات السكر والقمح والفول. وكانت دكاكين ذلك الزمان معتقة برائحة الشاي (الحب ) أي السائب ولم يكن شاي الأكياس الصغيرة قد أطل برأسه بعد . والسكر كان يصب في قالب مخروطي ويكون صلداً يكسر بمقلام الحديد (البلنجة) وشكله تماماً علي هيئة جبل في (ريودي جانيرو) في البرازيل يسمي (جبل السكر) وكان مفضلا علي السكر السائب وقد غني أحدهم يمدح محبوبته مشبهاً إياها بهذا النوع من السكر (سكر حجري ما هو بغيتة ) ولعل البغيتة من (باكت) الانقليزية وتعني لفافة أو كيس . في تلك المتاجر يباع التنباك و البسكويت وله مذاق يشئ بقدمه بل وفساده وربما عدم صلاحيته للأكل في زمان صعبت فيه وسائل النقل السريع وكان لذلك تبعات ليس من العدل أن تحمل جرائرها متاجر ذلك الزمان التي لعبت بلا جدال أدواراً عظيمة في خدمة الناس وتبادل الأخبار. ما أبسط الحياة في ذلك الزمان فقد كانت تقوم علي أساسيات العيش بلا تذويق ولا رتوش ومع ذلك كانت الناس سعيدة راضية. وخلف الحي في البشيراب جزارة عمنا محمد ودكان عبدالمحسن قبل انتقاله إلي ساقية القاضي في المنقولة ثم ساحة طينية التربة شديدة السواد تسمي (الدلجة) الدلجة من فصيح العربية ومعناها الليل أو بعضه . جاء في خطبة زياد البتراء " ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة دلج الليل وغارة النهار؟ " وتعجب كيف تعايش هذا الفصيح ومثله الطرفاء والسلم والمرخ مع نوبية قحة في أسماء الساقية وما لم يكن في جزيرة العرب وتلك مباحث دسمة للباحثين من الشبان والشابات في المنطقة . والدلجة يعلوها قوز كان نادياً لسمر الشباب ومجمع مؤانسة وحكايات. وقريب من البشيراب غرباوي مسكن عماتي أم الحسن والزهراء تغشي قبورهن الرحمات وفي ود داوود أقرباْ موضع اعزازنا علي الدوام. وفي أقصي كوري كانت جزارة بابكُر وفي السدر خالنا طبيب القرية البلدي للناحية كلها يعقوب أحمد الريح وابنه حسن بارك الله في عمره . وخالنا يعقوب كان يقوم بمهمة ختان الصبيان وإزالة الريشة (بنت الودن ) في لهجة آهل الشام من الحلق والكي وهذا النوع من الطبابة وختان الصبيان وكان له متجر كذلك رحمه الله . وفي كوري دكان قمر الدين. وفي السدر أيضاً دكان ابن عمنا الفكي عزالدين وقد استقبل أول هاتف للناحية وكان قد سبقه عليه ابنه عبدالغفار الذي أصبح من أثرياء ووجهاء نيالا لاحقا، رحمه الله. وفي السدر أيضاً كان لمحمد بخيت حفظ الله متجراً في حي العامود . لا أعرف من كان التاجر والجزار في ساقية عرب عشماني ولنا فيه أقرباء , أبناء سليمان حفظ الله إبراهيم وعطا المنان والسر فآمهما آمنة بت حسن محمد عبدالرازق وهناك خالتنا بت ففرح وعثمان علي عشماني متع الله الأحياء منهم بالصحة وغفر للأموات .وذكرنا في موره الجزار عبدالله ود ادريس ونجله عطا السيد وقريبنا محمد ( تايابي). وفي الدكان دكان محمد أحمد نقاشي في التكر ودكان السيدة سِعْيدة بت خبير وهي والدة ابراهيم عبد الوهاب نقاشي وعلي الله بخيت وخالة صلاح طه رحهمهم الله جميعاً ولعلي رأيت للمرة الأولي هناك في متجرها نسوة يدخن!
أقول يشدني إلي هذه البقعة من كوري حب الخضرة التي يظللها النخل ومنظر النيل. وبعد نحو عشرين عاما أصبحت تلك الدور وأشجارها وحقولها في عمق النيل أو تمددت جزائراً ينتفع الناس بخيرها ولم يكن ذلك بفعل الفيضان ولكن بفعل الهدام هذه المرة! ألم أقل لكم ان للنيل غضبات وأن دوام الحال من المحال؟ لكن لعلنا نقول مع المتنبي في شأن الهدام وتلك الجزائر في كوري :
في طيه أسف في طيه نعم!
كذلك أحببنا طرف مورة حيث بلدة والدتي رحمها الله فقد كان بيتهم علي مرمي حجر من النيل وكان جل اللعب علي الضفاف وعلي رمال تسللت حتي بلغت الماء وأيام حصاد التمر تتجمع نسوة فضليات هن خالاتي: خادم الله وأم ألفين وأم سور ونعمة ونفيسي وبنت خالتي زينب والسعدية وطيبة وجاراتها بت الامين وبت حسين وبنات سعيد وفي الجوار محمود الدين وولاد علي. وعندما ينشغلن في جمع التمور يقفز محمد وجعفر وفيصل ( عبدالوهاب) وعلي حسين إلي النهر الهائج يسبحون ويتصايحون حتي يسترعي صياح الابتهاج الخالات فيحولقن ويرسلن التحذيرات من الغرق والتمساح ويلتمسن الحفظ والصون من الله ومن أوليائه الصالحين لا أذكر أني رأيت عبدالمجيد سابحاً بل أذكر أنسه الجميل علي القوز ينثر الدرر. كم كنت آنس بتلك البقعة وكم تثير في نفسي حتي اليوم كوامن ذكريات حبيبة أخال كل أولئك وقد انتقل جلهم إلي دار البقاء كانوا يملؤون ( الطرف) بالأنس الجميل ويشاركون خالاتي جمع التمور من تمرة الشطة وغيرها.
وفي أولي سواقي موره ساقيه موسي وهي قلعة مرتفعة أطلق عليها بعض شبابها ( قلعة الأشراف). مسكن خالتي أم الفين ( آمنة) وبها منزل خالي فتح الرحمن علي واخواته مسيكة وست الجيل. كان إذا جاء في الاجازة من عطبرة تجمعنا في دار حاج عبدالله نستأنس بأبنائه علي ، حسن ، محمد وعبدالرحمن.
كنا إذا وصلنا من السفر عن طريق الباخرة إلي مورة في محطتها القديمة وجدنا كل أولئك في استقبالنا بالدموع والعناق الحار!
إيه .. إيه.. كم زينت تلك اللوحات الرائعات وذاك الدفء الصادق الذي نحسه بمجرد رؤية أولئك أجمعين وجداننا فتفيض المشاعر وتنسكب الدموع. غادرنا تلك البقاع الطيبة قبل دخول المدرسة لم نذق حلاوة أن نصعد إلي مقعد (الأروتي) لحث الثورين علي المداومة علي الدوران لرفع الماء من ( الكوديق- بئر الماء عند حافة النيل )ولم نشهد درس القمح بعد حصاده بحوافر الحمير إلا مرة واحدة ومع ذلك أرتوت الروح وبلغت مدي الري من ذلك المعين العذب من الحياة السهلة البسيطة العامرة بالحب ! حقاً كل المادة تفني وتبقي الروح والمودة ما بقي البدن.
قدح زناد هذه الذكري الباقية ما تعرضنا له صبيحة ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ورمضان العام ١٤٤٤ هجرية يزمع الرحيل والناس تستشرف العيد السعيد ، أفراحه وبهجاته يغسلون بها أحزان عام مضي حصدت فيه الكرونا وغيرها أرواح أحبة وأصدقاء فإذا الأعداء يرمون العاصمة الحنينة بمدنها الثلاث بغارة سلاحها شواظ اللهب وزخات الرصاص بما لم تشهد مثيلاً له من قبل وبما لم يدر بخلدها علي بال فيضاعفون الأحزان فيأتون بما اني به التتار في بغداد قبل أكثر من ثمانية قرون يقود خطاهم الخائن ابن العلقمي وزير المستعصم يدلهم إلي المواطن الموجعة في جسد الخرطوم المنهك فجاسوا خلال الديار كالوحوش الكاسرة ينهبون ويغتصبون ويطلقون النار علي عزل أبرياء لم يروهم من قبل فقد جاءوا هم من الصحراء كالأعاصير الهوجاء لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا . تذكرنا الذي قلنا ربما تأسياً ونحن في جفن الردي وهو نائم بأن ذقنا طرفاً من الحياة الحلوة العذبة التي تستوجب الشكر فإن فارقتنا في تلك اللحظات فلا بآس لكن الله منحنا عمراً نرجو أن نستدرك فيه من عمل الخير عسي أن نلقي الله غداً بقلب سليم .
هذه كتابة جاءت عفو الخاطرأردت بها تثبيت صورة من حياة القرية التي عاشها جيلنا تلاشت بفعل الزمن .قلت لعلي بهذ السطور التاليات أظفر بطرف منها أبقت عليه الذاكرة العجوز لعل الأجيال اللاحقة تلم بجزء منه . والكتابة بهذه الصفة التي ذكرت تحاشت ذكر الأسماء إلا بمن عرفوا بأدوار وقتها في خدمة الناس جزاهم الله خيرا ولم تحفل بذكر من تجاوز عطاؤهم القرية إلي خدمة الوطن الفسيح وفيهم وزراء وقضاة وعسكريون وأفذاذ في سائر المهن لا يكاد يحصيهم العد بفضل الله فخشينا أن نغفل ذكر بعضهم فنقع في المحظور. ومع ذلك نعتذر إن سقطت بعض الأسماء ممن عنينا بذكرهم في خدمة الأهل في البلد والله من وراء القصد قصد .
---------------
جلست وصاحبي ذات صباح غشيه الصبا البارد يحمل البشريات، علي الربوة المشرفة في شموخ علي النهر العظيم نتناوب الحديث عن ذكريات مشتركة عشناها معاً ولما أكثرت من ذكر النيل وجماله وعذوبة مائه ومتعة الرحلات علي متن البواخر التي كانت علي أيامنا تمخر عبابه غدواً ورواحاً بين كرمة وكريمة، أطرق صاحبي هنيهة ثم رفع رأسه ليقول لي:
أعلم أنه قد يسوؤك أن تعلم أن هذا النيل العظيم الذي يفتَر وجهه عن تبسم في نقاء الفضة المذابة عند الظهيرة وفي الليل البهيم إذا أكتمل الهلال بدراً منيرا يتوسط كبد السماء و يبدد البهمة الحالكة ويظل علي تلك الحال البهية غالب شهور العام ،تعتريه سورة غضب عارمة كما تعترينا فيختل مزاجه مثلما تعتكر أمزجتنا نحن بنو آدم ، كيف ونحن من ماء كما هو ،فيتمعر وجهه الصبوح الطيب الحبيب ويصير إلي لون التراب الداكن ليتخفي بألوان بشرتنا ! فلا نسمع له ركزاً حين يتجاوز ضفتيه مخاتلاً في طبع اللئام فيهدم العمران الذي ابتنيناه ، 'حدائقاً كأنها بقية من ذي يزن ,الحب فيها سكر والماء شهد ولبن 'من عذوبة مائه ودوراً من بلله . يفعل ذلك مرة في كل بضع سنين فلا تسلم الدور ولا البساتين من غضبته المضرية تلك ولا سبيل أمامنا لنرد الغضبة بمثلها فنستسلم صاغرين نلملم أطرافنا ونلعق جراحاتنا بهدؤ وربما بكينا علي مدخرات ابتلعها في أحشائه . وتتفاوت ردود الأفعال من غدر الفيضان بين البكاء علي ما ضاع والعتاب الذي لا يبلغ حد السباب وكيف يسب التعيس مصدر حياته المادية والمعنوية وملعون عند الله من سب أبويه فكيف بمن يسب قطب الرحي ومصدر العيش في حياته؟ واستطرد يروي عن أبيه عن واحدة من تلك الغدرات الشهيرات كأنه ينصحني أن محبة النيل عندي يلزم أن تكون هوناً ما , لا علي اطلاق, قال:
في ليلة من ليالي أغسطس من عام ١٩٤٦ والناس من كد النهار نيام تسمع لهم غطيطاً،هجم النهر هجومه الكاسح علي امتداد ضفتيه ففعل بالناس الأفاعيل.
وفي منطقتنا قبل إلغاء الادارة الأهلية امتدت عمودية كوري من ساب قرية كوري ( طرفها القصي) إلي قرية النافعاب . وتلك رقعة تضم عدة أسماء لقري صغيرة وكبيرة وبين أهلها جميعا وشائج وأرحام فهذا عصبته في ساب كوري وأرحامه في أقصي حدود الساقية في النافعاب ومع ذلك يفعل التنافس بينهم والعصبية احيانا فعل الأعداء فيشتجر الخلاف علي تسمية المدرسة والطاحونة ونقطة الغيار ,كل يروم الرفعة لقريته بالتسمية وهكذا كل السودان ولعل ذلك من أسباب عثراته المزمنة. ولو أنهم تجاوزوا الصغائر وعقدوا العزم مجتمعين وشمروا السواعد لآحالوا الصحراء المتربصة بدورهم وبساتينهم ومزارعهم بل بالنيل العظيم مصدر رزقهم ,إلي جنان وارفات تفيض بالخير الوفير والخضرة الباذخة قبل أن يسبقهم إلي ذلك غيرهم !والأرض الخصبة في العالم تتناقص في كل يوم تشرق فيه الشمس.
درسنا الأستاذ ابراهيم ياسين أطال الله عمره , مادة التاريخ في الأميرية الوسطي في ودمدني وفي سياق ذلك جاء علي ذكر قريتهم )ودربيعة )في قلب الجزيرة الخضراء ,حيا مروجها البهية الحيا ، يحدث عن انقسام تعانيه بين مكوناتها القبلية وهي تباينات في اسم القبيلة لاتري بالعين ولا تعني علي التحقيق شيئاً فالناس قد تصاهروا واختلطت منذ أزمان بعيدة بحيث يستعصي التمييز بينهم بلون أو ملمح . قال لكنها مع ذلك منقسمة ! دعنا نقول وقتذاك ,ستينيات القرن العشرين لعل الله قد آخي بين الحيين، لعلهما الخوالدة والجعليين أو الكواهلة وربما العركيين لا أدري علي وجه الدقة، قال منقسمة كما مدينة برلين! وللشباب الذين ولدوا بعد العام ١٩٩١ أن يعلموا أن برلين عاصمة ألمانيا ظلت منقسمة طوال فترة الحرب الباردة كما كانت ألمانيا نفسها مقسمة لشيوعية تعرف بألمانيا الديمقراطية ورأسمالية ذات نظام تعددي أطلقت علي نفسها اسم ألمانيا الاتحادية التي اتخذت من بون تلك المدينة الصغيرة الوادعة علي نهر الراين عاصمة لها وقد كان التقسيم احد نتائج الحرب العالمية الثانية. ومثل الذي ذكرنا عن ودربيعة تجده في كل مكان في السودان . قص عليً صديق من شمال ولاية الجزيرة , وفي شمال الجزيرة تعيش في وئام ومنذ قرون قبائل متعددة أهمها المحس ورفاعة وربما مسلمية ,اختلفوا في تسمية مسجد القرية ولما اشتد الخلاف اقترح أحد المحس تسمية وسطي لا تحمل اسماً لاحدي القبيلتين وهي أن يسمي مسجد الخزرج .(والمحس ينتسبون لأنصار المدينة المنورة ومنهم الخزرج ولعله اعتقد أن ذلك ينطوي علي الاخرين فإذا بشيخ من آولئك ينقر الأرض بعصاه ( يازول الخزرج ديل لا تطراهم لي) !
وتقسيم الكبير وقلة الصبر علي انصهار أجزائه المتباينة علي نار هادئة عبر الزمن إلتماساً لتجانس عجل, لا يحقق الاستقرار كما يتوهم بعض الناس هذه الأيام بل يحي الانقسام بين المكونات الصغيرة الناتجة عن القسمة فتكبر وتصبح معتركاً لقتال قد يطول وجراحات يستعصي برؤها..تأمل ما كان من أمر الجنوب بعد عامين فقط من انفصاله في العام ٢٠١٣ من مجازر بين قبيلتين من النيليين، الدينكا والنوير ويقال إنهما كانتا رتقا انفتق ،أي قبيلة واحدة تمزقت!
نعود لعمودية كوري و تبدأ قراها في أقصي الغرب علي الضفة الشرقية لنهر النيل (ولأن النيل منحن تختلط الاتجاهات وتصبح جنوباً وشمالاً ولكن دعونا نقول إن أي مسافة تقصر المسافة نحو الحدود المصرية تعد شمالاً) بقرية كوري وهي قرية كبيرة تضم عددا من السواقي بها سوق ومدارس للبنين والبنات ومتعلمون ومتعلمات ومنها جاء العمدة سليمان جانقبة خلفه عليها ابنه إبراهيم وشيخها كان عبد الله أبوكروق خلفه عليها ابنه عليً .وناظر الخط كان السيد أحمد أبوشوك من قنتي وهو جد البروفسور أحمد والأستاذ إبراهيم أبوشوك ومأذونها كان عثمان القاضي خلفه عليها ابنه المأذون الحالي نجله عبد الله متعه الله بالصحة ولا تزال تحتضن خلوة اشتهرت في زمانها أسسها الأزهري/ أحمد عبدالعاطي الشهير بود يابو تخرج علي يديه كثيرون في المنطقة وحرص أحفاده عبدالغفار ومحمد علي المحافظة عليها حتي اليوم لكن تضاءل أثرها وخفت بريقها , فالناس هداهم الله قد انصرفوا عن حفظ القرآن بعد انتشار التعليم الحديث وليتهم جمعوا بين الاثنين.وتنتهي كورى القرية بساقية صبير لتبدأ ناحية السدر وتضم عددا من السواقي من ساقية (حب الله ) فالعلوياب فساقية جدي عبدالرازق فساقية الخليفة وتنتهي الناحية بساقية العرب .
قلت أنا متناولا زمام الحديث من صاحبي عند ذكر ساقية عبدالرزق :
تلك قريتنا مسقط رأسي ورأس أجدادي أحمد وطه وياسين .إبراهيم ومحمد وعماتي وفيها ساقية جدي عبدالرازق الذي ولد في حي القبة ، قبة جده حسن ود بليل في قرية الركابية وله أنقاض حوش يعرف حتي اليوم بحوش عبدالرازق .وكانت بالسدر خلوة لتحفيظ القرآن الكريم قد سبقت في الوجود خلوة الشيخ أحمد عبدالعاطي وخرَجت كثيرين في زمانها ثم انتهي وجودها بوفاة جدي أحمد عبدالرازق. وحفظ علي بديه اعمامي ابنعوف وعبدالرحيم وحفظت عمتي بخيتة آجزاء من القران خمساً وهي جدة البروفسور أحمد خالد بابكر وشقيقه الأستاذ محمد لأمهما . وتلي السدر في اتجاه الشرق قرية موره وتضم قري في جوفها تبدأ بساقية موسي وتليها ساقية وديحي ثم ساقية ودعلي وتسمه هذه المنطقة بالرف فيه في طرف القريم الكبيرة مورة وقد كانت بالفعل قرية كبيرة ، محطة للبواخر النيلية تناوب علي نظارتها الشيخ عبداللطيف وعلي سعيد حفظ الله وكانت ذات سوق معروفة في المنطقة ومنها مشاهير يمنعنا حرج ذكر البعض دون البعض من إيراد الأسما ء ونكتفي بمن كانت لهم وظائف رسمية واجتماعية في القرية. و في أقصي شرقها قرية الركابية موطن أجدادي شيوخ الركابية عدا سراج أب حامدية ,حسن ود بليل وحاج عيسي فلا تزال قبابهم تقف شامخة أما سراج فهو إلي السدر أقرب لا تعلو قبره بناية بل تنتشر عنده قبور الموتي .
وقد جاء ذكر موره في رائعة اسماعيل حسن (يا حليلك يابلدنا ) التي يغنيها أحمد فرح :
ود بليل في موره معروف.
وفي موره خلوة عظيمة هي خلوة الشيخ أحمد صالح فضل ساهمت بقدر واف في تحفيظ القرآن ونشر العلم الشرعي ومحو الأمية.
ومن مشاهيرقرية الركابية نفر منهم الشيخ العالم حاج ماجد حاج موسي والحسين حاج موسي. والصايم حاج موسي . ولا بد لي من الترحم هنا علي خالتي فاطمة بت خُضر، زوجة عمنا بليل فقد تميزت في ذلك الوقت بأنها كانت تكتب وتقرأ وتحفظ شيئا من القرآن الكريم وكان ذلك نادرا بين النساء وهي شقيقة خالنا عبد الوهاب ود خُضر ووالدة سيد وعثمان بليل ولعلي ذكرت آنفاً عمتي بخيتة لذات السبب ولعل القابلة القانونية الوحيدة في سائر العمؤدية السيدة عزاز في كوري كانت هي الأخري قارئة.
كانت موره قرية عامرة بأهلها وبها مدرسة أولية كان ناظرها جعفر ابن العمدة سليمان جانقبة ولعل الشيخ عبد الحليم سوار من اللركي في عمودية جلاس والد أقربائي السفير عبد المحمود واخوانه الدكتور عبدالرحيم ومحمد الكامل وفي سوقها تتردد أسماء تجار عرفوا : مكي عبدالله وود شبو، ود قدورة ود العميوقة وأبوزيد النقي و يفد إليها في الأيام المخصصة (السبت والثلاثاء) للسوق من كوري حاج قمر الدين ومن السدر ابن عمنا محمد شريف والريح يعقوب وهؤلاء علي سبيل المثال لا الحصر وفي ساحة السوق نسوة يبعن القاعون والمقاد والترمس وفواكه الموسم ورغيف العيش الذي لم يكن سيد المائدة يومئذ.
وفي أقصي حد الساقية المتاخم لعمودية جلاس ، قرية النافعاب ومن مشاهيرها المبارك شيخ الزار المذكور في أغنية القمر بوبا .وتلزمني قيم العرفان أن أذكر بالخير أستاذنا في ثانوية مدني علي دبلوك .ولنا آصرة مصاهرة مع آل دبلوك وقرابة عبر بنت عمتنا بت قريش والدة السيد حمد دبلوك.
ولعل الدور كلها كانت في كنف وحماية النيل تستظل بغابات النخيل الكثيفة التي تسمع لها دوياً كدوي الرعد في موسم الفيضان أو تنوح باكية كما تلك التي يوم أن غمرت أرض النوبة مياه السد العالي فيما صاغه شعرا سليمان عبدالجليل وتغني به حمد الريح فخالها سليمان تبكي علي الراحلين إلي البطانة :
يا حليل الراحو وخلو الريح تنوح فوق النخل!
تري من الذي ناح؟ الريح أم النخل الحزين!
نعم استجمت سائر القرى واستعصمت بالنيل :الدور والمسجد والخلاوي. قال لي حاج ماجد رحمه الله كنا نسمع صوت المؤذن سليمان حمد عنان من جامع موره هناك في الركابية علي بعد فراسخ ينادي لصلاة الصبح. والصدي تحت ظلال النخيل أكثر ما يميز تلك الأيام. قلنا استعصموا بضفة النيل ومن مأمنه يؤتى الحذر! ألم يستعصم حكامنا بهذه المليشيات لحماية الأرض والعرض فكانت هي العدو الذي نحاذر منه؟
قال الفيضان بلسان الحال ( لا عاصم اليوم من أمر الله)!
تهاوت بيوت الطين القديمي وأصبحت أثرا بعد عين فلجأ الناس إلي الصحراء بعيدا يبنون الدور يخشون فجاءات النيل وغدراته في مقبل أيامهم.
سكبت إمرأة من موره أحزانها في ابيات من الرجز:
حليل موره حليل عمارا
حليل عبدالله جزارا
وحليل كيمان المرارة
وعلي ذكر عبدالله جزارا فهو عبدالله ود ادريس وفي المغرب العربي الجزارة هي القصابة والجزار هو القصاب وهي فصيحة وقد خلف عبد الله نجله عطا السيد وفي كوري بابكر وعمنا محمد عبد المجيد وفي السدر بن خالنا حسن يعقوب .
وبكت الشاعرة فاطنة بت ود خير في مقاشي ضمن ما ذهبت به مياه ذلك الفيضان:
بكيت بصيلاتي الغلاد في القيروانة!
بكاياً ما بكيتي علي الوالدانا
( بصلات كبيرة في صفيحة لا يعلو سقفها عود.)
وبكي شاعر الكرو سليمان ود حمد فيما رواه عنه شاعرنا محمد سعيد دفع الله قصيدة معبرة كأن وقائعها من تصوير ( كاميرا) حسنة:
مالك الساموري كاجر
ما بتوقع وضرب أشتر
وللعرايس حكم كجر
وديك يكوركو انكسر الجسر!
ومع ذلك جاءت الأبيات كالمعاتبة لا المغاضبة إذ أسند فجيعة الفيضان المدمرة لفساد الناس وضياع الذمم.
ونجيب عن تساؤل مواطننا محمد المهدي مجذوب في قصيدة المولد:
أيكون الخير في الشر انطوي
والقوي خرجت من ذرة هي حبلي بالعدم ؟!
نجيب بأن نعم! وكل ضارة ربما حملت في أحشائها الخير العميم وقد جاء في التنزيل ( وعسي أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيراً.) النساء ١٩. ففي تلك العاصفة ولد أفذاذ كثر في شتي المجالات سعدت بهم أسر وعشائر وأوطان لا يحصيهم العد في بلدنا وفي غيرها من البلدات الواقعة علي النيل لم يضرهم أن ميلادهم كان في تلك الليلة الحزينة بل قرنوه بها فقالوا فلان وفلانة ولدوا سنة التساب! وما التساب سوي هذا الفيضان في لغة النوبة ،فكتبت للمتميزين منهم الخلود بما صنعوا وكتب الخلود كذلك لسنة التساب. وسأخص من أولئك ابن خالتي الدكتور عبد المجيد محمد كمبال الذي رحل بهدؤ لا يشبه صخب تلك الليلة من ليال التساب لأن المنية وافته في أيام نحسات أشعلت فيها القوي الباغية هذه الحرب اللعينة علي السودان في منتصف أبريل من هذا العام 2023 للميلاد. وكان الشاعر الجاهلي الحكيم زهير ابن أبي سلمي قد حدثنا عن أحوالها و أهوالها قبل أكثرمن ألفي عام خلت:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم
وما هو عنها بالحديث المرجم
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة
وتضْرَ إذا ضريتموها فتضرمِ
فتَعرُككم عرك الرحى بثقالها
وتلقح كشافا ثمّ تُنتجُ فتتئمِ
نعم لم يتسع صدر العاصمة الخرطوم الحانية لموقع يقام فيه سرادق للعزاء والعهد بها من قديم أن كانت مثابة لكل من رام في عرصاتها الإقامة والأمان. وكما قال ود حد الزين:
حتي الطير يجيها جعان
ومن أطراف تقيها شبع
وعن ناسها قال:
يبدلوا الغير علي ذاتن
ويقسموا اللقمة بيناتنا.
حلاة ناساً بل السكر!
وفي غزوة أحد استشهد عم النبي الأعظم وأخوه في الرضاعة حمزة بن عبدالمطلب ضمن سبعين شهيدا فانطلقت نساء الأنصار يبكين علي قتلاهن كما تفعل نساؤنا اليوم، فأحزن ذلك النبي فقال وأسي الغربة يعتصر دواخله وما أقسي موت الاحبة علي ذويه وهم في الغربة بعيدا عن الأوطان: ( وحمزة لا بواكي له) . قال أصحاب السير أن نسوة من نساء الأنصار نحن عليه.فقد كان المهاجرون قلة قليلة في المدينة في العام الثاني للهجرة .
لكننا بكينا بدواخلنا فجيعة فقدان الدكتور النابه الذي جاء الأول علي السودان في امتحانات الدخول للجامعة بداية ستينيات القرن العشرين فشرفنا أيما تشريف. وتنزلق الذاكرة لنابه مثله لعله ولد في تلك الليلة ،بعدها بقليل أو قبلها هو الدكتور الناصر عبدالله أبو كروق، ابن شيخ العمودية وقتذاك وقد سبقه عليها جدنا طه ود عبدالرازق وهو عم والدي وجد والدتي لأمها خلفه عليها ابنه علي. بارك الله في عمر الناصر ونفع به ، ففيه وفي عبدالمجيد تواضع جم ولين عريكة وتربط الناصر بالطرف وشيجة رحم مع آل سعيد نقاشي. كلاهما يتحدثان لهجة الإمالات كأنهما لم يغادرا البلد قيد أنملة ,تحس في حديثهما أصالة وحميمية وحسن طوية.
أم عبدالمجيد وأمي بنات عم ضمهما حي الطرف في موره. سألت عبدالمجيد في صباي عن أي ملوك يتحدثن مفتخرات فقد كان عمهما وولي أمرهما محمد الشيخ ينادي بالملك . وقد كان هذا الملك كفيلهما وولي أمرهما فقد نشأتا يتيمتين في كنفه. وعن الملوك قال لي: هم ملوك الدفار في جقنارتي وقنتي . من هناك جاءت عشيرة الملوك من نسل موسا لعله آخر ملوكهم.سمعت خالتي خادم الله تقول بإعتزاز إنها موسابية وبديرية دهمشية. تخرج عبدالمجيد طبيبا في الجامعة وأرسل ليعمل طبيبا في مستشفي مروي. وجاء مرة بالمركب النهري (المخصوص )يشق عباب النيل لطارئ في البلد فكان ذلك حدثاً يروي لسنوات فقد كان المخصوص الذي تضيئه الثريات من مظاهر المدنية القليلة في تلك البقاع وفي ذلك الزمان . كان ذلك قبل ابتعاثه لبريطانيا للتخصص ليعود للعمل في جامعة الملك سعود حتي تقاعده قبل سنوات.
يسوقني الخيال وحده بشهادة ما رأيت وأنا يافع في بداية النصف الثاني من عقد الخمسينيات. إلي الزعم الذي لا يبلغ عندي حد اليقين أن فيضان ١٩٤٦ الذي ولدت بعده بسنوات عدة , قد أبقي علي بعض الدور تحت ظلال النخل قريبا من النهر في البشيراب في كوري حيث خؤولة والدي رحمه الله فكانت شبيهة بقرية( البركل تحت) اليوم تستريح وتنعم تحت ظلال هذه الشجرة العجيبة التي اختارها بعضنا لتكون عمة له و للبشر أجمعين. تركها أقول لنعتبر بالحكمة من زوال النعم ودوامها ولله في الخلق شؤون.
وفي موره أجتوي النيل القرية بكاملها إلي تخوم الصحراء التي تفترس ما بقي من عمارها اليوم في عموم (التكر)بكل قسوة فأصبحت جل القرية التي كانت عامرة بأهلها تنبض بالحركة والحياة، تلالا من الرمال الحمراء.
والاجتواء جاء به البروفسور عبدالله الطيب في نقده لقصيدة التجاني:
يا درة حفها النيل واحتواها البر.
قال كيف يحتويها وقد لفظها البر بعيدا فظلت قابعة في وسط البحر؟ والبحر يصح أن يطلق علي النهر! قال ,لعله أراد أجتواها من الجوي.أي كره مقامها عنده فلفظها.
غلب في ظنى إذن أن بقيت الطرف قريبة من النيل وليست تحت ظلال نخيله.
أما السدر مسقط رأس جدي وأبي وأعمامي عليهم جميعاً أوسع الرحمات ،فكانت بادئ ذي بدء كسائر القري تتفيأ الظلال تكسوها الخضرة حتي أطلقوا عليها كما أبلغني عمي عبدالرازق ( كوع الجنة). ولعل معركتها مع الفيضان قد سبقت غضبته تلك بأعوام سابقات فألفيناها جرداء قاحلة إلا من بعض أشجار السدر الذي سميت به وكثير من أشجار الدوم. كان الشامتون في سياق الحزازات المناطقية، يستشهدون بما لحقها من ضر , بما قصه القرآن الكريم عن منطقة سد مأرب في اليمن: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16).
لكن الحال تبدل شيئا ما و النخل سمقت سيقانه فجمع السدر بين رمال ونخيل في لوحة لم تكتمل بعد ولكنها مبشرة ولله الحمد والمنة ( والعافية درجات). يقول الأشقاء في شمال الوادي للتأسي والبقاء في حواف الأمل والرجاء بعيدا عن جوار القنوط ، ( شدة وتزول!) وقد بدأت في الزوال ككل عسر يعقبه اليسر!
كنت قبل سني الطلب وقبل أن تبتلعنا البنادر باكراً ,أسعد كثيرا في البشيراب التي وصفت آنفاً مع ابن عمتي علي عثمان عبدالمجيد ودارهم كانت فسيحة بها نخلات عظيمة وبجوارهم ( مترة) وفي جوارهم من الناحية الغربية حوش عمر شمعون ومن الناحية الشرقية بقية أعمامي من العائلة المجيدية محمد وأحمد أبناء خال والدي عليهم جميعا تتقاطر رحمات ربي سبحانه وأبناؤهم عبداللطيف وعبدالمجيد وعبدالحليم وعبدالله وخضر وسليمان. وعبدالفتاح وعبدالرحمن . وكان لعمنا أحمد عبد المجيد جنينة سمقت فيها أشجار البان .بعد ذلك دكان ود محمد موسي وخيل إليً أن أباه موسي كان رجلاً طوالا فاتح اللون في لون ابنه إبراهيم. وأمام الدكان كنت تجد الجمال جاثية وحولها جوالات السكر والقمح والفول. وكانت دكاكين ذلك الزمان معتقة برائحة الشاي (الحب ) أي السائب ولم يكن شاي الأكياس الصغيرة قد أطل برأسه بعد . والسكر كان يصب في قالب مخروطي ويكون صلداً يكسر بمقلام الحديد (البلنجة) وشكله تماماً علي هيئة جبل في (ريودي جانيرو) في البرازيل يسمي (جبل السكر) وكان مفضلا علي السكر السائب وقد غني أحدهم يمدح محبوبته مشبهاً إياها بهذا النوع من السكر (سكر حجري ما هو بغيتة ) ولعل البغيتة من (باكت) الانقليزية وتعني لفافة أو كيس . في تلك المتاجر يباع التنباك و البسكويت وله مذاق يشئ بقدمه بل وفساده وربما عدم صلاحيته للأكل في زمان صعبت فيه وسائل النقل السريع وكان لذلك تبعات ليس من العدل أن تحمل جرائرها متاجر ذلك الزمان التي لعبت بلا جدال أدواراً عظيمة في خدمة الناس وتبادل الأخبار. ما أبسط الحياة في ذلك الزمان فقد كانت تقوم علي أساسيات العيش بلا تذويق ولا رتوش ومع ذلك كانت الناس سعيدة راضية. وخلف الحي في البشيراب جزارة عمنا محمد ودكان عبدالمحسن قبل انتقاله إلي ساقية القاضي في المنقولة ثم ساحة طينية التربة شديدة السواد تسمي (الدلجة) الدلجة من فصيح العربية ومعناها الليل أو بعضه . جاء في خطبة زياد البتراء " ألم يكن منكم نهاة تمنع الغواة دلج الليل وغارة النهار؟ " وتعجب كيف تعايش هذا الفصيح ومثله الطرفاء والسلم والمرخ مع نوبية قحة في أسماء الساقية وما لم يكن في جزيرة العرب وتلك مباحث دسمة للباحثين من الشبان والشابات في المنطقة . والدلجة يعلوها قوز كان نادياً لسمر الشباب ومجمع مؤانسة وحكايات. وقريب من البشيراب غرباوي مسكن عماتي أم الحسن والزهراء تغشي قبورهن الرحمات وفي ود داوود أقرباْ موضع اعزازنا علي الدوام. وفي أقصي كوري كانت جزارة بابكُر وفي السدر خالنا طبيب القرية البلدي للناحية كلها يعقوب أحمد الريح وابنه حسن بارك الله في عمره . وخالنا يعقوب كان يقوم بمهمة ختان الصبيان وإزالة الريشة (بنت الودن ) في لهجة آهل الشام من الحلق والكي وهذا النوع من الطبابة وختان الصبيان وكان له متجر كذلك رحمه الله . وفي كوري دكان قمر الدين. وفي السدر أيضاً دكان ابن عمنا الفكي عزالدين وقد استقبل أول هاتف للناحية وكان قد سبقه عليه ابنه عبدالغفار الذي أصبح من أثرياء ووجهاء نيالا لاحقا، رحمه الله. وفي السدر أيضاً كان لمحمد بخيت حفظ الله متجراً في حي العامود . لا أعرف من كان التاجر والجزار في ساقية عرب عشماني ولنا فيه أقرباء , أبناء سليمان حفظ الله إبراهيم وعطا المنان والسر فآمهما آمنة بت حسن محمد عبدالرازق وهناك خالتنا بت ففرح وعثمان علي عشماني متع الله الأحياء منهم بالصحة وغفر للأموات .وذكرنا في موره الجزار عبدالله ود ادريس ونجله عطا السيد وقريبنا محمد ( تايابي). وفي الدكان دكان محمد أحمد نقاشي في التكر ودكان السيدة سِعْيدة بت خبير وهي والدة ابراهيم عبد الوهاب نقاشي وعلي الله بخيت وخالة صلاح طه رحهمهم الله جميعاً ولعلي رأيت للمرة الأولي هناك في متجرها نسوة يدخن!
أقول يشدني إلي هذه البقعة من كوري حب الخضرة التي يظللها النخل ومنظر النيل. وبعد نحو عشرين عاما أصبحت تلك الدور وأشجارها وحقولها في عمق النيل أو تمددت جزائراً ينتفع الناس بخيرها ولم يكن ذلك بفعل الفيضان ولكن بفعل الهدام هذه المرة! ألم أقل لكم ان للنيل غضبات وأن دوام الحال من المحال؟ لكن لعلنا نقول مع المتنبي في شأن الهدام وتلك الجزائر في كوري :
في طيه أسف في طيه نعم!
كذلك أحببنا طرف مورة حيث بلدة والدتي رحمها الله فقد كان بيتهم علي مرمي حجر من النيل وكان جل اللعب علي الضفاف وعلي رمال تسللت حتي بلغت الماء وأيام حصاد التمر تتجمع نسوة فضليات هن خالاتي: خادم الله وأم ألفين وأم سور ونعمة ونفيسي وبنت خالتي زينب والسعدية وطيبة وجاراتها بت الامين وبت حسين وبنات سعيد وفي الجوار محمود الدين وولاد علي. وعندما ينشغلن في جمع التمور يقفز محمد وجعفر وفيصل ( عبدالوهاب) وعلي حسين إلي النهر الهائج يسبحون ويتصايحون حتي يسترعي صياح الابتهاج الخالات فيحولقن ويرسلن التحذيرات من الغرق والتمساح ويلتمسن الحفظ والصون من الله ومن أوليائه الصالحين لا أذكر أني رأيت عبدالمجيد سابحاً بل أذكر أنسه الجميل علي القوز ينثر الدرر. كم كنت آنس بتلك البقعة وكم تثير في نفسي حتي اليوم كوامن ذكريات حبيبة أخال كل أولئك وقد انتقل جلهم إلي دار البقاء كانوا يملؤون ( الطرف) بالأنس الجميل ويشاركون خالاتي جمع التمور من تمرة الشطة وغيرها.
وفي أولي سواقي موره ساقيه موسي وهي قلعة مرتفعة أطلق عليها بعض شبابها ( قلعة الأشراف). مسكن خالتي أم الفين ( آمنة) وبها منزل خالي فتح الرحمن علي واخواته مسيكة وست الجيل. كان إذا جاء في الاجازة من عطبرة تجمعنا في دار حاج عبدالله نستأنس بأبنائه علي ، حسن ، محمد وعبدالرحمن.
كنا إذا وصلنا من السفر عن طريق الباخرة إلي مورة في محطتها القديمة وجدنا كل أولئك في استقبالنا بالدموع والعناق الحار!
إيه .. إيه.. كم زينت تلك اللوحات الرائعات وذاك الدفء الصادق الذي نحسه بمجرد رؤية أولئك أجمعين وجداننا فتفيض المشاعر وتنسكب الدموع. غادرنا تلك البقاع الطيبة قبل دخول المدرسة لم نذق حلاوة أن نصعد إلي مقعد (الأروتي) لحث الثورين علي المداومة علي الدوران لرفع الماء من ( الكوديق- بئر الماء عند حافة النيل )ولم نشهد درس القمح بعد حصاده بحوافر الحمير إلا مرة واحدة ومع ذلك أرتوت الروح وبلغت مدي الري من ذلك المعين العذب من الحياة السهلة البسيطة العامرة بالحب ! حقاً كل المادة تفني وتبقي الروح والمودة ما بقي البدن.
قدح زناد هذه الذكري الباقية ما تعرضنا له صبيحة ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ورمضان العام ١٤٤٤ هجرية يزمع الرحيل والناس تستشرف العيد السعيد ، أفراحه وبهجاته يغسلون بها أحزان عام مضي حصدت فيه الكرونا وغيرها أرواح أحبة وأصدقاء فإذا الأعداء يرمون العاصمة الحنينة بمدنها الثلاث بغارة سلاحها شواظ اللهب وزخات الرصاص بما لم تشهد مثيلاً له من قبل وبما لم يدر بخلدها علي بال فيضاعفون الأحزان فيأتون بما اني به التتار في بغداد قبل أكثر من ثمانية قرون يقود خطاهم الخائن ابن العلقمي وزير المستعصم يدلهم إلي المواطن الموجعة في جسد الخرطوم المنهك فجاسوا خلال الديار كالوحوش الكاسرة ينهبون ويغتصبون ويطلقون النار علي عزل أبرياء لم يروهم من قبل فقد جاءوا هم من الصحراء كالأعاصير الهوجاء لا يعرفون معروفا ولا ينكرون منكرا . تذكرنا الذي قلنا ربما تأسياً ونحن في جفن الردي وهو نائم بأن ذقنا طرفاً من الحياة الحلوة العذبة التي تستوجب الشكر فإن فارقتنا في تلك اللحظات فلا بآس لكن الله منحنا عمراً نرجو أن نستدرك فيه من عمل الخير عسي أن نلقي الله غداً بقلب سليم .